لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > منتدى الكتب > كتب المسرح والدراسات المسرحية
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

كتب المسرح والدراسات المسرحية كتب المسرح العربي - كتب المسرح العالمي - دراسات مسرحية


نبيل الحفار , برتولت بريشت لمحة موجزة عن حياته وأعماله , موضوع مقالي

برتولت بريشت لمحة موجزة عن حياته وأعماله- د.نبيل الحفار بريشت، ذلك العالَمُ الغنيُّ، المكتملُ في ذاته، والمنفتحُ في الوقت نفسه على جميع البحار والتيارات المحيطة به، يستقبل منها ما

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-08-09, 02:41 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 11622
المشاركات: 1,113
الجنس ذكر
معدل التقييم: معرفتي عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 13

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معرفتي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
Thanks نبيل الحفار , برتولت بريشت لمحة موجزة عن حياته وأعماله , موضوع مقالي

 

برتولت بريشت لمحة موجزة عن حياته وأعماله- د.نبيل الحفار

بريشت، ذلك العالَمُ الغنيُّ، المكتملُ في ذاته، والمنفتحُ في الوقت نفسه على جميع البحار والتيارات المحيطة به، يستقبل منها ما يلائمه ويفيده، ويلفظ ما يعكّرُ نقاءه أو ما يؤثر في فعاليته المتنامية.‏

بريشت، العبقري السهل الممتنع، ابن هذا القرن المضطرب بالتناقضات التناحرية والصراعات المصيرية، عصر الحروب والثورات، عصر العلم والعقل.‏

من هو برتولت بريشت؟ كيف عاش، وما مدى مشاركته وتأثيره في عصره؟‏

فلنبدأ بقصيدة له:‏

«أسئلة عاملٍ يقرأ...»‏

من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟‏

في الكتب لا أجد سوى أسماء الملوك،‏

هل حمل الملوك أحجار البناء على ظهورهم؟‏

وبابل التي دُمِّرت مراتٍ ومرات‏

من كان يعيد بناءَها دائماً؟‏

وفي أية بيوت طينية كان يسكن البناؤون؟‏

وأين ذهب العمالُ عشية الانتهاء من بناء سور الصين؟‏

روما العظيمة‏

مليئة بأقواس النصر.‏

من الذي شيدها؟‏

وعلى من انتصر القياصرة؟‏

وبيزنطة التي تغنّى بمجدها المنشدون‏

هل كان جميع سكانها يعيشون في القصور؟‏

وليلة ابتلع المحيط‏

قارة أطلنطا الأسطورية‏

ألم يصرخ الغرقى‏

مستنجدين بعبيدِهم؟‏

***‏

لقد فتح الإسكندرُ الشاب الهند،‏

هل كان وحده؟‏

وهزم قيصر جيوش بلاد الغال،‏

ألم يكن معه ولو طاهٍ واحد؟‏

وفيليب ملك إسبانيا‏

بكى عندما غرق أسطوله‏

ترى، ألم يبك أحدٌ سواه؟‏

وفي حرب الأعوام السبعة انتصر فريدريش الثاني‏

من انتصر معه؟‏

كل صفحة تطالعني بنصرٍ جديد،‏

فمن الذي أعد مأدبة النصر؟‏

وكل عشر سنوات يظهر رجل عظيم،‏

فمن كان يتحمل مصاريفه؟‏

أخبار كثيرة...‏

وأسئلة كثيرة‏

إن هذه القصيدة وكثيرات غيرها لدى بريشت تدفع القارئ أو المستمع لتشغيل عقله، لطرح المزيد من الأسئلة، وللبحث المستمر عن أجوبة مقنعة لها. وفي قصيدة أخرى نقرأ البيت التالي:‏

«ليس من المستحيل تعلُّمُ ما هو مفيد».‏

لقد قضى بريشت معظم سنوات حياته مطبقاً حكمته هذه؛ مَجَّد التعلم لدرجة التقديس، ولم يدع مناسبة تمرُّ إلا وحضَّ عليه، سواء في شعره أو مسرحياته أو أحاديثه. كما بذل كل ما بوسعه لوضع فنه في خدمة الطبقة العاملة، أي لجعله مفيداً... ومحرضاً لها في الوقت نفسه على تغيير أوضاعها القائمة في ظل سيطرة الرأسمالية. وكان يتعلم منها.. ولأجلها. وفي سبيل تحريرها وانعتاقها كتب بريشت أعماله المختلفة، وخاض معترك الحياة السياسية في جميع المجالات.‏

كل هذا وبريشت ينحدر أصلاً من عائلة برجوازية كبيرة. فوالده كان مديراً عاماً لمعامل الورق في مدينة أوغسبورغ في منطقة بافاريا. وكان الجو العام لحياة هذه العائلة المرفهة يُوحي بأن كل شيء سيسير على ما يرم، أي حسب تخطيط الوالدين. لكن ما نجح من هذه الخطط مع أخيه الأصغر (فالتر) لم ينجح مع بريشت الذي توضحت طبيعته الثائرة المشاكسة الغريبة منذ صغره. صحيح أنه التحق كغيره بالمدرسة الابتدائية متدرجاً حتى الثانوية، لكنه لم يصرف وقته كبقية التلاميذ. فقد كان منذ صغره يهتم بمسرح العرائس ويلاحق الفرق التي تزور المدينة من مسرح إلى مسرح، ثم يعود ليبتكر قصصاً مسرحية جديدة يخرجها مع رفاقه في بيت أهله أو في الحقول. وغالباً ما كان يلاحق المغنين والشعراء الجوالين في شوارع أوغسبورغ، أو يغرق لأيام متتالية في مطالعة الكتب ودواوين الشعر الألماني والمترجم. وفي 1913 ولم يكن بريشت قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره بعد، نشرت له صحيفة الطلبة «الحصار» أولى قصائده. وفي العام التالي مباشرة نشرت له الصحيفة المحلية «أحدث أخبار أوغسبورغ» قصائد جديدة لفتت الأنظار إليه.‏

كان بريشت لا يزال تلميذاً عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى التي كان لها أكبر الأثر في تطوره الأدبي والفكري. ففي البدء كانت ردود أفعاله واستجابته للحرب إيجابية كمعظم أبناء جيله. لكن نبرة أشعاره ومواضيعها بدأت تتغير وتختلف اختلافاً جذرياً منذ 1916، وكاد أن يفصل من المدرسة بسببها وبسبب موضوع صرَّح فيه بعدائه للحرب ووصفها بالهمجية المقصودة، ولولا تدخل أحد المدرسين وتفسير الأمر على أنه اضطراب عقلي أصاب المراهق من جوِّ الحرب لاتخذت الإدارة بحقه إجراءات تأديبية قاسية. وبعد هذه الحادثة بشهور نشر له الملحق الأدبي المحلي «القاص» أولى محاولاته القصصية. وفي تلك الفترة وفيما بعد أيضاً، كان بريشت يقرأ أشعاره في حلقات أصدقائه ومعارفه وهو يعزف على الغيتار الألحان التي وضعها لها بنفسه.‏

وفي عام 1918 اضطر بريشت لقطع دراسته للطب في ميونيخ للالتحاق بالخدمة العسكرية كممرض في أحد مشافي آوغسبورغ، حيث كان يرى يومياً في قاعات وممرات المشفى عذابات الجرحي ومشوهي الحرب وبؤسهم. وكان لهذا كلِّه أبلغ الأثر في نفسه، مما جعله يتخذ موقفاً مناهضاً للحرب، وبشكل علني، فبدأ يعزف الغيتار، ويتلو قصائده وقصائد غيره على الجرحى كاشفاً بها الأهداف الحقيقية للحرب كصفقة لصالح الأغنياء وأصحاب الصناعات الحربية. لكنه لم ينطلق آنذاك من موقف سياسي واضح، بل كان ذلك احتجاجاً من شاعرٍ واع ومرهف على الظلم والبؤس المحيطَين به. وأبلغ دليل على ذلك هو قصيدته الشهيرة «أسطورة الجندي الميت» الذي لم يعجب القيصر موته المبكر فيأمر بإخراجه من قبره ليساق إلى الجبهة من جديد، ليموت ثانية ميتة الأبطال في سبيل القيصر والوطن.‏

تندلع ثورة أوكتوبر الاشتراكية، ويمتد تأثيرها حتى أوغسبورغ؛ حيث يلاحظ بريشت تغيرات بشرية ووجوهاً غريبة تحلُّ على مدينته، ثم تندلع الثورة الاشتراكية الألمانية 1918 وتجتاح معظم مدن ألمانيا، لكن السلطة تسارع إلى إخمادها بالعنف المسلح. ولن يُمحى من ذاكرة بريشت ما رآه وعاشه خلال تلك الأيام القاسية، ولسوف نجد صداه في معظم أعماله فيما بعد.‏

بعد عودة الأمور إلى نصابها حسب مفهوم السلطة، يعود بريشت إلى ميونيخ لمتابعة دراسة الطب فاقداً كل الاهتمام بهذا الفرع، ومهزوزاً متأزماً نتيجة الصدمة التي خلفتها في نفسه نهاية الحرب والثورة، فيبدأ البحث في اتجاه آخر ويأخذ بالتغيب عن محاضرات الطب والاشتراك في حلقات البحث المسرحي، كما أخذ يتعمق في قراءاته الشعرية والمسرحية باحثاً عن لغة جديدة تصلح كوسيلة لإيصال ما يعتمل في نفسه. وكان مثله الأدبي الأعلى آنذاك، المسرحي الثوري الألماني جيورج بوشنر والمسرحي الشاعر فرانك فيدكيند الذي مات خلال فترة الحرب، وشارك بريشت في دفنه، كما أقام له مع أصدقائه حفل تأبين خاصاً. في تلك الفترة كتب بريشت المخطوطة الأولى لمسرحية «بعل». لقد نظر الطالب بريشت إلى المجتمع البرجوازي من حوله، ولم تعد تعجبه قيمه وتقاليده وأحكامه، فقاده عدم الرضا هذا إلى الاحتجاج، لكنه وبحكم قصوره السياسي آنذاك لم يجد بديلاً لهذا المجتمع إلا في طبقة (البروليتاريا الرثة) التي أعجبه فيها نمط وأسلوبها حياتها الذي اعتقد أنه يمثل الحياة الحقيقية المنطلقة والمتحررة من أية قيود. والشاعر بعل الذي يمثل هذه الطبقة في المسرحية يشعر بحنين جامح إلى الحياة، وما يهمه بالدرجة الأولى هو أن يأكل ويشرب ويمارس الجنس، وأن ينظم الشعر. إنه يريد أن يعيش حياة حرة دون قيود أو تحفظات ودون أحكام مسبقة. صحيح أن بريشت يقدم هنا صورة أخلاقية أحادية الجانب، عن رجل عاش حقاً، لكنه حاول ـ كما عاد 1954 ليقول عن هذه المسرحية ـ حاول أن يضع أنا الشاعر الفرد تجاه جميع ما يقترفه العالم بحقه وما يسببه له من إحباطات وخيبات، تجاه عالم لا يقبل بإنتاج هدفه الصالح العام، بل مدى قابلية هذا الإنتاج للاستغلال التجاري. إن «بعلاً» يحاول حماية نفسه، أي مواهبه وقدراته من الهدر في مجتمع رأسمالي لا أخلاقي ولا يعترف بمثل هذه القيم.‏

وفي هذه المسرحية برزت عبقرية بريشت اللغوية، وقدرته غير العادية على التصوير والمعالجة، وعلى الاستفادة المبدعة من الروح الشعبية لدى بسطاء الناس. وكان هذا شيئاً جديداً كلياً على المسرح الألماني. ففي العرض الذي قدم في /8/12/1923 في مسرح مدينة لايبزيغ، انقسم الجمهور على نفسه وساد الصالة جوٌّ من الحماسة من طرف والمعارضة من الطرف الآخر، لدرجة أن كاد يتحول الحوار بين الطرفين إلى شجارٍ حقيقي.‏

وبين عام 1919 و1921 عمل بريشت كمحرر مسرحي في صحيفة «إرادة الشعب» الاشتراكية اليسارية، فكان في جميع مقالاته النقدية لما يعرض في مسارح أوغسبورغ ينطلق من موقفه الاجتماعي الثوري الجديد؛ ولكن حتى ذلك الحين، دون تبنٍّ لاتجاه سياسي واضح المعالم. وكان يُلح على مطالبة رجال المسرح بمعالجة قضايا العصر والمجتمع من حولهم. وفي نقده لمسرحية فريدريش شيللر «دون كارلوس» مثلاً، نجده يكتب ما معناه: «لطالما أحببت مسرحية دون كارلوس، لكني أقرأ هذه الأيام رواية «المستنقع» للأميركي سينكلير. إنها قصة رجل عادي هدّه الجوع والمرض والبرد وعندما حلم هذا الإنسان مرة بالحرية انهالت عليه الهراوات المطاطية حتى خمدت أنفاسه. وأنا أعرف أن ليس هناك أية علاقة بين حرية هذا الرجل وحرية دون كارلوس، ولكني والحق أقول، ما عدت أستطيع أخذ عبودية دون كارلوس في سجنه على محمل الجدِّ بعد قراءتي لـ: «مستنقع» سينكلير.‏

وفي تلك الفترة أيضاً يتعرف بريشت على الكاتب الروائي الكبير ليون فويشتغانغر، الذي يصبح من أهم العاملين معه طوال حياته. وكانت نتيجة أول تعاون بينهما هي تحول مخطوطة مسرحية «سبارتاكوس» إلى «طبول في الليل» التي يعبر فيها بريشت عن خيبة أمله بالثورة الألمانية بعد تحولها نتيجة الخيانة إلى ثورة مضادة. وحاول بريشت فيما بعد أن يدخل عليها بعض التعديلات التي تساعد على تحويل موقف تعاطف المشاهد مع بطلها كراغلر إلى موقف إدانة. ولدى عرض المسرحية عام 1922 في ميونيخ كتب الناقد المسرحي الشهير هربرت إيرينغ يقول: «بين ليلة وضحاها غيّر المسرحي الشاب برتولت بريشت وجه المسرح الألماني، لقد بث فيه دماً جديداً». وقد مُنح بريشت على مسرحيته هذه جائزة هاينريش فون كلايست للأدب.‏

وفي ميونيخ يتعرف بريشتت على مصمم الديكور والرسام الشهير كاسبار نييَّر الذي بدأ أيضاً بالعمل معه، وعلى المخرج إريش انغل الذي أخرج العديد من مسرحيات بريشت خلال حياته وبعد وفاته، وأيضاً على الشاعر والمنظر الأدبي الاشتراكي يوهانس ر. بيشر.‏

بعد وفاة والدته انتقل بريشت بصورة نهائية إلى ميونيخ، وانقطعت صلاته بوالده وأسرته. لكنه لم يقتنع بميونيخ كمقر نهائي له، خاصة بعد أن تخلى عن دراسة الطب. فأخذ يتردد على برلين، ويوطد علاقاته بالكتاب والمخرجين والممثلين، وبدأت تمتد شهرته وتنتشر نوادره وآراؤه. وكان موقفه على مسرح الحياة الأدبية كموقف الطفل العبقري المخيف الذي يكاد يُجهز بحيويته وجِدَّته على دعائم ما هو قائمٌ ومألوف. وفي عام 1921 كتب بريشت مسرحيته الثالثة «في أدغال المدن» وأربع مسرحيات من فصل واحد تأثر فيها بشكل واضح بالأدب الشعبي وبأسلوب الممثل الكوميدي الشعبي الشهير (كارل فالنتين) الذي شاركه بريشت في بعض عروضه في ميونيخ. وقد طرح بريشت في هذه المسرحية موضوع استلاب الإنسان وعزلته عن أخيه الإنسان في المجتمع الرأسمالي. وفي العام التالي اقتبس بريشت بالتعاون مع ليون فويشتغانغر مسرحية كريستوفر مارلو «إدوارد الثاني» وأخرجها في ميونيخ بعنوان «حياة إدوارد الثاني ملك إنكلترا». وفي هذا العمل بالذات بدأت تتوضح بذور نظريته المسرحية التي ستتطور عبر أعماله القادمة وتجاربه الإخراجية إلى ما نعرفه اليوم تحت اسم «المسرح الملحمي أو السردي ـ الملحمي أو الدياليكتيكي».‏

وفي منتصف عام 1924 يحدث في حياة بريشت انعطاف حاد يؤثر على سرعة تطوره واتساع شهرته. إذ يغادر ميونيخ بجوها الضيق المحافظ وينتقل بشكل نهائي إلى برلين ليعمل إلى جانب الكاتب المسرحي المعروف (كارل تسوكماير) كدراماتورغ، أو خبير مسرحي لدى المخرج الشهير ماكس راينهارد في دار المسرح الألماني. واتسعت هناك دائرة أصدقائه ومعارفه، بل حتى أتباعه. واستمر بريشت بالعمل تحت إشراف ماكس راينهارد حتى 1926، وتابع خلال هذه السنوات كتاباته الشعرية والمسرحية والنقدية، وأخذ ينشر كتبه تباعاً، إلى أن بدأ بكتابة مسرحية «رجل برجل» الهامة التي تشكل عاملاً حاسماً في تكوين الفرد وتطوره في المجتمع. فبطل هذه المسرحية «جالي جاي» إنسان عادي بسيط لم يتعلم في حياته أن يقول لا، ويقع في أيدي مجموعة من الجنود البريطانيين الذين يحولونه بالتدريج إلى أداة مطواعة في حروبهم الاستعمارية، وبهذا يبرهن بريشت على أن الإنسان في المجتمع الرأسمالي ما هو إلا وسيلة يمكن استخدامها أو استبدالها حسب مصلحة النظام القائم.‏

وفي 1926 يدرك بريشت مدى حاجته لدراسة العلوم والفلسفة لتعميق وعيه بالمجتمع وبقانونية تطوره. فيبدأ بدراسة الاقتصاد السياسي، ثم ينتسب إلى مدرسة العمال المسائية حيث يدرس الماركسية بشكل منتظم بالإضافة إلى تعمقه في قراءة هيغل وماركس. وبالتدريج بدأ يتبلور إيمانه بالفكر الماركسي، وتترسخ قناعاته بضرورة الثورة الاشتراكية على جميع الأوضاع الرأسمالية القائمة في ألمانيا.‏

وقد كان لاجتماعه آنذاك بالمخرج المسرحي الكبير إرفين بيسكاتور مؤسس المسرح السياسي الألماني، أكبر الأثر في تطوره الفني المسرحي. فمن أجل توصيل المقولة السياسية ـ الاجتماعية للمسرحية بأكثر ما يمكن من الدقة والفعالية، لم يدع بيسكاتور أية وسيلة تقنية إلا واستخدمها، كعرض الوثائق بالفانوس السحري والأفلام وتقديم الأغنيات والرقصات وحتى السيرك. وقد أعدّ بريشت لمسرح بيسكاتور الشامل رواية الكاتب التشيكي ياروسلاف هاتشيك البانورامية «شفيك» التي عاد إلى معالجتها بعد سنوات في مسرحيته المعروفة «شفيك في الحرب العالمية الثانية».‏

ورغم انغماسه شبه الكامل في العمل المسرحي، لم يتخلَّ بريشت عن نشاطاته الشعرية. فقد نشر عام 1927 مجموعته الشعرية الأولى «قصائد البيت البريدية» التي برهن فيها على أصالته الشعرية وعبقريته اللغوية، وعلى بحثه المستمر والخلاق عن وسائل تعبيرٍ وتوصيل جديدة أجدى وأكثر فعالية من الأشكال التقليدية المتداولة. كما ظهر في هذه المجموعة تأثره بالفرنسيين فرانسوا فييون ورامبو، وبالإنكليزي كيبلينغ.‏

وفي العام نفسه تعرف بريشت على ثلاث شخصيات كان لها دور حاسم في حياته المسرحية أولاها إليزابيت هاوبتمان التي أصبحت مساعدته الأولى طوال حياته، والتي كلفت بعد وفاته بالإشراف على أرشيفه في ألمانيا الديمقراطية. والشخصية الثانية هي الممثلة هيلينِه فايغل التي أصبحت زوجته، والتي قامت بأهم الأدوار النسائية في مسرحياته، وأسست معه فرقة برلين للمسرح (البرلينر أنزامبل) في برلين الديمقراطية بعد الحرب. وثالث هذه الشخصيات هو الموسيقي كورت فايل الذي وضع ألحان قسم كبير من قصائد بريشت بالإضافة إلى ألحان أوبرا «ازدهار وانحطاط مدينة مهاجوني» و«أوبرا القروش الثلاثة» التي اقتبسها بريشت عن الإنكليزي جون غاي والتي كان لعرضها صدى واسع في جميع أنحاء ألمانيا ثم في معظم العواصم الأوروبية ثم في الولايات المتحدة. وقد حاول بريشت في هذه الأوبرا أن يسخر بشكل لاذع من عادات وقيم المجتمع البرجوازي الرأسمالي، وقيمه وأن يكشفه ويعريه كمجتمع لصوص ودجالين. كما حاول في الوقت نفسه نقد الشكل التقليدي للأوبرا، وتطويره باتجاه الأوبرا الشعبية.‏

ومنذ 1930 أخذ بريشت ينشر مسرحياته تحت عنوان «محاولات»، إذ أنه لم ينظر إلى أيٍّ من أعماله المسرحية كعمل مكتمل، بل هو محاولة نحو الكمال. ولم يتوان في أي وقت من الأوقات عن إدخال التعديلات أو التغييرات الجذرية على مسرحياته كلما وجد في ذلك ما يساعد على تحسين إيصال مقولته وبلورتها. وكان يتعمد الدخول في مناقشات مع المتفرجين من العمال وغيرهم، وكان يتخذ عامداً موقف المعارض ليستفز شريكه في الحوار، وليدفعه لقول جميع ما لديه حول الموضوع. فإن اكتشف في مسرحيته نتيجة الحوار خطأ ما، سرعان ما كان يصححه دون أي تردد. وهذا ما جرى مثلاً في الأوبرا المدرسية «الموافق أو الذي يقول نعم». كما بدأ في ذلك الحين بتزويد مسرحياته بإرشادات وملاحظات عامة يغلب عليها الطابع العلمي التجريبي الذي يركز على الناحية التعليمية. وبهذه المسرحية «الموافق» بدأت عند بريشت مرحلة (المسرح التعليمي) التي تشمل فيما تشمل «طيران الليندبرغ» و«مسرحية بادن حول التفاهم» و«الإجراء» و«الأم» وغيرها. هذا بالإضافة إلى الدراسات والكتابات النقدية والقصائد التعليمية التي رافقت هذه المرحلة، والتي كان هدف بريشت منها التركيز على الدور ـ الاجتماعي ـ التربوي للمسرح، واستخدامه كوسيلة تثقيف وتوعية، تساعد على التغيير.‏

ولم يقتصر تطور بريشت المسرحي هنا على المضمون ـ الاجتماعي ـ السياسي، بل تعداه إلى تطوير التقنية المسرحية وأسلوب التمثيل والديكور والإخراج، أي إلى تطوير نظرية مسرحية متكاملة تعتمد بشكل رئيسي على التغريب. إن ما أراده بريشت في مسرحه هو أن يتوجه إلى عقل المتفرج مباشرة، وأن يجعله شريكاً في عملية التحليل والكشف. لم يكن هدف بريشت إلغاء المشاعر والعواطف كما هو شائع عنه بشكل خاطئ، إذ لا يمكن تجريد الإنسان من عواطفه وأحاسيسه. لكنه كان يرى أن العاطفة آنية ومتقلبة في حين أن الإدراك العقلي يساعد على تعميق الوعي بالحياة المشتركة بين الناس وبكل ما يرتبط بها من علاقات ومصالح أو تناقضات وصراعات، وبما أن هدف بريشت من مسرحه التعليمي هو رفع المشاهد إلى المشاركة الفعالية في عملية التغيير فقد ركز في معالجاته وفي التقنيات التي استخدمها لتجسيد آرائه، على جعل المألوف والعاديِّ غير مألوف إلى حدّ الغرابة والدهشة. لقد أراد بريشت أن ينتزع المشاهد من حياته اليومية وروتينها المعتاد، وأن يجعله يفتح عينيه وعقله على حقيقة ما يدور حوله، وأن يدفعه إلى طرح الأسئلة حول كل ما كان يقبله كأمر بديهي. لكن مسرحيات هذه الفترة اتسمت بالجفاف والبرود. وبعد مراجعة ومناقشة تجارب هذه المرحلة طويلاً اقتنع بريشت بضرورة تخفيف حدة الاتجاه التعليمي الصرف، وأخذ يؤكد العلاقة الجدلية بين المتعة والتعلم. ولكي يطور بريشت شكل طرح المادة التعليمية وتجسيدها؛ لم يكن ليكتفي بالحوارات التي كانت تدور بعد العروض أو في داره، بل كان يذهب بنفسه إلى التجمعات العمالية، فيقرأ للعمال ما كتبه ويناقشهم به ساعات وساعات ويطرح جملة الاحتمالات الممكنة. والملفت للنظر في عمله هذا أنه كان غالباً ما يأخذ بآراء بسطاء الناس والعمال بدلاً عن آراء المثقفين حول المسألة نفسها. لم يكن بريشت يؤمن بالمزاج أو الإلهام بل بالعمل الدؤوب والتجريب المستمر، فضلاً عن قناعته الراسخة بضرورة وأهمية العمل الجماعي، وما أكثر مساعديه وأصدقاءه الذين شاركوه في تحضير وإنجاز أعماله، أما مساعدوه الدائمون كإليزابيت هاوبتمان وروت برلاو ومارغريته شتيفين أو الموسيقيون كفايل وآيسلر وديساو فقد كانوا جزءاً لا يتجزأ من حياته، يرافقونه حيثما حلّ وأنّى ذهب.‏

في تلك السنوات شديدة الاضطراب تصاعد الإرهاب النازي بشكل ملحوظ دون أيّ رادع. كما بدا واضحاً أن السلطة الحاكمة الضعيفة تُعدُّ بالتعاون مع رجال المال والصناعة لتسليم الحكم لهتلر وزبانيته. ازداد الضغط على النشاطات التقدمية، بل وحتى على الليبرالية، وأخذت تزداد إجراءات التهديد والمنع، إلى أن جاء عام 1933 حيث مُنع عرض مسرحية «يوهانا قديسة المسالخ» في مدينة دارمشتات، كما أوقف عرض «الإجراء» في إيرفورت. وكغيره من المثقفين التقدميين ذوي الاتجاه السياسي الواضح أو الليبراليين ذوي النزعة الإنسانية، فهم بريشت ما تعنيه هذه الإجراءات، وأدرك الخطر الذي يتهدده، فغادر ألمانيا في /27/12/1933 إلى براغ ومنها إلى زوريخ حتى استقر به المقام في الدانمرك. وقال بريشت عن تلك الفترة إنه كان مضطراً لتغيير البلدان بأسرع مما يغير الإنسان حذاءه. ولقد صدقت توقعات بريشت، إذ كان اسمه مسجلاً على اللائحة السوداء التي ضم إليها النازيون أسماء مئتي أديب ومفكر ألماني اتهموهم بالانحلال ومعاداة القومية الألمانية. فألقيت كتبهم إلى النيران المتأججة في ساحة دار الأوبرا في برلين، بين صيحات حماسة عصابات الإرهاب النازية وهتافات الجماهير المضللة. وفي 1935 جرد النازيون بريشت من جنسيته وحقوقه المدنية. وقد كان السبب المباشر لهذا الإجراء هو إعادته طبع «أسطورة الجندي الميت» مجدداً.‏

قبل فترة المنفى كان بريشت قد أنهى كتابة مسرحية «يوهانا قديسة المسالخ» و«الرؤوس المدببة والرؤوس المستديرة». التي أعدها عن شكسبير، كما اشترك مع المخرج السينمائي المعروف سلاتان دودوف في تحضير وإخراج فيلم «كوله فامبِه»، وبمناسبة عرضه الافتتاحي في موسكو سافر بريشت لأول مرة إلى الاتحاد السوفيتي، حيث التقى هناك بالممثل الصيني المعروف مي لان ـ وانغ الذي توثقت من خلاله معرفة بريشت بالمسرح الشرقي وبأسلوب جديد في التمثيل ترك بصمات واضحة على تطوره المسرحي كتابة وإخراجاً وتمثيلاً، وعلى استخدامه بشكل خاص لوسائل التغريب.‏

وفي أولى سنوات المنفى وضع بريشت مع كورت فايل باليه «الخطايا السبع المميتة للبرجوازي الصغير» التي تعالج فساد القيم الأخلاقية في مجتمع تسيطر عليه قوانين الربح والتجارة بكل شيء. ثم نشر «رواية القروش الثلاثة» التي عمق فيها نقده الساخر للمجتمع البرجوازي، بصورة لم تدع أي مجال لتأويلات مغايرة لمقصد بريشت، كما حدث مثلاً في فيلم «أوبرا القروش الثلاثة» حيث رفع بريشت دعوى قضائية ضد الشركة المنتجة بسبب التحريفات التي أجرتها على كتابة السيناريو؛ مما أدى إلى إضعاف وتغيير المقولة السياسية الاجتماعية للنص الأصلي.‏

وفي هذه الفترة أيضاً كتب بريشت آخر مسرحياته التعليمية «الهوراسيون والكوراسيون» كما بدأ بالتعاون مع الموسيقي هانز آيسلر. ثم كتب مسرحية «رعب وبؤس الرايخ الثالث وبؤسه» ونشر مقالته الهامة «خمس صعوبات لدى كتابة الحقيقة». ولم يتوقف بريشت أبداً عن توسيع وتعميق دراساته الاقتصادية والسياسية، ولقد ساعده سفره المتكرر على ترسيخ معارفه، وذلك من خلال احتكاكه المباشر ببقية المجتمعات والأنظمة البرجوازية. ويبرز هذا بشكل واضح في الكلمات التي كان يُلقيها في المؤتمرات العالمية للكتاب أو لقاءات مناهضة الفاشية، كما في لندن وباريز مثلاً، وفي مقالاته المتعددة التي نشرها في صحف المنفى ومجلاته.‏

وفي 1937 عُرضت له في باريز مسرحية «بنادق الأم كارار» وهي المسرحية الوحيدة التي طبق فيها بريشت المبادئ الدرامية الأرسطوية. وقد عالج فيها مفهوم الحياد، وبرهن على بطلان وتهافت هذا الادعاء، فحياد الصديق هو دائماً لصالح العدو ولو بصورة غير مباشرة. وهو يتوجه في عمله هذا إلى بعض القوى السياسية الإسبانية التي طالبت بالوقوف على الحياد في الصراع الدائر خلال الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريين وبين فرانكو وقواته التي دعمها كلٌّ من هتلر وموسوليني.‏

بعد المنفى الدانمركي انتقل بريشت عبر السويد إلى فنلندا، حيث أقام وعمل بضعة شهور، ثم انتقل عبر الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث قضى بقية سنوات المنفى حتى 1947. وخلال هذه السنوات الخصبة بصورة غير عادية بالنشاط الأدبي والفكري والسياسي أنتج بريشت بالتعاون مع هانز آيسلر وباول ديساو ومساعدتيه إ. هاوبتمان وروت برلاو أهم وأنضجها أعماله المسرحية، فضلاً عن دراساته النظرية ومشاريع الروايات والقصائد.‏

فكتب في الدانمرك «حياة جاليلية» و«محاكمة لوكولوس» و«الأم شجاعة وأولادها» و«قصائد سفيندبورغ». وكتب في فنلندا «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» عن مشروع قصة للكاتبة الفنلندية هيللا فوولييوكي، و«حوارية المنفيين» ومقالات بعنوان «نحو تقنية جديدة لفن التمثيل»، كما بدأ بكتابة «صعود أرتورو أوي الممكن إيقافه». أما في المنفى الأميركي فقد كتب بريشت «رؤى سيمون ماشار» بالتعاون مع فويشتغانغر» و«شفيك في الحرب العالمية الثانية»، كما وضع عدة مشاريع لسيناريوهات أفلام، منها: «والجلادون يجب أن يموتوا أيضاً» الذي أخرجه الفنان الألماني الشهير فريتس لانغ، ثم كتب «إنسان ستسوان الطيب» و«دائرة الطباشير القوقازية».‏

إن جميع هذه المسرحيات التي وضعها بريشت في فترة المنفى تنطلق في طرحها ومعالجتها للقضايا السياسية ـ الاجتماعية من وجهة النظر الماركسية التي حاول بريشت من خلالها تحليل بنية السلطة الرأسمالية ومصالحها وارتباطاتها، أو تحليل دور الفرد في المجتمع الطبقي وموقفه من القوى المتناحرة. أو هو يفسر ماهية الحرب العدوانية ويدينها، لكنه في أي من أعماله لم يقدم حلاً جاهزاً، بل نجده يطور الحدث ويعمقه ويشد خيوطه بالاتجاه الذي يساعد المشاهد على التوصل بنفسه إلى الحل الوحيد الممكن ألا وهو إدانة الحرب العدوانية ومقاومتها، أو الانضمام إلى القوى التقدمية والوطنية المناضلة من أجل تغيير المجتمع القائم. ولقد ركز بريشت بصورة جلية في جميع هذه الأعمال وما سبقها على الربط بين الفن والسياسة، وعلى تأكيد دور الفن كسلاح فعال في الصراع الطبقي. وفي نهاية فترة منفاه الأميركي يستدعى بريشت من قبل لجنة سياسية، ويتهم بالقيام بنشاط سياسي معادٍ لأميركا، لكنه ينفي التهمة عن نفسه، ويغادر أميركا إلى سويسرا 1947.‏

وفي سويسرا كان بريشت أمام خيارين، فإما أن يعود إلى ألمانيا الغربية التي بدأت بمساعدة الولايات المتحدة تستعيد نشاطاتها السياسية والاقتصادية لتقوم بالدور الجديد الذي اختارته لها الإمبريالية الأميركية بعد دحر النازية، أي الوقوف في وجه المد الاشتراكي... أو أن يعود إلى ألمانيا الشرقية التي بدأت أولى مراحل البناء الديمقراطي المناهض للفاشية، والتي بدأت من ثم بمرحلة البناء الاشتراكي مع تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ولقد كان أمراً بديهياً بالنسبة إلى بريشت المناضل السياسي الاشتراكي؛ الذي كرس حياته وعمله من أجل مقاومة الحرب العدوانية، وكشف الأنظمة البرجوازية الرأسمالية، كان بديهياً بالنسبة إليه أن يعود مع عائلته إلى القسم الديمقراطي الاشتراكي من ألمانيا المجزأة، لأنه رأى فيه وطنه المنشود وحلمه الذي بدأ يتحقق تدريجياً.‏

وفي /22/10/1948 وصل بريشت إلى برلين الديمقراطية حيث استُقبلَ بالتكريم والحفاوة اللذين يليقان بمكانته العالمية ككاتب ومناضل اشتراكي. إن بريشت لم يَخلُد إلى الراحة أبداً، فهو لا يستطيع البقاء دون عمل ولا يعرف ما هي الإجازة. فبدأ مباشرة بكتابة «الأورغانون الصغير للمسرح» الذي وضع فيه «أسس مسرح العصر العلمي الاشتراكي»، كما بدأ عمله الإخراجي بمسرحية «الأم شجاعة وأولادها» وعمله التأليفي بمسرحيته الجديدة «أيام الكومونة».‏

ولم تمض شهور على وجوده في برلين الديمقراطية حتى كرمته الدولة بوضع مسرح «أَم شيفباوردَم» تحت تصرفه ليقوم فيه مع فرقة البرلينر أنزامبل التي أسسها مع زوجته هيلينه فايغل، بتطبيق نظريته المسرحية بنفسه. فكرس بريشت وقته كله لهذه الفرقة التي درَّبها خطوة فخطوة في جميع ما يتعلق بالمسرح من تمثيل ونطق وغناء ورياضة وديكور وموسيقا، إلى أن أصبح مسرح «البرلينر أنزامبل» بعد فترة وجيزة أحد المسارح الرائدة في العالم كله.‏

وفي تلك المرحلة بدأ بريشت يعدُّ الكثير من الأعمال المسرحية العالمية لمسرحه ليبيِّن أن نظريته الجديدة في المسرح الملحمي لم يضعها لتنطبق على ما يكتبه هو فقط. فقدم «معلم القصر» عن لِنتس و«دون جوان» عن موليير، و«كوريولان» عن شكسبير، و«طبول وأبواق» عن فاركار، و«محاكمة جان دارك» عن آنا سيغرز. كما كتب آخر مسرحياته وهي «توراندوت أو مؤتمر غاسلي الأدمغة» وقدم النسخة المعدلة لـ «محاكمة لوكولوس» 175 بعنوان «إدانة لوكولوس».‏

وبالإضافة إلى عمله هذا صرف بريشت قسماً كبيراً من وقته وجهوده في تخريج جيل جديد من الممثلين والمخرجين والفنيين المتمرسين والمستوعبين لماهية المسرح الجديد أهدافه. وكان يعتمد في ذلك على أسلوب المناقشة والتمرين.‏

وفي عام 1953 قدم مسرح البرلينر أنزامبل أول مسرحية لكاتب من ألمانيا الديمقراطية بإخراج بريشت نفسه، وهي «كاتس غرابن» للكاتب المسرحي والروائي إرفين شتريتماتر، ثم تلتها مسرحة رواية «معركة الشتاء» التي أعدَّها بريشت مع المخرج والمنظر المسرحي مانفرد فيكثرت عن الشاعر يوهانس ر. بيشر. وبدأت معظم عواصم العالم تقدم على مسارحها أعمال بريشت محاولةً السير على هدى منهجه الفني. وفي الوقت نفسه بدأت فرقة البرلينر أنزامبل بجولة واسعة عبر عدة عواصم أوروبية عرضت خلالها أعمالها لبريشت وغيره.‏

وتكريماً للجهود الجبارة التي قام بها بريشت من أجل بعث الحركة المسرحية الاشتراكية على أرض جمهورية ألمانيا الديمقراطية منحته الدولة الجائزة الوطنية من الدرجة الأولى 1953. وفي العام نفسه سافر بريشت إلى الاتحاد السوفيتي لاستلام جائزة لينين للسلام.‏

وخلال بروفات مسرحية «حياة جاليلية» عام 1956 مرض بريشت مرضاً شديداً اضطره لدخول المستشفى، حيث بقي عدة أسابيع، لكنه غادره قبل أن يتماثل للشفاء التام، وعاد إلى العمل المسرحي، مما أدى إلى انتكاس مرضه وإصابته بالسكتة القلبية التي توفي على أثرها في /14/7/1956. وبناء على رغبته الخاصة دفن بريشت دون أية ضجة أو مراسيم احتفالية في المقبرة المجاورة لمنزله في برلين، وقد كُتب على شاهدة قبره كلمتان فقط: «برتولت بريشت».‏

لكن موته لم يؤدّ إلى توقف العمل في البرلينر أنزامبل. فما كان قد بدأه في «حياة جاليلية» تابعه صديقه وشريكه المخرج إريش إنغل، ثم استلمت زوجته إدارة المسرح الذي تابع نشاطاته المحلية والعالمية، سائراً على هدى تعليمات الكاتب الراحل.‏

تطور المسرح الملحمي بعد بريشت‏

ولد برتولت بريشت في مدينة أوغسبورغ جنوب غرب ألمانيا عام 1898 لعائلة برجوازية، إذ كان والده مدير مصنع، وكان بروتستانتياً، أما والدته فقد كانت كاثوليكية وثّقت علاقته بالكتاب المقدس بترجمة مارتين لوتر الشهيرة. كتب الشعر مبكراً، وكان يغني ويعزف على الغيتار، ويرتاد احتفالات الأسواق الشعبية ليستمتع بما يقدم فيها من فنون تمثيلية وغنائية وراقصة وألعاب خفة وشعوذة. بعد حصوله على الشهادة الثانوية انتقل إلى ميونيخ ليدرس الطب بناء على رغبة والده، لكنه سرعان ما تركه وانتقل لحضور محاضرات الأدب وعلم الاجتماع ولينخرط في الأجواء الثقافية لهذه المدينة الغنية، إلا أنه لم يكمل دراسته الجامعية، بل انتقل للعمل المسرحي منذ 1922 كدراماتورغ، أي كمعد نصوص ومستشار فكري وفني في مسرح ميونيخ الصغير.‏

بعد فشل وساطة والده في سوقه إلى الجيش، وعمل في أواخر الحرب العالمية الأولى ممرضاً في مشفى متنقل جنوب ميونيخ، ورأى هناك بشاعات الحرب وآثارها على القتلى والجرحى والمشوهين، فتحول إلى مناهض للحرب، وعكس ذلك في كثير من قصائده الشعرية التي ستؤدي إلى وضعه على اللائحة السوداء من قبل النازيين فيما بعد. كما عاش ثورة عام 1919 في ألمانيا حيث نقلوا أخاه الأكبر الصحفي، وكتب عن هذه التجارب في مسرحية «تطبيل في الليل» التي عرضت في ميونيخ 1922، ومارس النقد المسرحي في صحيفة «إرادة الشعب» وحصل على جائزة هاينريش فون كلايست للمسرح على مسرحياته الثلاث الأولى عام 1922، وتسلمها من يد إريش إنغل أحد أهم المخرجين المسرحيين في تلك المرحلة. ثم انتقل 1924 إلى برلين ليعمل مع المخرج التجريبي الشهير ماكس راينهاردت في مؤسسة المسرح الألماني. عاش سنوات صعود النازية إلى جانب كثير من الأدباء والفنانين والمفكرين اليساريين والإنسانيين، إلى أن اضطر عام 1933 للهروب إلى المنافي المتتالية، لدرجة أنه قال ذات مرة: «إننا نبدل بلدان المنفى أكثر مما نبدل أحذيتنا»، فعاش في الدانمرك والسويد وفنلندا والولايات المتحدة وسويسرا وفرنسا. وفي عام 1947 غادر الولايات المتحدة عائداً إلى أوربا بعد محاكمته من قبل لجنة ماكارثي بتهمة ممارسات معادية لأمريكا، والتي كان ليندون جونسون أحد أعضائها. وفي برلين الشرقية حصل مع زوجته الممثلة هيلينا فايغل على مسرح أطلق عليه اسم برلينر أنسامبل، أي فرقة برلين للمسرح، وعمل فيه حتى وفاته عام 1956.‏

وخلال حياته التي امتدت ثمانية وخمسين عاماً لم يتوقف بريشت عن التأليف في مجالات عدة، وأغزر مراحل نشاطه كانت فترة المنافي 1933 ـ 1947، أما نضوج آرائه النظرية في المسرح الملحمي التي كان قد بدأ التعبير عنها منذ 1928 فقد كانت خلال سنوات عمله في البرلينر أنسامبل مع نشره الصيغة النهائية لكتابه «الأورغانون الصغير للمسرح» الذي عرض فيه رأيه في تطور المسرح الملحمي إلى المسرح الجدلي، وكتابه الآخر «حوارية شراء النحاس» التي ركز فيها على الدراماتورجيا في العمل المسرحي. وفي عام 1996 صدرت أعماله الكاملة في طبعة محققة وموثقة علمياً، بلغ عدد أجزائها (44) جزءاً موزعة بين المسرحيات الطويلة والقصيرة، والمعدَّة عن كتاب آخرين، وبين الكتابات النظرية حول المسرح والسينما والإذاعة والأدب والفن والمجتمع والسياسة. ثم هناك الدواوين الشعرية والكتابات النظرية حول الشعر، وأخيراً أعماله النثرية بين الرواية والقصة القصيرة والحِكَم.‏

على الصعيد المسرحي غرف بريشت من معين التراث العالمي منذ الإغريق والرومان، لكنه تأثر بشكل خاص بكريستوفر مارلو وويليم شكسبير، فأعد للأول «حياة إدوارد الثاني ملك إنكلترا» بالتعاون مع الروائي وعالم اللغة السنسكريتية ليون فويشتغانغر الذي عرّفه على المسرح الهندي القديم؛ الذي يحمل الكثير من عناصر التغريب كالأسلبة في الديكور والموسيقا والرقص التعبيري وأسلوب العرض؛ الذي يعتمد على مقدمات تقوم مقام الراوي. كما أعد للثاني مسرحية «كوريولانوس» إعداداً دراماتورجياً ملحمياً. وتأثر من المسرح الألماني بلسينغ وغوته على صعيد الوظيفة الاجتماعية للمسرح، وتأثر بمعاصره فرانك فِدِكيند من حيث استخدام أسلوب السيرك الشعبي وتقاليد فنون السوق في العرض، وكذلك بغيورغ بوشنر صاحب «فويتسِك» و«موت دانتون» كما تأثر خلال الثلاثنيات بالطليعيين السوفيتيين تريتياكوف ومايرخولد عن طريق اللقاءات الشخصية، وتبادل العروض بين برلين وسان بيترسبورغ. والجدير بالذكر أن المخرج المجدد مايرخولد أخذ الكثير عن المسرح الصيني، ولفت نظر بريشت إلى خصوصية أسلوبه عندما حضرا معاً عروض ممثل أوبرا بكين مي لان فانغ، فأبدى بريشت اهتماماً كبيراً بهذا الفن المسرحي الشرقي المغاير للأسلوب الغربي، وتوسع في ذلك باطلاعه على ترجمات مساعدته إليزابيت هاوبتمان لنصوص من مسرح النو والكابوكي الياباني، حيث يبرز التأكيد المستمر على كسر الإيهام في كل ما يرتبط بعناصر العرض المسرحي وخاصة أسلوب الأداء التمثيلي. وقد انصب معظم هذه التأثيرات في بوتقة واحدة خرجت منها عبر الممارسة كتابةً وإخراجاً نظرية المسرح الملحمي؛ التي ستؤثر في حركة المسرح العالمي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.‏

عندما دخل بريشت معترك العمل المسرحي كان المسرح الألماني يعيش صراعاً محتدماً بين تيارين: الطبيعية المحتضرة القادمة من فرنسا مع نظرية أميل زولا في الأدب، وتطبيقات أندريه أنطون في المسرح الحر الذي كرس مبدأ الإيهام، وكأن ما يجري على الخشبة وراء الجدار الرابع هو الواقع دون أي تدخل من جانب المؤلف والمخرج فكرياً أو أخلاقياً، بحيث تبدو العينة المعروضة غير قابلة للتغيير، كما في المسرحيات المبكرة للألماني غيرهاردت هاوبتمان التي تبناها المخرج أوتو برام في المسرح الحر في برلين إلى جانب مسرحيات إبسن وستريندبرغ وبرناردشو. والتيار الثاني الذي جاء رداً على الطبيعية وخروجاً عليها نتيجة تجارب الحرب العالمية الأولى وثورة 1919 هو التعبيرية التي أكدت على الصراع بين الذات المكبوتة المضطهدة وبين قوانين المجتمع المهيمنة كالقدر، والتي ركزت أيضاً على العبقرية الفردية في صنع التاريخ، فشكلت بذلك اختراقاً لأحادية نظرة الطبيعية إلى المجتمع وجمودها، لكنها لم تستطع الوصول إلى تحليل القوى التي تتحكم في حركة المجتمع. وقد تمثل هذا التيار في أعمال هانس يوست وإرنست توللر وغيورغ كايزر. إلى جانب أعمال هذين التيارين كانت بعض كبريات المسارح الألمانية تقدم الأعمال الكلاسيكية بصورة متحفية أو المسرحيات الكوميدية من نوع البولفار بقصد الترفيه؛ إلا أن هذا لا ينفي جهود بعض كبار المخرجين مثل ماكس راينهاردت وإريش إنغل من أجل تجديد المسرح الألماني فناً وفكراً؛ كي يصبح معبّراً حقيقياً عن طبيعة الصراعات التي يخوضها المجتمع الألماني في تلك المرحلة الحاسمة من تطوره.‏

في تلك المرحلة بدأ بريشت بدراسة الاقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية التي زودته برؤية واضحة لحركة المجتمع وقوانين تطوره، وقد انعكس هذا بوضوح سواء في مسرحياته التعليمية أم في مسرحياته الكبرى وإعداداته منذ عام 1926، وكذلك في مقالاته النقدية وكتاباته النظرية حول فن جديد للتمثيل يلائم تطور آرائه في المسرح الملحمي على صعيد الكتابة والإخراج وعناصر العرض المسرحي الأخرى، والتي عارض فيها مفاهيم المسرح الأرسطي المعتمد على الإيهام بالواقع المعروض، وعلى عنصر التطهير الذي يولد حالة التصالح بين الفرد ونفسه وبين الفرد والمجتمع، ممثلاً بتنظيماته السياسية والاقتصادية والثقافية. وقد أكد بريشت على الدور الإيجابي للمشاهِد المتلقي في العملية المسرحية كي يتحقق هدف العرض المنطلق من توسيط المعرفة بأسلوب ممتع شيق، يدفع المشاهد لاستخدام محاكمته العقلية، خلال متابعته الأحداث المعروضة أمامه، والمتعة التي يقصدها بريشت ليست هي المتعة الحسية الآنية التي ينتهي تأثيرها بانتهاء العرض، وإنما هي متعة ذهنية جمالية يمتد مفعولها من خلال المقارنات والتساؤلات التي يستدعيها ويوقظها العرض في ذهن المشاهد، ابن القرن العشرين، ابن عصر العلم.‏

إن جوهر نظرية بريشت في المسرح الملحمي يتركز في مجموعة من العناصر التي يجب أن تتحقق في النص والعرض معاً؛ بحيث يتجلى الواقع المعروض قابلاً للتغيير من قبل الإنسان الفاعل، عبر جدلية علاقة التأثر والتأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، وليس كحالة ساكنة قدرية أو مؤبدة، لا حول للإنسان تجاهها. وهذه العناصر تنطلق من مفهومه للتغريب الذي يهدف بشكل أساسي إلى الكشف عن غرابة ما يبدو مألوفاً في الممارسات الحياتية على الصعد كافة. ولكي يحقق ذلك أكد بريشت ضرورة توضيع الحدث المعروض في سياق تاريخي في ماضٍ محدد، في حين أن الدراما الأرسطية توحي للمشاهد بأن الحدث يقع الآن. ومن أجل إظهار أن ما يعرض هو لعبة مسرحية وليس الواقع، أي من أجل الإعلان عن المسرحة لجأ بريشت إلى عناصر كسر الإيهام عن طريق الراوي والأغاني واللافتات والأفلام وغيرها. أما الحكاية التي يعتبرها جوهر المسرح فيجب ألا تقدم متسلسلة كما في المسرح الدرامي، وإنما كحدث متقطع يتطور بوثبات، وليس المهم في الحكاية نتيجتها، وإنما كيف حدثت، بمعنى التأكيد على مسارها عن طريق التقطيع إلى لوحات، تعرض كل منها نموذجاً أو موقفاً في سياق الامتداد الزمني بحيث يتجلى تحول الشخصية عبر مُسبباته بوضوح للمشاهد، فيتعلم ما لم تتعلمه الشخصية في ظروفها الموضوعية. وهذه الحكاية لا تقدم كبنية تصاعدية كما في المسرح الدرامي ببداية وذروة ونهاية، وإنما لكل لوحة من لوحات الحكاية بنيتها التصاعدية المصغرة، ولهذا قد تغيب العقدة أو الذروة من الحكاية المسرودة لأن الصراع هنا ليس معلناً أو مباشراً كما في المسرح الدرامي بين الفرد والآخر أو بين الفرد وقوة ما كالمجتمع أو القدر، وإنما يتجلى في المسرح الملحمي من خلال التناقض بين الكلام والأفعال أو التصرفات، كما في شخصية تاجر اللحوم ماولر في «يوهانا قديسة المسالخ». وعلى نقيض المسرح الدرامي فإن الخاتمة لدى بريشت مفتوحة، أي أن الحدث يبقى ممتداً في ذهن المشاهد ومخيلته. أما الشخصية المسرحية فهي في المسرح الملحمي ليست متكاملة ذات سيرة تامة، بل هي تعبر عن نفسها بمجموعة أفعال وخطابات غير متوافقة، أي كسلوك غستوس اجتماعي تاريخي يتبدى في وضعياتها وحركاتها وكلامها. والشخصية لا تتحرك على الخشبة ضمن ديكور واقعي، وإنما شرطي مؤسلب، أما الإكسسوارات التي تتحول عبر توظيفها واستخدامها إلى أغراض فهي واقعية. وقد استخدم بريشت الإضاءة البيضاء الثابتة من مصادر مرئية من قبل المشاهد؛ الذي جعله يرى عملية تبديل الديكورات بين اللوحات من قبل الممثلين أنفسهم بالتعاون مع عمال المسرح، هذا بالإضافة إلى وجود الفرقة الموسيقية بشكل ظاهر على طرف الخشبة. وهذا كله طبعاً من أجل كسر الإيهام وإعلان المسرحة التي تتبلور باستمرار من خلال أداء الممثل الذي يعايش الدور ويعرضه أمامنا دون أن يتماهى فيه أو يتقمصه، وهذا يتطلب ممثلاً عالي الثقافة وممتلكاً لأدواته الفنية؛ بحيث يستطيع إعادة إنتاج الحالة التي تمر بها الشخصية دون انفعال، وهنا تعلم بريشت الكثير من أسلوب التمثيل في المسرح الشرقي. وأهمية هذه العناصر لا تنبع من تطبيق بريشت لها على مسرحياته فحسب، وإنما من خلال إعداده الدراماتورجي لكثير من المسرحيات الكلاسيكية لتتلاءم مع المشاهد المعاصر ابن عصر العلم، انطلاقاً من موقعه الإيديولوجي، أي من الماركسية.‏

إذا بحثنا عن تأثير المسرح الملحمي بعد بريشت في ألمانيا نفسها، بشقيها سابقاً، وموحدة حالياً فسنجد جيلاً كبيراً من المخرجين تحديداً الذين استفادوا من نظرية بريشت في الإخراج وعمله مع الممثل، سواء في إخراجهم لأعماله أو أعمال غيره من المعاصرين أو الكلاسيكيين، مثل مانفرد فكثرت وبينو بيسون وهاينر موللر وبيتر شتاين وتوماس لانفهوف وغيرهم. والجدير بالذكر أن هؤلاء قد انطلقوا من مقولة بريشت الهامة بضرورة التغيير المستمر، فلم يتوقفوا عند نماذج أو موديلات إخراج البرلينر أنسامبل التي تمسك بها البعض كمن يعبد صنماً، وإنما طوروا أسلوب عمل بريشت بما ينسجم مع تطور واقعهم، وخاصة على صعيد تطور السينما والتلفزيون. فبيسون مثلاً زاوج بين أسلوب بريشت وتقاليد الكوميديا ديلارتي وإنجازات ماكس راينهاردت على صعيد التقنيات المسرحية. وقسم منهم مثل رودولف بينكا ولانغهوف وشتاين عملوا في تدريس التمثيل، فخرّجوا دفعات متتالية من الممثلين معتمدين على نظرية بريشت. وهذا ما لمسناه بشكل مباشر عندما زار رودولف بينكا دمشق مرتين، ودرَّس في المعهد العالي للمسرح. وعلى صعيد التأثر ببريشت كمؤلف مسرحي هناك هاينر موللر وبيتر هاكس وماكس فون دير غرون؛ الذين أثْروا المسرح الألماني المعاصر بأعمال كان وما زال لها كبير الأثر بالنسبة للجمهور الألماني عامة.‏

أما خارج ألمانيا وفي أوربة الشرقية تحديداً فقد كانت أعمال بريشت غير مرغوب بها؛ لأن شخصياته لا تتفق مع مفهوم البطل الإيجابي الذي روجت له الواقعية الاشتراكية الجدانوفية، ومع ذلك فقد لاقت آراؤه صدى لافتاً لدى ناقد وباحث مسرحي كبير مثل إيليا فرادكين الذي ترجم بعض أعماله النظرية ومسرحياته الأخيرة. وقد يعود تفسير غياب تأثير نظرية المسرح الملحمي في الاتحاد السوفيتي إلى غنى تقاليد مسرح أوكتوبر ممثلاً بتجديدات فاختانغوف ومايرخولد لقواعد ستانسلافسكي وللتطورات اللاحقة على أيدي مخرجين كبار مثل أوخلوبكوف ويغريموف وإفروس وغيرهم. وإذا توجهنا من الاتحاد السوفييتي إلى اليابان أحد مصادر بريشت الأساسية؛ فسنرى أن المخرج شِندا كوريا الذي سبق أن تتلمذ في ألمانيا على أيدي إرفين بيسكاتور قد نقل تقنيات مسرح بريشت إلى وطنه وقدمه للجمهور الياباني، ثم تبعه المخرج هيرا واتاري؛ فأسس فرقة طوكيو للمسرح أو طوكيو أنسامبل على غرار برلينر أنسامبل واختص بعرض مسرحيات بريشت بأسلوبه الملحمي. أما في الغرب فإن أصداء المسرح الملحمي قد وصلت إلى فرنسا خلال زيارة البرلينر أنسامبل لباريس في منتصف الخمسينات، وتركت وراءها أثراً عميقاً في الأوساط المسرحية الفرنسية العريقة، إذ اعتُبر النقيض الفكري والفني لمسرح العبث وللمسرح الوجودي، وتبناه كل من برنار دورت وجان لوي بارو، ورولان بارت في مجلة «المسرح الشعبي»، كما انعكس تأثيره على الكاتب آرمان غاتي. وكذلك على الكاتب الإنكليزي جون آردن، أضف إلى ذلك كتاب الناقد الشهير مارتن إسلين عن بريشت ومسرحه الملحمي إلى جانب ترجمة أعماله الكاملة إلى الإنكليزية بشكل متوازٍ مع صدورها بالفرنسية. وهناك في الولايات المتحدة الأمريكية جمعية تحمل اسم بريشت يرأسها الباحث المعروف ليوبولد غريم، وتصدر كتاباً سنوياً بعنوان «أبحاث في مسرح بريشت».‏

وبصورة عامة يمكننا أن نقول إن تأثير مسرح بريشت كان واضحاً في معظم أنحاء العالم، الأمر الذي ينعكس في المؤتمر السنوي الذي يعقد في برلين، والذي يشارك فيه باحثون وفنانون مسرحيون من مختلف أنحاء العالم. وقد تجلى هذا التأثير على صعيد تحرير العرض المسرحي من القوالب السائدة، وكذلك على صعيد العمل الدراماتورجي في تحضير النصوص وإعدادها وأسلوب العمل داخل الفرقة ومع الممثل، وعلى مستوى استخدام الموسيقا. وهنا علينا ألا ننسى المخرج الإيطالي المسرحي الكبير جيورجيو ستريلر مدير مسرح ميلانو، والذي توفي قبل سنوات معدودة.‏

بريشت والكتابة المسرحية العربية‏

لا شك أن مسرح برتولت بريشت (1898 – 1956) الذي وصل إلينا في البلدان العربية منذ نهاية الخمسينيات عن طريق ترجمة بعض مسرحياته وكتاباته النظرية، قد ترك أثراً واضحاً على حركة المسرح العربي، خاصة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 التي سببت صدمة هائلة للشعب العربي عامة ولمثقفيه خاصة؛ عندما تهاوت دعاوى الإعلام العربي، وتجلت حقائق طبيعة المواجهة مع العدو الصهيوني واضحة، فاستيقظ وعي المثقف على واقع مزرٍ كان مستّراً بأكاذيب الإعلام ومبالغاته الفارغة من أي محتوى مستند إلى الوقائع. عند هذا المنعطف في حياة الإنسان العربي، وحول الوسائل وأشكال التعبير التي تنقله إلى حيز التأثير المباشر على الصعيد السياسي والاجتماعي والفكري، وحول كيفية تشكيله أو تأسيسه لوعي جديد بالواقع الجديد.‏

ولما كان المسرح من دون الأجناس الأدبية الأخرى يتميز بخاصيةً العلاقة المباشرة بين المرسل والمتلقي، بين الممثل على الخشبة والجمهور في الصالة خلال العرض المسرحي، بحيث تحقق رسالة العرض المسرحي عبر صياغتها ومعالجتها الإخراجية والأدائية هدفها آنياً في الجمهور، وليس كحال القصيدة والقصة والرواية والمقالة المقروءة فردياً، فقد اتجه العديد من الأدباء العرب للكتابة للمسرح الذي كان موجوداً على المستوى الفني في بعض العواصم العربية، دون أن يحقق أثراً اجتماعياً أو سياسياً ملموساً. ومن بين هؤلاء الأدباء في سورية على صعيد الذكر لا الحصر محمد الماغوط وممدوح عدوان وفرحان بلبل؛ الذين رفدوا الكتاب المسرحيين المتواجدين على الساحة أصلاً بزخم جديد. ومن حقق منهم نضج الوعي السياسي الاجتماعي والأدوات الفنية استمر، ومن قصّر توقف.‏

لم يتوفر في تجارب المسرح العربي الفتي آنذاك ما يسعف المسرحيين في تناول ومعالجة القضايا الراهنة الملحة مضموناً وشكلاً، فالتفتوا إلى مسارح العالم بحثاً عن النموذج الذي يمكن التعلم من تجربته والاقتداء به أو اقتباسه أو تعريبه، فوقعوا على بريشت الذي كان تأثير مسرحه كبيراً في أوربة منذ الخمسينيات. وتعود أسباب اللقاء مع مسرح بريشت إلى أمور عدة، منها أنه مسرح سياسي اجتماعي بامتياز، مع الشكل الفني الجديد اللافت للنظر، والاهتمام الأوربي الكبير بمسرحه من قبل أسماء فنية لامعة مثل برنار دورت وجان فيلار في فرنسا وجورجيو ستريلر في إيطاليا، إلى جانب الناقد الإنكليزي الشهير مارتن إسلين الذي ألف كتاباً حول مسرحه. كما أن توفر ترجمات أعمال بريشت المسرحية والنظرية إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية ثم إلى الروسية قد لعب دوراً كبيراً في ذلك، خاصة وأن اللغتين الأجنبيتين المنتشرتين في الوطن العربي كانتا الفرنسية والإنكليزية، أما تأثير اللغة الروسية ومسرحها فقد أتى لاحقاً بعد عودة بعض دارسي الأدب والمسرح في الاتحاد السوفييتي إلى أوطانهم.‏

إن مسرح بريشت يستند، كما أسلفنا، إلى نظرية متكاملة في التأليف والتمثيل والإخراج والديكور والأزياء والإضاءة، أي في عناصر العرض المسرحي كافة. وهذا الجانب الفني يستند بدوره إلى موقف فكري متكامل من العالم ينبع من الماركسية. ومن هنا يصعب التأثر بمسرح بريشت بصورة إبداعية، إن لم يتم التعرف على نظريته في تكاملها فكرياً وفنياً مع توفر الوعي بكيفية الاستفادة منه محلياً في ظروف واقع مغاير، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتجاه جمهور يحمل ذائقة جمالية مختلفة. واللافت للنظر هو أن بريشت منذ بداياته لم يكن يؤمن بالعبقرية الفردية في المسرح، وإنما بأسلوب العمل الجماعي مع معاوناته ومعاونيه في الكتابة ومع الملحنين الموسيقيين ومصممي الديكور والأزياء. وكثيراً ما كان يعدل في نصوصه خلال التمرينات بناء على آراء الممثلين. ومعظم مسرحياته تحمل أسماء معاوناته إلى جانب اسمه مثل إليزابيت هاوبتمان وروث برلاو ومارغريت شتفين. وواجبات فريق العمل لديه تمتد من البحث السياسي الاقتصادي الاجتماعي إلى الترجمة والمشاركة في الصياغة التأليفية فكرياً ولغوياً. وهذا ليس سراً كما يزعم البعض، حاول بريشت أن يخفيه، بل هو معلن في طبعات مسرحياته ومذكرات من عملوا معه وعايشوه.‏

ولكي نحلل عملية التأثر بمسرح بريشت في بعض البلدان العربية كسورية ولبنان ومصر، لا بد من تناول طرق التواصل التي تم عبرها هذا التأثر الذي يحمل وجهين واضحين، أولهما سلبي وثانيهما إيجابي. لقد تم ترجمة عدد من مسرحيات بريشت، وعدد قليل جداً من كتاباته النظرية إلى العربية عن طريق اللغات الألمانية والإنكليزية والفرنسية، وقسم من هذه الأعمال ازدوجت ترجماتها عن اللغة نفسها، كما في حال «الاستثناء والقاعدة»، أو عن لغتين كما في حال «حياة غاليليو غاليليه» مثلاً. وفي معظم الحالات قام بالترجمة أناس غير مختصين بالمسرح، ولا يعرفون عن بريشت إلا النزر اليسير، فظهرت غالبية هذه الترجمات بعيدة عن روح الأصل، أو غريبة عن خصوصية اللغة المسرحية، كما في حال ترجمات الدكتور عبد الرحمن بدوي؛ التي لم ترَ النور على أيٍّ من خشبات المسارح العربية. ومن هنا تولد لدى المسرحي والقارئ العربي انطباع عميق بأن مسرح بريشت جاف بارد لا يحرك المشاعر، بل يخاطب العقل الألماني. وهذه الفكرة الأخيرة روجت لها بعض المقالات التي تنم عن جهل مدقع بكتابات بريشت، مؤكدة أن الفارق شاسع بين منهجي بريشت وستانسلافسكي في التعامل مع الممثل وكيفية أدائه للدور. ونذكر على سبيل المثال حادثة الاستبدال بترجمة بدوي ترجمة صلاح جاهين عن الإنكليزية في المسرح القومي في مصر عند تقديم «دائرة الطباشير القوقازية». أما ترجمات عبد الغفار مكاوي فقد جاءت في بعض الأحيان تأويلية تصالحية، كما في حال «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» فشوهت مقولة نص بريشت. وأليس مدهشاً أن تكون ترجمة «رؤى سيمون ماشار» نقلاً عن النص المعد للمسرح الفرنسي بدلاً من نص بريشت الأصلي، دون الإشارة إلى ذلك؟‏

إلى جانب هذا كله فإن المسرحي العربي الذي لا يجيد الإنكليزية أو الفرنسية لم يستطع الاطلاع على مؤلفات بريشت النظرية في المسرح، إذ لم يترجم منها إلى العربية سوى مقالات متفرقة حتى نهاية السبعينيات، ولهذا كان استيعابه لمسرحه قاصراً، إن لم نقل مشوهاً. لكن بريشت كان قد أصبح موضة لدينا كما حدث مع المسرح الوجودي ومسرح العبث، فظهرت هنا وهناك بعض الكتابات مقلدة ترجماته إلى العربية، ناقلة عنه استخدام الراوي وقطعه للحدث الدرامي أو تدخله فيه، أو خطاب الممثل المباشر إلى الجمهور، أو استخدام الأغاني، أو نزول الممثلين إلى الصالة والاختلاط بالجمهور، وفي ظنها أن هذا هو مبدأ التغريب البريشتي فقط؛ وبالتالي فإن هذه المحاولات المقلّدة لم تأخذ عن بريشت سوى تقنية مسرحية معزولة عن توظيفها الصحيح في السياق الفكري والفني للنص والعرض على حد سواء. أضف إلى ذلك ظاهرة تقليد، المقلدين وهي الحالة الأشد سوءاً. ولما كانت كل موضة طارئة محكومة بالزوال، لعدم قدرتها على التأسيس لما هو أصيل ومفيد، فقد أفلت موجة تقليد بريشت مع نهاية السبعينات؛ وهذا هو الوجه السلبي للتأثر بمسرح بريشت. ولكن خلال الفترة نفسها وجدت هناك سبل أخرى للتأثر والاستيعاب المبدع لبريشت لدى عدد من المسرحيين العرب الذين؛ درسوا المسرح في الغرب أو الشرق، واطلعوا على أعماله في ترجمات موثوقة، ورأوا بعض مسرحياته بإخراج فنانين انطلقوا من مفاهيم بريشت، بل وطوروها وفق خصوصية ظروفهم وجهودهم. وكان هناك بعض المسرحيين الذين يجيدون الفرنسية أو الإنكليزية، وسنحت لهم أكثر من فرصة للاطلاع على تجارب بريشت في مسرحه «برلينر أنسامبل» بعد وفاته أو في مسارح أوربية أخرى. وفي كلا الحالين كان هؤلاء من حيث الانتماء الفكري ماركسيين، ويمتلكون ثقافة واطلاعاً أدبياً ومسرحياً واسعاً، مما أهلهم للولوج إلى عوالم بريشت من الباب العريض ولهضم أسس وتطورات مسرحه في سياقه وظرفها التاريخي، فلم يخلطوا بين مراحله الإبداعية ويقفزوا بينها، بل استوعبوا أسباب ظهوره ثم تجاوزه مرحلة معينة، رابطين بين الكتابة المسرحية والنظرية والممارسة العملية للإخراج، إلى جانب مواقفه من الظواهر المسرحية والسياسية والاجتماعية، فأدركوا سلّم تطوره من المرحلة المبكرة إلى التعليمية فالملحمية فالجدلية، وكذلك حقيقة علاقته بستانسلافسكي وما يرخولد وفاغتانغوف وشكسبير وفرانسوا فيون وجدانوف ولوكاتش، ففهموا لماذا لم يطرح بريشت في مسرحياته مثال البطل الإيجابي كما طالبت به الواقعية الاشتراكية المؤطرة. ومع كل هذا جاءت أعمال هؤلاء المسرحيين العرب منذ مطلع السبعينيات متباينة في أدوات تعبيرها وبنياتها الفنية، رغم اتفاقها من حيث الأسس الفكرية والسياسية.‏

في الدورة الثالثة لمهرجان دمشق المسرحي عام 1971، وخلال الندوة الفكرية التي انعقدت على هامشه قام جدل هام بين السوري سعد الله ونوس واللبناني جلال خوري حول الهوية السياسية للمسرح الذي يحتاجه العرب في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخهم، شارك فيه عدد كبير من المسرحيين العرب المساهمين في تلك الدورة. وقد رأى ونوس آنئذ أن مصطلح المسرح السياسي بمفهوم إرفين بيسكاتور فضفاض لا ينسجم مع مهمات المرحلة، إذ أن كل مسرح هو من موقعه سياسي، حتى وإن لم يعلن ذلك، وطرح ونوس بدلاً عنه مصطلح «مسرح التسيبس» الذي عليه أن يؤسس لدى المتفرج المعاصر لوعي جديد. ولتحقيق ذلك لا بد للمسرحي من معرفة جمهوره وسبر خلفياته الثقافية والاجتماعية والسياسية وذائقته الفنية، لكي لا يبقى علامة استفهام مجهولة الهوية، فتضيع الرسالة الفكرية الفنية التي ينبغي للمسرحي تسريبها إليه بهدف التأثير فيه. ومن هنا تحديداً عاد ونوس إلى تجربة الرواد العرب في منتصف القرن التاسع عشر، فدرس بعمق محاولات تجذيرهم للفن المسرحي في التربة العربية، وعرف كيف يوائم ما بين إنجازاتهم وما يمكن الاستفادة منه من مسرح بريشت للبيئة السورية في الظروف الراهنة. وإذا استعدنا في ذاكرتنا مسرحيات ونوس منذ السبعينيات، مثل «سهرة مع أبي خليل القباني» و«مغامرة رأس المملوك جابر» و«الملك هو الملك»، بل حتى بعض مسرحياته الأخيرة، مثل «منمنمات تاريخية» و«ملحمة السراب» و«طقوس الإشارات والتحولات» لأدركنا مدى استيعابه الإبداعي لمسرح بريشت، ومدى اندغامه كذلك في بنية مجتمعه العربي، وذلك من خلال البنية الملحمية والحكاية أو الأمثولة، والتأكيد على التأريخية وبنية النص المفتوح التي تتكامل عبر الارتجال في عملية الإخراج. وقد أرفق ونوس كتابته المسرحية بمجموعة مقالات نظرية جمعها ونشرها تحت عنوان «نحو مسرح عربي جديد» أوضح فيها مواقفه من فن المسرح ودوره الاجتماعي. كما ساهم من خلال «مجلة الحياة المسرحية» وعبر مراجعته لعدد من ترجمات بريشت إلى العربية في تصحيح صورة هذا الفنان بالنسبة للقارئ العربي.‏

أما جلال خوري فقد ظهر منذ مطلع السبعينيات في بيروت كمخرج ومؤلف مسرحي في آن معاً، فجمع بذلك ناصيتي الإبداع في شخص واحد، كما هو الحال عند بريشت تقريباً، فلم يكتف بإخراج مسرحياته، بل قدم أعمالاً لبريشت كان لها كبير الأثر في حركة المسرح اللبناني حينذاك؛ ومن لا يذكر انطوان كرباج في دور آرتورو أوي؟ هذا الديكتاتور الذي يصعب إيقافه عند حده، حسب العنوان الأصلي للمسرحية. أما بصمة بريشت في مؤلفات جلال خوري فقد كانت جلية لا تخطئها العين، سواء في «وايزمانو بن غوري وشركاه» أم في «سوق الفعالة» وغيرها، بل وحتى في «الرفيق سجعان»، آخر أعماله ضمن هذا الاتجاه، التي قدمت بالألمانية على مسرح مدينة روستوك في ألمانيا الديمقراطية. لقد حاول جلال خوري في جلّ أعماله أن يزاوج بين بيسكاتور وبريشت بغية تحقيق الأثر السياسي آنياً في الصالة، وتفعيل الجمهور وحثه على اتخاذ موقف مما يجري حوله على الصعيد السياسي. كما دعم من موقعه كفنان مسرحي شهيراً آنذاك إصدارات دار الفارابي لترجمات بريشت الجديدة، مخططاً لنشر مؤلفاته الكاملة، إلا أن ظروف الحرب الأهلية اللبنانية أعاقت هذا المشروع. واللافت للنظر في الموقف من اللغة المسرحية بين ونوس وخوري هو تبني الأول للعربية الفصحى وتوجه الثاني نحو الدارجة اللبنانية.‏

أما في مصر، البلد الذي تلقى الأصداء الأولى لمسرح بريشت منذ نهاية الخمسينيات وترجم الكثير من أعماله إلى جانب نشر الكثير من الدراسات عنه من مواقع موالية ومعارضة على حد سواء، فقلما نعثر على كاتب بارز تجلت في مسرحياته تأثيرات بريشت، إلا إذا اعتبرنا البنية الملحمية في مسرحيات نجيب سرور الشعرية مثل ثلاثية «ياسين وبهية ـ آه ياليل يا قمر ـ آه يا بلد» و«أوبرا الشحاتين» دلالة غير مباشرة على تأثره بمسرح بريشت الشعري في إطار توجهه الوطني ذي الصبغة اليسارية. وفي الوقت نفسه نجد المخرج كمال عيد، خريج هنغاريا، يسيء فهم مسرحيات بريشت المبكرة مثل «بعل» و«طبول في الليل» و«في أدغال المدن» مصنفاً إياها ضمن التيار التعبيري الأوربي، رغم أنها تمثل موقف بريشت الناقد للفكر والفن التعبيريين في ألمانيا، نظراً لأن هذا التيار قد مجد العبقرية الفردية المعزولة عن ظروف التاريخ والبيئة. كما نجد مخرجاً آخر هو سعد أردش الذي درس في إيطاليا، واطلع هناك على تجارب جورجيو ستريلر في «بيكولوتياترو ميلانو» يحاول في بعض أعماله الإخراجية استلهام منهج بريشت في الإخراج والتمثيل، ولكن دونما نجاح ملحوظ، إذ يستحيل أخذ الجزء نيابة عن الكل.‏

لسنا هنا بصدد الدفاع عن بريشت وفنه المسرحي، فهو لا يحتاج إلى ذلك؛ إلا أن اهتمام ألمانيا الموحدة بالاحتفال بمئويته في العاشر من شباط/فبراير 1998 إلى جانب الاحتفالات الأخرى في مختلف أنحاء العالم تدل بلا شك على أهمية موقعه كأديب ومسرحي ومفكر. وما الضجة الإعلامية التي أثارها كتاب الأمريكي جون فوجي «بريشت وشركاه» إلا فقاعة سوق تجاري يبحث عن مناسبة للربح السريع.‏

في كتابه الهام «المساحة الفارغة» قال المخرج البريطاني الشهير بيتر بروك ما معناه: «لا يسعنا فهم واستيعاب المسرح في العالم بعد الحرب العالمية الثانية دون وقفة متأنية عند مسرح بريشت».‏

خمس صعوبات لدى كتابة الحقيقة‏

عن كتاب: «في الواقعية»، تأليف برتولت بريشت‏

إن من يريد اليوم مكافحة الكذب والجهل، ومن يريد كتابة الحقيقة عليه في الحد الأدنى أن يتغلب على خمس صعوبات، عليه أن يتحلى بالجرأة على كتابة الحقيقة رغم أنها تضطهد في كل مكان؛ وأن يمتلك الذكاء للتعرف عليها رغم أنها تخفى في كل مكان؛ وأن يملك فن استخدامها سلاحاً، وأن يكون قادراً على الحكم باختياره أولئك الذين تصبح الحقيقة في أيديهم فعالة؛ وأن يمتلك الدهاء لنشرها بين هؤلاء. إن هذه الصعوبات جسيمة بالنسبة للذين يكتبون تحت سيطرة النازية، ولكنها تشمل أيضاً الملاحقين والفارين، وحتى أولئك الذين يكتبون في البلدان التي تسود فيها الحرية البورجوازية.‏

ـ1ـ‏

الجرأة على كتابة الحقيقة‏

يبدو من البدهي أن على الكاتب كتابة الحقيقة، بمعنى أن من واجبه ألا يضطهدها أو يخفيها، وألا يكتب شيئاً كاذباً. عليه ألا ينحني أمام الأقوياء وألا يخدع الضعفاء. إنه لمن الصعب جداً طبعاً ألا ينحني المرء للأقوياء؛ وخداع الضعفاء يكسب المرء امتيازات كبيرة. فقدان إعجاب أصحاب الملكية يعني التنازل عن الملكية. والتخلي عن أجر عمل منجز يعني، في ظروف ما، التخلي عن العمل، وغالباً ما يعني رفض المجد لدى الأقوياء رفضاً للمجد كلية. وهذا بحاجة لجرأة. إن الزمن الذي تسود فيه ذروة الاضطهاد، هو الزمن الذي يكثر فيه الحديث عن الأشياء العظيمة والسامية. وفي مثل هذا الزمن تصبح الجرأة ضرورية للتحدث عن الأمور البسيطة والصغيرة، كطعام الكادحين وسكنهم، وفي خضم الصراخ العارم تصبح التضحية القضية الرئيسية. عندما يغمر الفلاحون بالثناءات، يكون من الجرأة التحدث عن الآلات والأسمدة الرخيصة التي ستسهل عليهم عملهم، عندها يكون من الجرأة أن يسأل: عما إذا لم يكن الجوع والجهل والحرب سبباً في وجود كائنات مشوهة بصورة رهيبة. والجرأة ضرورية أيضاً لقول الحقيقة عن الذات، عن المهزوم. كثير من الملاحقين يفقدون القدرة على إدراك أخطائهم. وتبدو لهم الملاحقة كأبشع أنواع الظلم. وبما أن الملاحِقين هم الذين يقومون بالملاحقة، فهم لذلك أشرار، أما الملاحَقون فسبب ملاحقتهم هو طيبتهم. لكن هذه الطيبة ضربت وهزمت ومنعت، ولهذا فإنها كانت طيبة ضعيفة سيئة غير صامدة وغير أهل للثقة، فالضعف ليس صفة خاصة بالطيبة ككون البلل خاصاً بالمطر. فما يحتاج قوله إلى جرأة هو أن الطيبين قد هزموا بسبب ضعفهم لا بسبب طيبتهم. بالطبع يجب أن تكتب الحقيقة في صراعها ضد اللا حقيقة، ويجب ألا تكون شيئاً عاماً، رفيعاً وقابلاً للتأويل. فاللا حقيقة هي بالتأكيد نتيجة لهذا العام، الرفيع والقابل للعديد من التأويلات. وعندما يقال إن أحدهم قد قال الحقيقة، فهذا يعني مبدئياً أن البعض أو الكثير أو واحداً فقط قد قال شيئاً آخر، كذبة، أو شيئاً عاماً، أما هو فقد قال الحقيقة، قال شيئاً عملاً، فعلياً، غير قابل للدحض، قال جوهر القضية.‏

إن الاحتجاج على سوء العالم وعلى انتصار الشراسة بشكل عام، والتهديد بانتصار الفكر في ذلك الجزء من العالم حيث ما زال هذا مسموحاً به، كل هذا لا يحتاج إلى القليل من الجرأة. هناك الكثير ممن يظهرون، وكأن المدافع موجهة نحوهم، في حين أن الموجه نحوهم هو فقط مناظير الأوبرا. إنهم يرفعون حناجرهم بمطاليبهم في عالم من الأصدقاء والناس المسالمين. إنهم يطالبون بعدالة عامة، لم يفعلوا شيئاً من أجلها أبداً؛ ويطالبون بحرية عامة، من أجل الحصول على جزء من غنيمة سبق وأن اقتسموها منذ مدة طويلة. الحقيقي من وجهة نظرهم هو فقط ما يبدو جميلاً. ولكن عندما تكون الحقيقة عملية رياضية أو شيئاً جافاً، وثائقياً، شيئاً يحتاج بلوغه إلى جهد ودراسة، فإنها بالنسبة إليهم لا حقيقة، لا تخدر ولا تولد النشوة. إنهم لا يملكون من صفات من يقول الحقيقة سوى المظهر الخارجي. إن الشقاء معهم هو أنهم لا يعرفون الحقيقة.‏

ـ2ـ‏

ذكاء التعرف على الحقيقة‏

بما أن كتابة الحقيقة أمر صعب، لأنها تضطهد في كل مكان، تعتقد الأغلبية أن كتابة الحقيقة أو كتمانها مسألة ضمير، واعتقادها هذا، أمر يحتاج إلى جرأة، فقط. لكنها تنسى الصعوبة الثانية، صعوبة العثور على الحقيقة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستخفاف بمسألة العثور على الحقيقة. ليس من السهل مبدئياً أن نجد الحقيقة الجديرة بالقول. فمثلاً، الآن، وعلى مرأى من العالم أجمع، تغرق أكثر دول العالم تحضراً، دولة بعد أخرى، في أبشع أنواع البربرية. ويعلم الجميع في هذا المجال أن الحرب الداخلية التي تنفذ بأرهب الوسائل يمكن أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى حرب خارجية، قد تترك هذا الجزء من العالم وراءها أنقاضاً على أنقاض. هذه حقيقة لاشك فيها، ولكن هناك طبعاً حقائق أخرى. فمثلاً، ليس من الكذب في شيء أن يقال إن للكرسي مساحة للجلوس وإن المطر يهطل من الأعلى نحو الأسفل. كثير من الأدباء يكتبون حقائق من هذا القبيل. ومثلهم في هذا مثل الرسامين الذين يغطون جدران السفن الغارقة بلوحات طبيعة صامتة. إن صعوبتنا الأولى لا تسري عليهم، ومع هذا فهم يتمتعون بضمير جيد. إنهم يتابعون رسم لوحاتهم بعيداً عن تأثير نفوذ الأقوياء، ولكن في الوقت نفسه أيضاً بعيداً عن صراخ المغتصبين. إن فقدان سلوكهم لأي معنى يولد في أنفسهم بالذات تشاؤماً «عميقاً» يبيعونه بأسعار مرتفعة، في حين أن هذا التشاؤم قد يكون في الواقع أكثر ملاءمة لآخرين، بمقارنتهم مع هؤلاء الأساتذة وهذه المبيعات. ومع هذا فليس من السهل أبداً إدراك أن حقائقهم هي من فصيلة حقائق الكراسي والمطر، لأن صداها عادة يبدو وكأنه صدى حقائق عن قضايا مهمة. فالتشكيل الفني يتجسد بإكساب شيء ما أهمية ما.‏

ولدى إمعان النظر فقط، يدرك الإنسان أنهم لا يقولون سوى: «الكرسي هو الكرسي» و: «ليس في وسع أي كان أن يفعل شيئاً ضد هطول المطر نحو الأسفل».‏

إن هؤلاء لا يجدون الحقيقة الجديرة بالقول. في حين أن آخرين منهمكين فعلاً بالواجبات الأكثر إلحاحاً، لا يخافون أصحاب السلطة ولا الفقر، ومع هذا فهم غير قادرين على العثور على الحقيقة. إن ما ينقصهم هو المعرفة. وهم متخمون بالمعتقدات الغيبية القديمة. وبالأحكام المسبقة الشهيرة التي صيغت في الأزمان الغابرة بشكل جميل. والعالم من منظورهم بالغ التعقيد، وهم لا يعرفون الوقائع ولا يدركون العلاقات. وبالإضافة للمعتقدات، هناك ضرورة للمعارف المكتسبة وللأساليب المدروسة. إن كل الكتاب في هذا العصر، عصر التعقيدات والتغيرات الكبيرة، بحاجة لمعرفة المادية الديالكتيكية والاقتصاد والتاريخ. ويمكن الحصول على هذه المعرفة من الكتب وعن طريق المشاركة العملية، هذا إذا توفرت الجدية الضرورية. إن بمقدور الإنسان كشف الكثير من الحقائق بطريقة أكثر سهولة، وذلك بكشف أجزاء أو جوانب منها تقود للعثور عليها كلها. إذا أراد الإنسان أن يبحث، فلا بأس بطريقة ما، ولكن بمقدوره أن يجد الحقيقة دون طريقة، بل وحتى دون بحث. ولكن الإنسان لا يصل بطريق المصادفة لعرض الحقيقة بحيث يعرف الناس، بناءً على هذا العرض، كيف عليهم أن يتصرفوا. إن أولئك الذين لا يدونون إلا الوقائع الصغيرة لا يستطيعون جعل هذا العالم قابلاً للتعامل معه. ولكن ليس للحقيقة من هدف آخر سوى هذا. لذلك فإن هؤلاء الناس غير أكفياء للتصدي للمطالبة بكتابة الحقيقة.‏

إذا كان إنسان ما مستعداً لكتابة الحقيقة وقادراً على التعرف عليها، تبقى أمامه ثلاث مصاعب.‏

ـ3ـ‏

فن استخدام الحقيقة كسلاح‏

يجب أن تقال الحقيقة بسبب نتائجها المنبثقة عنها من أجل تحديد الموقف. وكمثال على حقيقة لا تنبثق عنها أية نتائج، أو تنبثق عنها نتائج مغلوطة، يمكن ذكر الرأي الشائع بأن بعض البلدان تسودها أوضاع سيئة ناتجة عن البربرية. وتبعاً لهذا الرأي تكون النازية موجة من البربرية اجتاحت بعض البلدان بقوة الطبيعة.‏

وتبعاً لهذا الرأي تكون الفاشية سلطة جديدة ثالثة إلى جانب (وفوق) الرأسمالية والاشتراكية؛ وتبعاً لهذا الرأي يمكن ليس فقط للحركة الاشتراكية بل للرأسمالية أيضاً أن تستمر دون الفاشية. إن هذه طبعاً مقولة فاشية، أي استسلام أمام الفاشية. إن الفاشية مرحلة تاريخية دخلتها الرأسمالية، وبهذا فهي شيء جديد وقديم في الوقت نفسه.‏

فالرأسمالية لا توجد في الدول الفاشية إلا بشكلها الفاشي، ولا يمكن الكفاح ضد الفاشية إلا كشكل من أشكال الرأسمالية، كأشد أشكالها رعباً ووقاحة واضطهاداً وخداعاً.‏

فكيف يريد أحدهم أن يقول الحقيقة عن الفاشية التي يعاديها إذا كان لا يريد قول أي شيء عن الرأسمالية التي أنتجتها؟ أي شكل عملي يمكن للحقيقة أن تأخذ؟‏

إن مثل من يناهض الفاشية دون أن يعادي الرأسمالية، ومن يتأسف على البربرية وليدة البربرية، مثله كمثل من يريد أكل حصة من الخروف، ولكن دون أن يذبح الخروف. يريدون أكل الخروف، لكنهم لا يريدون رؤية الدم. ويمكن إرضاؤهم بأن يغسل الجزار يديه قبل أن يقدم لهم اللحم. إنهم ليسوا ضد علاقات الملكية التي تنتج البربرية، إنهم ضد البربرية فقط. إنهم يرفعون أصواتهم ضد البربرية، وهم يفعلون هذا في بلدان تسود فيها علاقات ملكية مشابهة، لكن الجزارين هناك ما زالوا يغسلون أيديهم قبل تقديم اللحم.‏

قد يكون للاتهامات الصريحة ضد الإجراءات الهمجية تأثير لفترة قصيرة، طالما بقي المستمعون يعتقدون بأن مثل هذه الإجراءات لن تأخذ طريقها إلى بلدانهم. وما زالت الديمقراطية تقدم لهؤلاء الخدمات التي يلجأ الآخرون إلى العنف لتحقيقها، كضمان ملكية وسائل الإنتاج مثلاً. إن احتكار المعامل والمناجم والأراضي يسبب في كل مكان أوضاعاً بربرية؛ لكن هذا على أية حال أقل وضوحاً. فالبربرية لا تتوضح إلا عندما لا يعود من الممكن حماية الاحتكار إلا بالعنف المكشوف فقط.‏

هناك بعض البلدان التي ليست في حاجة بعد، بسبب الاحتكارات البربرية، إلى التخلي حتى عن الضمانات الشكلية في بلد يسوده القانون، ولا عن نِعم كالفن والفلسفة والأدب، وتتصف هذه البلدان بنوع خاص من المتعة لزوارها الذين يكيلون التهم لدولهم بسبب تخليها عن مثل هذه النعم التي سيستفيدون منها في الحروب المرتقبة، فهل على الإنسان أن يقول إن هؤلاء قد وجدوا الحقيقة، عندما يطالبون مثلاً بأعلى صوتهم: بحرب لا رحمة فيها ضد ألمانيا، «لأنها موطن الشر الحقيقي في هذا العصر، فرع من الجحيم ومرتع للمسيح الدجال؟». الأولى بالإنسان أن يقول: إن هؤلاء الناس حمقى، ضعفاء ومفسدون. فنتيجة هذه الثرثرة ستعني إفناء هذا البلد كله وبجميع سكانه، فالغازات السامة لا تنتقي المذنبين عندما تفتك بالبشر.‏

إن الإنسان المتهور الجاهل بالحقيقة، يعبر عن نفسه بشكل عام مفخم وغير دقيق. إنه يثرثر بكلام لا معنى له عن «الـ» ألمان ويندب «الـ» شر، فلا يدري السامع في أفضل الأحوال ما الذي يجب عليه أن يفعله. هل يقرر ألا يكون ألمانياً؟ هل يختفي الجحيم إذا كان هو طيباً؟ إن الكلام الدائر حول البربرية التي هي وليدة البربرية، له الطابع نفسه أيضاً. فتبعاً لهذا الكلام تأتي البربرية من البربرية، وتنتهي عن طريق التسامي الأخلاقي الناتج عن الثقافة. إن هذا التعبير مفرط في العمومية، لا يدفع على العمل، وهو في الأساس غير موجه لأحد بالتحديد.‏

إن تفسيرات من هذا القبيل لا تكشف سوى حلقات قليلة من سلسلة الأسباب، وهي تكرس قوى محركة معينة كقوى لا يمكن التحكم بها. وإنها تنطوي على ظلام حالك يخفي القوى المسببة للكوارث، وقليل من النور يكشف للعيان أناساً مسؤولين عن الكوارث! فنحن نعيش في عصر مصير الإنسان فيه هو الإنسان نفسه.‏

إن الفاشية ليست كارثة طبيعية؛ يمكن إدراكها من «طبيعة» الإنسان. وحتى فيما يتعلق بالكوارث الطبيعية؛ هناك تفسيرات جديرة بالإنسان لأنها تستصرخ فيه قوة النضال.‏

كان باستطاعة الإنسان أن يرى في كثير من المجلات الأميركية صوراً للزلزال الكبير الذي نزل بيوكوهاما تبدو المدينة فيها كأكوام من الأنقاض. وكتب تحت هذه الصور «لقد صمد الفولاذ»، وفعلاً، إن من لم ير من النظرة الأولى سوى الأنقاض، سيرى الآن ـ وقد لفت التعليق نظرة ـ بعض العمارات العالية التي صمدت. إن أهم التفسيرات التي يمكن للمرء أن يقدمها حول الزلزال هي تفسيرات المهندسين المدنيين التي تدرس تحرك التربة وقوة الصدمة والحرارة المتصاعدة وأشياء أخرى تؤدي جميعها إلى تصميمات يمكنها أن تقاوم الصدمة. إن من يريد وصف الفاشية والحرب والكوارث الكبيرة التي هي ليست كوارث طبيعية يجب عليه أن يوجد حقيقة عملية ومفيدة. يجب أن يكشف أن سبب هذه الكوارث التي تصيب الجماهير العاملة التي لا تملك وسائل إنتاج، هو مالكو هذه الوسائل.‏

إذا أراد الإنسان كتابة الحقيقة بشكل ناجح عن الأوضاع السيئة، فيجب أن يكتبها بحيث يمكن التعرف على أسبابها التي يمكن تجنبها. فعندما تدرك هذه الأسباب يصبح النضال ضد الأوضاع السيئة ممكناً.‏

ـ4ـ‏

القدرة على الحكم لدى اختيار الذين تصبح الحقيقة في أيديهم فعالة‏

نتيجة للعادات المتبعة منذ مئات السنين في حقل التجارة بالإنتاج الكتابي في سوق الأفكار والعروض الوضعية، وذلك بإبعاد الكاتب عن الاهتمام بمصير ما يكتب، اعتقد هذا الكاتب بأن زبونه أو مكلفه بالعمل أو وسيطه سيوزع المادة المكتوبة على الآخرين. فظن: أنا أتكلم، ومن يريد أن يسمع، يسمعني. لكن الحقيقة هي أنه تحدث، أما من استمع إليه، فهم القادرون على الدفع. لم يسمع الجميع ما قال، ومن استمع، لم يرغب بسماع كل ما قيل. لقد قيل الكثير حول هذا الموضوع، ومع هذا فإنه أقل من قليل؛ وأريد أن أؤكد هنا على أن عملية «الكتابة لإنسان ما» قد تحولت لعملية «كتابة». فلا يمكن للإنسان أن يكتب الحقيقة فقط، بل يجب أن يكتبها لإنسان ما يستطيع أن يعتمد عليها لعمل ما. إن التعرف على الحقيقة عملية مشتركة بين الكتاب والقراء. ولكي يكتب الإنسان شيئاً جيداً، يجب عليه أن يحسن الاستماع وأن يسمع ما هو جيد. يجب أن تقال الحقيقة بحساب وأن تسمع بحساب. ومن المهم بالنسبة لنا، نحن الكتاب أن نعرف لمن نكتب الحقيقة، ومن الذي يخبرنا بها.‏

يجب أن نقول الحقيقة عن الأوضاع السيئة للذين يعانون من أشدها سوءاً، ويجب أن نعرفها منهم. يجب ألا يخاطب الإنسان أناساً من عقيدة معينة، بل عليه أن يتجه إلى أولئك الذين تنبع عقيدتهم من وضعهم. يجب أن يتغير المستمعون إليكم دوماً! ومن الممكن مخاطبة حتى الجلادين عندما يتوقف الدفاع عن عمليات الإعدام أو عندما يتجاوز الخطر الحد. لقد كان فلاحو منطقة بافاريا ضد أي انقلاب، ولكن عندما طال أمد الحرب وعاد الأبناء لبيوتهم ليجدوا ألا مكان لهم في بيوتهم؛ صار من الممكن كسب الفلاحين لصالح الانقلاب.‏

إنه لمن المهم بالنسبة للكتاب أن يجدوا الصوت الملائم لقول الحقيقة. عادة يسمع الإنسان صوتاً ناعماً متألماً عن أناس ليس بإمكانهم إيذاء ذبابة. إن من يعيش البؤس ويسمع صوتاً كهذا، فإنه سيزداد بؤساً. إن من يتحدث هكذا، قد لا يكون عدواً، لكنه بالتأكيد ليس رفيق نضال. الحقيقة أمر حربي. إنها لا تكافح الكذب فقط، بل تكافح أيضاً ضد من ينشره.‏

ـ5ـ‏

دهاء نشر الحقيقة بين الكثيرين‏

إن الكثيرين من الفخورين بكونهم يمتلكون الجرأة على قول الحقيقة، ومن السعداء بالحصول عليها، وربما من المتعبين نتيجة الجهد الذي كلفهم جعلها قابلة للتناول، ومن المنتظرين بفارغ الصبر تدخل من يدافعون عن مصالحهم، كل هؤلاء يعتقدون بأنه ليس من الضروري اللجوء إلى دهاء خاص من أجل نشر الحقيقة. وهكذا فإن عملهم يفقد غالباً كل مفعوله. في العصور كافة ، عندما كانت الحقيقة تضطهد وتموه، كان الناس يلجؤون إلى الدهاء في سبيل نشرها. لقد زيف كونفوشيوس لائحة زمنية للتاريخ البطولي بأن لجأ فقط إلى تبديل كلمات معينة. فبدلاً عما ورد في النص: «لقد أمر حاكم كون بموت الفيلسوف لأنه نطق بكذا وكذا»، وضع كونفوشيوس «باغتيال» عوضاً عن بموت. وكذلك بدل كلمتي «قتل غيلة» بـ «أعدم شنقاً» في النص: «لقد قتل الطاغية فلان غيلة». وهكذا شق كونفوشيوس لنفسه طريقاً في عملية تقييم التاريخ.‏

إن من يستخدم في عصرنا تعبير السكان بدلاً من الشعب، وأراضي الإقطاع بدلاً من الأرض، يكون قد توقف عن دعم الكثير من الأكاذيب، وذلك بتفريغ الكلمات من محتواها الغيبي المتعفن. إن كلمة شعب تعبر عن حركة معينة نحو التوحيد وتشير إلى مصالح مشتركة، ولهذا يجب ألا تستخدم هذه الكلمة إلا عندما تتعلق القضية بعدد من الشعوب، لأنه لا يمكن تصور المصالح المشتركة إلا في حالة كهذه. أما مصالح قطاع معين من الأرض فهي مختلفة ومتناقضة، وهذه حقيقة مضطهدة. إن من يستخدم تعبير الأرض، ويصف تأثير لون الحقول ولا تتعلق بحب الإنسان لها ولا بالنشاط في العمل فيها، بل تتعلق في المقام الأول بسعر الحبوب وبسعر العمل. إن الذين يجنون الأرباح من الأرض ليسوا هم الذين يجمعون الحبوب منها، وقاعات البورصة لا تعرف رائحة التربة، فهناك تفوح رائحة مختلفة. وعلى العكس تكون كلمة أراضي الإقطاع هي التعبير الصحيح، لأن الإنسان لا يمكن أن يخدع به كثيراً. وفي المكان الذي يسود فيه الاضطهاد يجب على المرء استبدال كلمة نظام بكلمة طاعة، لأنه من الممكن أن يسود النظام دون حكام، وبهذا يكتسب أصالة أكثر من الطاعة. وبدلاً من كلمة الشرف يفضل استخدام تعبير كرامة الإنسان، فبهذا يبقى الفرد موجوداً ضمن حقل الرؤية. أفلا يعرف الإنسان حق المعرفة أي أنذال يقحمون أنفسهم للدفاع عن شرف شعب من الشعوب! وبأي تبذير يوزع المتخمون الشرف على من يشبعهم وهو جائع. إن دهاء كونفوشيوس ما زال قابلاً للاستخدام حتى اليوم. لقد بدل كونفوشيوس أحكاماً غير مبررة، بأحداث وبأحكام مبررة. أما الإنكليزي توماس مور فقد وصف في «يوتوبيا» بلداً تسوده أوضاع عادلة ـ كان هذا البلد مختلفاً كل الاختلاف عن البلد الذي عاش فيه، لكنه كان يشبهه كثيراً، حتى من ناحية الظروف!‏

لقد أراد لينين، الذي كانت شرطة القيصر تهدده، أن يصف الاستغلال والاضطهاد النازلين بجزيرة سخالين من قبل البرجوازية. فاستخدم اليابان بدلاً من روسيا، وكوريا بدلاً من سخالين. فذكّرت أعمال البورجوازية اليابانية جميع القراء بأعمال البورجوازية الروسية في سخالين، لكن المقال لم يمنع لأن اليابان كانت في حالة عداء مع روسيا. إن الكثير مما لا يمكن أن يكتب في ألمانيا عن ألمانيا، يمكن أن يقال عن النمسا.‏

هناك أنواع مختلفة من الدهاء يمكن بها خداع الدولة المرتابة.‏

لقد استطاع فولتير محاربة اعتقاد الكنيسة بالمعجزة، بأن كتب قصيدة مهذبة عن عذراء أورليانز وصف فيها المعجزة التي لابد وأن حدثت لتفسير بقاء يوهانا عذراء وسط جيش وفي قصر وبين عدد من الرهبان. وعن طريق جزالة أسلوبه وبوصفه لمغامرات جنسية مصدرها حياة الحكام المترفة، غرر فولتير بهؤلاء للتخلي عن دين كان يوفر لهم وسائل تحقيق حياتهم المنحلة. وهكذا خلق فولتير إمكانية وصول أعماله بطرق غير قانونية لأولئك الذين كتبت هذه الأعمال من المهم. وكان الأقوياء من بين قرائه يشجعون نشر هذه الأعمال أو يغضون النظر عنها. فتخلوا بهذا عن جهاز الشرطة الذي كان يدافع عن مسراتهم، وقد أكد لوكريس العظيم كل التأكيد على أنه سيقدم الكثير من جمال أشعاره من أجل نشر الإلحاد الإبيقوري.‏

يمكن لمستوى أدبي رفيع أن يكون فعلياً درعاً للتعبير عن شيء ما، لكنه غالباً ما يوقظ ريبة أيضاً، عندها يمكن للمرء أن يتعمد تخفيض المستوى الأدبي. ويحدث هذا مثلاً، عندما يلجأ أحدهم للشكل المختصر للرواية البوليسية فيدس في مواضع لا تلفت الانتباه وصفاً للأوضاع القائمة الفاسدة، وقد يبرر مثل هذا الوصف كل التبرير اللجوء للرواية البوليسية. ولأسباب أكثر بساطة انحدر شكسبير العظيم بأسلوبه عندما تعمد كتابة حديث الأم كوريولان بشكل ضعيف، هذا الحديث الذي تجابه الأم به ولدها المقدم على غزو مدينته ـ لقد أراد شكسبير ألا يتخلى كوريولان عن خطته نتيجة أسباب حقيقية أو انجرافٍ عاطفي عميق، بقدر ما كان نتيجة خمول جعله يستسلم لعادة قديمة. ولدى شكسبير أيضاً نجد نموذجاً فريداً لنشر الحقيقة، في خطبة أنطوني على قبة القيصر. فقد كان أنطوني يؤكد باستمرار على أن بروتوس قاتل القيصر هو رجل شريف، لكنه كان يصف أيضاً فعلته، بحيث كان وصف الفعلة أشد وقعاً من وصف فاعلها؛ فكان الخطاب يترك نفسه لينجرف وراء الوقائع فيسبغ عليها قدرة على الإقناع أكبر مما «لديه». هناك أديب مصري استخدم أسلوباً مشابهاً قبل أربعة آلاف سنة، في فترة صراعات كبيرة بين الطبقات. آنذاك، لم تستطع الطبقة الحاكمة الصمود إلا بجهد كبير في وجه عدوها الكبير، أي في وجه ذلك الجزء من السكان الذي كان يقوم بأعمال الخدمة. وفي القصيدة يتقدم حكيم إلى بلاط الحاكم داعياً للنضال ضد الأعداء الداخليين. فيصف بشكل مطول ومؤثر الفوضى التي سببتها انتفاضة الفئات السفلى. ويبدو هذا الوصف على الشكل التالي:‏

هكذا هو الأمر فعلاً: الكبراء مليؤون بالشكوى والبسطاء بالبهجة. كل مدينة تقول: لنطرد الأقوياء من بيننا.‏

هكذا هو الأمر فعلاً: تفتح مكاتب الحكومة وتسرق لوائحها؛ فيصبح العبيد أسياداً.‏

هكذا هو الأمر فعلاً: ما عاد بالإمكان التعرف على ابن رجل محترم، لقد أصبح ابن السيدة ابناً لعبدتها.‏

هكذا هو الأمر فعلاً: لقد شد المواطنون إلى أحجار الطواحين. ومن لم ير نور الشمس طوال حياته، خرج.‏

هكذا هو الأمر فعلاً: إن صناديق الضحايا الأبنوسية تهشم، ويحول الخشب الإلهي إلى أسرة.‏

انظروا: لقد سقط مقر الحكم خلال ساعة واحدة.‏

انظروا: فقراء البلد أصبحوا أغنياءها.‏

انظروا: من لم يكن لديه خبز، أصبح يملك الآن مستودع غلال، وما يوجد في مخزن حبوبه كان ملكاً لآخر.‏

انظروا: إن وضع الإنسان يتحسن عندما يأكل طعامه.‏

انظروا: من لم يكن لديه ذرة، أصبح يملك الآن مستودعات غلال؛ ومن كان يجبي ضرائب الذرة، أصبح يوزعها الآن بنفسه.‏

انظروا: من لم يكن لديه ثيران للجر، أصبح يملك الآن قطعاناً، ومن لم يستطع الحصول على حيوانات للحراثة، أصبح يملك الآن قطعاناً للرعي.‏

انظروا: من لم يستطع بناء غرفة لنفسه، أصبح يملك الآن أربعة جدران.‏

انظروا: المستشارون يبحثون عن المأوى في مخازن الحبوب؛ ومن لم يسمح له بقيلولة عند الجدار، أصبح يملك الآن سريراً.‏

انظروا: من لم يكن بمقدوره صنع قارب لنفسه، أصبح يملك الآن سفناً.‏

أيها الملاكون انظروا إليهم، يجب ألا يكونوا هكذا.‏

انظروا: من كان يملك ألبسة، يلبس الآن الأسمال، ومن لم يحك لنفسه شيئاً، يملك الآن حريراً فاخراً.‏

الغني ينام ظمآنَ؛ فمن كان يعتني برنانه، أصبح يملك الآن جعة قوية.‏

انظروا: من لم يفهم موسيقا الجنان، أصبح يملك الآن جنكاً. ومن لم يغن له أحد، أصبحت الموسيقا تمدحه.‏

انظروا: من كان ينام دون زوجة نتيجة النقص، يجد الآن سيدات؛ ومن كانت تنظر لوجهها على سطح الماء، أصبحت تملك الآن مرآة.‏

انظروا: إن كبار رجالات البلد يركضون، دون أن يكون وراءهم مهمة؛ فما عاد أحد يخبر الكبار شيئاً. من كان رسولاً، أصبح يرسل آخرين.‏

انظروا: هناك خمسة رجال أرسلهم أسيادهم. إنهم يقولون: تابعوا الآن طريقكم وحدكم، أما نحن فقد وصلنا.‏

من الواضح أن هذا وصف لحالة فوضى لابد وأن تبدو للمضطهدين كوضع مرغوب فيه جداً، ومع هذا فمن الصعب فهم موقف الشاعر، فهو يدين هذه الأوضاع بوضوح جلي، ولو كانت هذه الإدانة سيئة.. لقد اقترح جوناثان سويفت في كراس بصدد تحسين وضع البلع وازدهاره، أنه يجب على الإنسان أن يملح أطفال الفقراء ويبيعهم كلحم مملح، وقد أورد حسابات دقيقة تبرهن على أن باستطاعة الإنسان توفير الكثير عندما لا يحجم عن الإقدام على أي عمل مهما كان. لقد تغابى سويفت، فبكثير من الحماسة والدقة يرافع عن أسلوب تفكير يكرهه، وذلك في مسألة سفالتها واضحة لكل إنسان. إذ إن باستطاعة أي إنسان أن يكون أكثر ذكاء من سويفت أو على الأقل أكثر إنسانية، وخاصة ذلك الإنسان الذي لم يفحص بعد النتائج المترتبة عن وجهات نظر معينة.‏

إن الدعاية للتفكير مهما كان المجال الذي تجري فيه، مفيدة لقضية المضطهدين. إن مثل هذه الدعاية ضرورية جداً؛ لأن الحكومات التي تخدم الاستغلال تعتبر التفكير أمراً منحطاً. إن ما يعتبر منحطاً هو المفيد للواقعين في براثن الاستغلال. فالقلق الدائم من أجل أن يصل المرء للشبع وازدراء الشرف الذي يقدم للمدافعين عن الوطن وهم يجوعون، والشك بالقائد عندما يقود الناس إلى الكارثة، ورفض الإنسان للعمل الذي لا يسكت جوعه، والاحتجاج الشديد ضد الضغط الذي يدفع لسلوك لا معنى له، واللامبالاة تجاه الأسرة التي فقد الاهتمام أي معنى بالنسبة لها، كل هذه الأمور تعد منحطة. ويكال السباب للجائعين كجشعين ليس لديهم ما يدافعون عنه، كجبناء يشكون بمن يضطهدهم، وكأناس يشكون بقوتهم الذاتية ويطالبون بأجر عن عملهم، وكسالى وما شابه ذلك من شتائم. في ظل سيطرة حكومات كهذه يعتبر التفكير عامة أمراً منحطاً وسيئ السمعة. فيتوقف التدريس في كل مكان، وإن ظهر في مكان ما فإنه يلاحق. وعلى الرغم من هذا، هناك مجالات يمكن للإنسان فيها أن يشير إلى انتصارات الفكر دون أن يتعرض للعقوبة، إنها تلك المجالات التي يضطر الديكتاتوريون فيها لاستخدام الفكر. فبوسع الإنسان مثلاً، البرهنة على نجاحات الفكر في ميداني العلوم الحربية والتقنية. وحتى حياكة مخزون الصوف في المنظمات واكتشاف الأقمشة الاصطناعية يتطلب تفكيراً. إن تخفيض مستوى المواد الغذائية وتدريب الناشئة استعداداً للحرب، كل هذا يتطلب تفكيراً؛ وهذه أمور يمكن وصفها. إن من الممكن بدهاء تجنب مدح الحرب ومدح هدفها المتهور؛ والتفكير المتمخض عن سؤال: ما هي أفضل طريقة لتنفيذ الحرب؟ يمكن أن يؤدي إلى سؤال فيما إذا كان للحرب معنى، بحيث تصبح صيغة السؤال: ما هي أفضل وسيلة لتجنب حرب حمقاء.‏

إنه لمن الصعب طبعاً طرح هذا السؤال علناً. ولهذا، أليس من الممكن الاستفادة من الفكر الذي دعي له، أي بأن يصاغ هذا الفكر بشكل يسمح بالتدخل؟ إن هذا ممكن.‏

إن إمكانية بقاء الاضطهاد في عصر كعصرنا، هذا الاضطهاد الذي يخدم استغلال القسم الأصغر من السكان للقسم الأكبر، يتطلب من السكان اتخاذ موقف جذري شديد الخصوصية، يشمل المجالات كافة. إن اكتشافاً ما في ميدان علم حدائق الحيوان، كاكتشاف الإنكليزي داروين، قد يشكل خطراً مفاجئاً على الاستغلال؛ وعلى الرغم من هذا، لم يهتم بهذا الأمر، ولفترة طويلة، سوى الكنيسة، في حين أن جهاز الشرطة لم يلاحظ شيئاً. كما أدت أبحاث الفيزيائيين في الفترة الأخيرة إلى نتائج في ميدان المنطق، كان من الممكن أن تشكل خطراً على سلسلة من أسس المعتقدات التي تخدم الاضطهاد. ولقد قدم فيلسوف الدولة البروسي هيغل ـ الذي كان منهمكاً بأبحاث صعبة في ميدان المنطق ـ لماركس ولينين، أي لكلاسيكيي الثورة البروليتارية، طرائق لا تقدر بثمن. يجري تطور العلوم بشكل مترابط. ولكن غير متناسب، وليس بمقدور الدولة مراقبة كل شيء. وباستطاعة رواد الحقيقة اختيار ميادين النضال البعيدة نسبياً عن مجال المراقبة. والقضية الرئيسية هي تدريس تفكير صحيح، تفكير يمحص في الجانب المتغير والزائل لكافة الأشياء والأحداث. إن الحكام ينفرون بقوة من المتغيرات الجذرية. ويودون لو يبقى كل شيء على ما هو عليه، ولو استمر هذا ألف عام لكان غاية المطلوب. ونهاية الأرب هي فيما لو ثبت القمر في مكانه وتوقفت الشمس عن الدوران! فعندها لن يجوع أحد فيطالب بطعام عشائه. وعندما يطلقون النار، يجب ألا يسمح للعدو بالرد، إذ يجب أن تكون رصاصتهم هي الأخيرة. إن طريقة المعالجة التي تركز بشكل خاص على إبراز عنصر الزوال هي وسيلة جيدة لتشجيع الاضطهاد، كما أن وجود تناقض يظهر وينمو في كل شيء وفي كل وضع قائم، هو أمر يجب أن يجابه المنتصرون به. إنه لمن الممكن دراسة أسلوب معالجة (كالدياليتيك أو كنظرية سيرورة الأشياء) لدى بحث مواضيع فاتت الحكام فترة من الزمن. فبوسع الإنسان استخدامها في البيولوجيا والكيمياء، ولكن يمكن دراستها أيضاً لدى وصف مصير عائلة ما، دون إثارة الكثير من الشبهات. إن ارتباط كل شيء بأشياء أخرى كثيرة ومتغيرة دوماً، هو فكرة خطيرة لدى الحكام، ويمكن أن تتبدى في أشكال متنوعة دون أن تقدم للشرطة إمكانية الانقضاض. إن وصفاً متكاملاً لمجمل الظروف والعمليات التي تحيط بإنسان افتتح لنفسه دكاناً لبيع الدخان، يمكن أن تكون ضربة قاصمة للنظام الديكتاتوري. إذ أن كل إنسان يفكر، ولو قليلاً، سيعرف السبب. فيجب على الحكومات التي تسوق الجموع البشرية نحو البؤس، حول المصير، والذنب هنا يقع على النقص وليس على الحكومة. إن من يبحث عن أسباب هذا النقص يعتقل قبل أن يصطدم في بحثه بالحكومة، ومن الممكن بشكل عام التصدي للثرثرة الدائرة حول المصير، فيمكن للإنسان أن يبرهن على أن مصير الإنسان هو الإنسان.‏

وقد يتخذ هذا الأمر أشكالاً متعددة. فيمكن ـ مثلاً ـ، سرد قصة بيت أحد الفلاحين، ولنقل قصة بيت فلاح إيسلندي. القرية بأكملها تتحدث عن وجود لعنة حلت بهذا البيت. الفلاحة ألقت بنفسها في البئر، بينما شنق الفلاح نفسه. وذات يوم يقام في هذا البيت عرس، فقد تزوج ابن الفلاح فتاة تملك عدداً من الحقول. تترك اللعنة البيت. أما سكان القرية فقد اختلفوا في الحكم على هذه الانعطافة السعيدة. فالبعض يعزو السبب لطبيعة الفلاح الشاب المشرقة، بينما يعزوها الآخرون للحقول التي دخلت بيت الزوجية مع الزوجة، فجعلته صالحاً للبقاء. ويمكن التوصل إلى شيء ما حتى في قصيدة تصف منظراً طبيعياً، وذلك بتضمين الأشياء التي صنعها الإنسان في الطبيعة.‏

لكي تنتشر الحقيقة، لابد من الدهاء.‏

الخلاصة:‏

إن حقيقة عصرنا الكبرى (التي لم يعمل بعد وفقاً لإدراكها، والتي لا يمكن الوصول دون إدراكها إلى أية حقيقة ذات أهمية) هي أن عالمنا يغرق في البربرية، وذلك لأن علاقات ملكية وسائل الإنتاج باقية عن طريق العنف. إذناً، فما جدوى كتابة جريئة، يفهم منها أن الوضع الذي نغرق فيه وضع بربري (وهذا حقيقة) إذا لم يتضح من هذه الكتابة سبب سقوطنا في هذا الوضع. يجب أن نقول: إن التعذيب قام لأن هناك من يريد بقاء علاقات الملكية. وعندما نقول هذا، فإننا نخسر طبعاً أصدقاء كثيرين من الذين يقفون ضد التعذيب؛ لأنهم يعتقدون بإمكانية المحافظة على علاقات الملكية دون تعذيب (وهذا غير صحيح).‏

يجب أن نقول الحقيقة عن الأوضاع البربرية القائمة في بلدنا، وأنه يمكن العمل على إلغاء هذه الأوضاع وذلك بتغيير علاقات الملكية.‏

وبالإضافة إلى هذا يجب أن نقول الحقيقة لأكثر الناس معاناة من جراء علاقات الملكية القائمة، للذين لهم المصلحة الكبرى بتغييرها، أي للعمال ولأولئك الذين يمكن أن نتوجه إليهم كرفاق في المصالح، لأنهم في الواقع لا يملكون شيئاً من وسائل الإنتاج، ولو كانوا مشاركين في الربح. وخامساً، يجب أن نعمل بدهاء.‏

ويجب أن نحل هذه الصعوبات الخمس في الوقت نفسه؛ لأنه لا يمكننا البحث عن حقيقة الأوضاع البربرية، دون أن نفكر بالذين يعانون منها. وفي حين نكافح دوماً ضد حالات الجبن المفاجئة باحثين عن الروابط الحقيقة المتعلقة بأولئك المستعدين لاستخدامها، يجب علينا أيضاً أن نفكر بإيصال الحقيقية لهم، بحيث تصبح في أيديهم سلاحاً، وأن نستخدم الدهاء بحيث لا يكتشف العدو عملية التوصيل هذه فيعرقلها.‏

كل هذا مطلوب، عندما يطالب الكاتب بكتابة الحقيقة.1935‏

 
 

 

عرض البوم صور معرفتي   رد مع اقتباس

قديم 25-01-10, 10:03 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
يتيمة جابر



البيانات
التسجيل: Sep 2007
العضوية: 44197
المشاركات: 13,147
الجنس أنثى
معدل التقييم: BENT EL-Q8 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 43

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
BENT EL-Q8 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معرفتي المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي

 

تسلم ايدك اخوي..
ماتقصر..

 
 

 

عرض البوم صور BENT EL-Q8   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
موضوع مقالي, بيل الحفار, برتولت بريشت, برتولت بريشت لمحة موجزة عن حياته وأعماله, د. نبيل الحفار, حياته وأعماله
facebook



جديد مواضيع قسم كتب المسرح والدراسات المسرحية
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 10:28 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية