كاتب الموضوع :
Eman
المنتدى :
روايات احلام
للامانة الرواية منقولة من الغالية just faith
الفصل الأول
نظر (( رونان غيرين )) الى وجه المرأه النائمة فى السرير , فأوشك أن يعدل عن قراره . فقد بدت مسالمة بريئة ، ورائعة الجمال .. وكان من الصعب عليه أن ينسى الليلة التى أمضاها معها .. والمشاعر المحمومة المتوهجة التى تبادلاها .. ومع ذلك لا يشعر بوخزة ندم لما يعتزم القيام به .
لكنه عاد فتذكر (( روزالى )) تلك التى تماثلها جمال وبراءة ، فقسى قلبه وثبت عزمه ثم مد يده يلمس كتفها برفق ، قائلا برقة : (( ليلى ... ))
.
لم تجب فى البداية .. فقد كانت مستغرقة فى نوم عميق بعد ليلة حافلة لم يذوقا خلالها طعم النوم . ولأنه لم يشأ أن يعطى نفسه الفرصة ليعيد النظر فى الأمور أو الاستسلام لضعفه أمام منظر البراءة هذا ، هزها بخفة ، ونظر اليها وهى تتمتم بصوت خافت وتتقلب فى مرقدها وعيناها مغمضتان .
- صباح الخير ، يا زوجة .
( صباح الخير يا زوجة ) اخترقت هذه الكلمات سحب النوم المتراكمة حول ذهن ليلى لتصل الى أذنيها غامضة مبهمة مما جعلها تقطب جبينها ناعسة مشوشة . زوجة ؟
وتحركت بتثاقل فى الفراش المريح ، وفتحت عينيها الذهبيتين الداكنتين على اتساعهما لتلتقيا بنظرات الرجل الجالس على حافة السرير وأصابعه القوية مازالت على ذراعها .
- رونان ؟
.
- طبعا ! وكيف يمكنها أن تنسى ولو لحظة ؟ كيف يمحو النوم حقيقة أنها منحت هذا الرجل قلبها كليا ؟ هذا الرجل الذى ألبسها أمس فقط خاتم الزواج ، مقسما على أن يحبها ويحترمها بقية حياته ؟
- تمطت مبتهجة ، ثم استدارت تواجهه : (( صباح الخير ، يا زوجى )) .
- كانت غمزة جفنيها وابتسامتها المغرية الناعسة موجهتين مباشرة الى عينيه الزرقاوين ، وكانت خصلات شعرها الأشقر الطويل قد انتشرت بشكل مثير حول وجهها البيضاوى الشكل على الوسادة الناصعة البياض .
- لكنها دهشت اذ لم تجد الصدى الذى كانت تتوقعه لابتسامتها وغمزتها الداعية . وانما ، بدا لها رونان فاترا بشكل غريب مقلق . فقد ظهرت البرودة على قسمات وجهه الذى يعلوه شعر ناعم بنى داكن .. برودة لا تمت بصلة الى ذلك العاشق المتلهف المحموم المشاعر الذى عرفته الليلة الماضية .
- توهج وجهها احمرارا لذكرى تلك الليلة ، وبللت شفتها السفلى المستديرة بلسانها . وعندما رأت نظراته تتابع هذه الحركة الخفيفة ، سرى فى عروقها شعور بالانتظار الأنثوى .
- - زوجى .
.
عادت تتمتم بهذه الكلمة ، وهى تلفظ كل حرف من حروفها بلهفة .. عندما استرسلت البارحة فى النوم ، كانت واثقة أنها ستستيقظ لتجد نفسها بين ذراعيه القويتين ، تغمرانها وتشعلان النيران فى جسدها .
لذا تملكها الارتباك والقلق وهى تراه الآن جالسا بجانبها ، مرتديا ملابسه ، وقد بدت عليه البرودة واللامبالاة . وسألته وهى تتذكر الرحلة التى سيقومان بها هذا اليوم : (( كم الساعة الآن )) .
- حوالى التاسعة .
- مازال الوقت باكرا ، فماذا تفعل خارج السرير ؟
.
قالت ذلك وهى تنظر الى ملابسه باستنكار . فقد بدت غير ملائمة للرحلة الطويلة التى سيقومان بها الى جزيرة استوائية ليقضيا شهر العسل فيها ... والبذلة الرمادية الأنيقة الفاتحة اللون ، والقميص الناصع البياض ، وربطة العنق المتحفظة ، زادت من شعورها بالارتباك وانتابها احساس بالعزلة والبعد عنه ، فقالت باحتجاج : (( لن تقلع طائرتنا قبل الثالثة .. أمامنا متسع من الوقت )) .
ومدت يدها تلامس يده القوية ، الملقاة على غطاء السرير الأبيض ، وهى تتمتم باغراء : (( عد الى السرير ))
لكن جوابه الوحيد كان هزة نفى بالغة العناد من رأسه الملمع الشعر . استقرت نظراته الكئيبة على (( محبس )) الزواج الذهبى المتألق فى يدها .
فقالت له بصوت حاد غير مصدقة : (( لا ! )) .
أهذا هو الرجل نفسه الذى عرفته خلال الليل ؟ أهو رونان نفسه الذى عاملها بغاية الرقة والحب .
وقالت بصوت خافت محاولة اغوائه : (( ما الذى حدث ، يا حبيبى ؟ أتراك سئمت منى ؟ )) .
وكان لسؤالها هذا ردة فعل مختلفة تماما عما كانت تتوقعه . فقد رفع رونان رأسه بحركة مفاجئة لتلتقى عيناه بعينيها ، وتشتبك برودة نظراته بدفء العنبر فى نظرات ليلى . واذا بشئ فى أعماق تينك العينين ، شئ عكر صفاءهما وجعلها ترتجف توجسا .
- سئمت منك ؟ هذا محال .
.
وليثبت كلامه هذا ، أرفقه بنظرة اشتهاء ساخرة اهتزت لها . ولكن ما أن بدأت ليلى بالعودة الى تلك الأحاسيس الدافئة ، حتى تنبهت الى ما يحف تلك النظرة من برودة جعلت عينيه أشبه بكتلتين من الثلج . قال لها : (( وجودك وحده يشعل النار فى كيانى ، أيتها السيدة ، وأنت تعلمين ذلك . نظرة واحدة اليك تجعلنى أرغب فيك الى درجة أننى أشعر أننى سأموت ان لم أحصل عليك . لكن تلك كفارة على أن أتحملها ))
قال ذلك بصلابة مزعجة .
- كفارة ؟
.
تحول احساسها بعدم الارتياح الى موج كاسح من الاضطراب والقلق ، فتوترت أعصابها بشكل بالغ وهى تقول : (( لم أفهم ! )) .
لم تستطع اخفاء رجفة فى صوتها وهى تندفع جالسة بذعر : (( ما الأمر ، يا رونان ؟ )) .
- أريدك ، يا ليلى .
قال ذلك متجاهلا سؤالها . كانت كل كلمة من كلماته باردة الى حد أن ليلى أجفلت منها وكأنها قطع من الثلج تتساقط على عنقها وكتفيها العاريتين . ثم تابع قائلا : (( ولكننى لن ألمسك بعد الآن أبدا .. على الاطلاق . انتظرت فقط أن تستيقظى لأقول لك الوداع )) .
- الـــ .. الوداع ؟
.
هذا مستحيل . لابد أنها لم تسمع جيدا ، أو أنها نكتة مثيرة للغثيان .. نكتة لم تعجبها مطلقا .. ولكنها ما كانت لتصدق أن يكون رونان بمثل هذه القسوة .
- هذا ليس مضحكا ، يا رونان ؟
- مضحكا ؟
قال ذلك بلهجة لم تكن بحاجة لمزيد من الايضاح .. الا انه أراد أن يخبرها بالأمر باسهاب ودقة فلا يوفر عليها شيئا . فقد أرادها أن تعلم بالضبط ما يجرى ، وأن تفهم معنى الألم الحقيقى .
- هذه ليست نكتة يا عزيزتى ، صدقينى . لم أكن يوما جادا كما أنا فى هذه اللحظة ، لقد انتهى زواجنا . وسأرحل الى غير عودة .
.
- ونهض واقفا بخفة فصدمت وهى تقارن حركته السهلة تلك بالانفعال العنيف الذى يعتمل فى رأسها . وتابع كلامه قائلا : (( وسأدعك تقررين موعد تنفيذ اجراءات الطلاق )) .
- ولكن ..
- والآن ، اذا سمحت ..
وكان فى تصرفه المهذب هذا ما يثبت تصميمه على عدم الرأفة بحالها على الاطلاق .
- أمامى رحلة طويلة بالسيارة .
وعندما كان يجتاز الغرفة لم تستطع ليلى سوى التحديق اليه بذهول واضطراب . وعلى الرغم من أن عينيها الذهبيتين تسمرتا على ظهره ، كانت أفكارها مستغرقة فى أحداث اليوم السابق .. يوم عرسهما .. وحاولت أن تفهم السبب الذى حول سعادتها المتألقة ، الى مثل هذه المشاعر المرعبة الأن .
كيف أمكن لأعظم أحلامها الذى حسبته قد تحقق أن ينقلب ، بهذه السرعة ، الى كابوس ؟ لقد انهار ذلك الانجاز الآن حطاما عند قدميها .
.
ما الذى جعلها لا تشتبه بشئ ؟ من المؤكد أنه كان ثمة دليل ما .. فما ان رفع القناع عن وجه العريس السعيد الى يتطلع الى زواجه بنفس الاثارة واللذه اللتين تملآن قلبها ، حتى ظهرت مشاعره الحقيقيه , ولو كانت المشاعر التى ادعى أنه يكنها لها صحيحة ، لما تصرف بهذا الشكل .
الا أنه لم يبد عليه قط التصنع ، ولم يساورها الشك للحظة واحدة فى صدق مشاعره . فمتى تبددت يا ترى ؟
.
لا .. هذا مستحيل ! لابد أنها تحلم ! ولابد أنها الآن فى كابوس تتلهف للاستيقاظ منه .
وراحت تقرص يدها وذراعها ، داعية الله أن يساعدها على الاستيقاظ من الكابوس .. ولكن شيئا لم يحدث . فهى مستيقظة تماما ، وجهنم هذه حقيقية .
أمس حسبت أنها ملكت العالم ، ووجدت الحب الحقيقى الذى تطلعت اليه طوال حياتها .
كان يوم أمس رائعا ، ولم يثر شئ استياءها سوى شعر رونان .
*********************
.
- حسنا ، هل أنت مستعدة للقيام بأطول مسيرة فى حياتك ؟
- قال (( جورج هاليداى )) هذا لليلى ضاحكا ، ويده تضبط ربطة عنقه المزخرفة ، فوق القماش الحريرى .. كان وجهه المغضن قد لوحته شمس شهر نيسان غير المتوقعة .
- - أطول مسيرة ، يا عمى جورج ؟
- وابتسمت ليلى وهى تنظر الى الرجل الذى لم يكن عمها الفعلى ، ولكنه اكتسب هذا اللقب لطول عهد صداقتهما حين بدأت عملها كبائعة زهور .
كان جورج يبيع الزهور على منصة مجاورة لمنصتها . وقد ساعدها كثيرا عندما انتقلت للعمل فى حانوت صغير مستأجر ، فبقى أقرب الأصدقاء لها وأشدهم اخلاصا لسنوات . ومع اقتراب موعد زفافها ، لجأت اليه اذ لم تكن تعرف مكان أخيها المفقود وكانت بحاجة الى بديل له يرافقها الى المذبح .
- يقال انها أشبه بالمسيرة نحو المشنقة .
.
- لعل التقاليد أعطتها هذه الصورة ، يا عزيزتى . ولكن رأيى فيها مختلف . فتلك المسيرة بالذات هى نحو هدف معروف مسبقا وسريع الزوال . أما هذه ، فمختلفة تماما اذا يلزمك وقت طويل للتفكير . ومع كل خطوة تخطينها تتساءلين عما اذا كنت قد اتخذت القرار الصائب . يحبنى .. لا يحبنى ..
- وكان يتقدم نحو الأمام بخطوات بطيئة وقور مع كل جملة يقولها .
- - أواه ، يا عم جورج ! لست مضطرة الى التفكير ، فأنا أحب رونان أكثر من نفسى ، وهو يبادلنى الشعور نفسه .
- حسنا ، ما دمت واثقة من ذلك .. لكن أرى أنك تسرعت قليلا .
وأنبأها عبوسه بما يجول فى رأسه ، فأسرعت تبدد قلقه .
.
- لا ، أنا لست حاملا ، ان كان هذا ما تفكر فيه . فرونان يعلم أننى أفضل الانتظار الى ما بعد الزواج .
- ان كان الأمر كذلك ، فزوجك نادر من نوعه . أظن أن هذا يفسر سرعته فى عقد الزواج . فلو كنت أصغر بثلاثين سنة ، ولى خطيبة بمثل جمالك ، لأسرعت فى عقد الزواج ، اذ كل يوم أقضيه بعيدا عنها قد يبدو لى أشبه بالأبدية .
- عمى جورج !
وتوهج وجهها احمرارا من أسفل عنقها الرشيق الى منبت شعرها الذى كان يعلوه اكليل بلورى . ورفعت باقة الورد الأبيض فى يدها محاولة اخفاء احمرارها .
- لا تخجلى منى ، أيتها الشابة ! فأنت فى السادسة والعشرين وتدركين ما أعنيه . أتمنى أن يعى رونان أنه حظى بكنز ثمين .
- لا تقلق من هذه الناحية .
.
طمأنته ليلى وقد أخذت بعض الذكريات تبعث الاحمرار الى وجهها مرة أخرى .
قد يكون رونان وافق على رغبتها فى الانتظار الى ليلة عرسهما ، لكن هذا لا يعنى أنه أذعن بسهولة ، أو انتظر صابرا مسيطرا على مشاعره . فى الواقع ، كادا يعدلان عن قرارهما هذا أكثر من مرة فى الأيام الأخيرة ، وهى تحمد الله لأن فترة الخطوبة كانت قصيرة . فقد استغرقت الشهرين ، وهى فترة أكثر من كافية بالنسبة لليلى .
أعادت موسيقى (( مسيرة الزفاف )) التقليدية المألوفة انتباهها الى الواقع .. أخذت تسوى ثوب زفافها العاجى الأنيق ، بأصابع مرتجفة ، ثم رفعت رأسها عاليا وهى تلتفت الى مرافقها بابتسامة واثقة : (( فلندخل )) .
- ألن تعيدى النظر فى الموضوع ؟
.
- لا أبدا . كلامك صحيح يا عمى جورج . رونان فريد من نوعه ، ولهذا السبب بالضبط سأتزوجه .
كانت الكنيسة من الداخل أجمل مما توقعت ، اذ وضعت الورود العاجية اللون على عتبات النوافذ الملونة الزجاج ، والزنابق البرية عند طرف المقاعد . أما المذبح ، فكان هناك وردتان طويلتان شبيهتان بالشموع التقليدية التى توضع عادة فى الكنيسة .
الا أن الشموع الحقيقية غابت عن المبنى القديم هذا ، بعد أن أفصحت ليلى عن رغبتها هذه للكائن الذى تفهم شعورها تماما .
وفى اللحظة التالية ، اتجهت نظرات ليلى الى الرجل الطويل الواقف أمام المذبح ، وقد بدا ساحرا فى معطف الصباح الرسمى البالغ الأناقة فنسيت على الفور كل شئ آخر .. انه رونان ، خطيبها الذى سرعان ما سيصبح زوجها بعد قليل .
.
وأخذ قلبها يخفق بعنف وعيناها العنبريتان تلتهمان جسمه الفارع وكتفيه العريضتين . كانت قدماه راسختين على الأرض الحجرية ، وساقاه قويتين ثابتتين ، ولا أثر فيهما للرجفة العصبية التى اعترت ساقيها فجأه ..
وجعلت الشمس المنسابة من النافذة على رأسه مباشرة ، خصلات شعره اللامعة النحاسية تتألق فى العتمة الهادئة .
فى تلك اللحظة لاحظت التغيير فى مظهره !
شعره ! لقد قص رونان شعره الرائع الجمال الذى كان بالأمس كثيفا لامعا ، ذا تموجات طبيعية ، فأصبح الآن قصيرا يكشف عن رقبته السمراء .
.
اضطرت ليلى الى عض شفتها السفلى بشدة لتكبت خيبة أملها . فقد كانت تعشق لف خصلات ذلك الشعر الحريرى الأسود على اصبعها ، وتتلهف للقيام بذلك فى ليلة عرسهما .. بدا لها أكبر سنا وأكثر صلابة فى شعره القصير الذى أبرز أيضا ناحية القوة فى شخصيته فتلك القوة هى التى منحته لقب رجل أعمال لا يرحم والتى نادرا ما لمستها أثناء معرفتها به .
لكنها لا تستطيع التعليق الآن . فقد تقدم الكاهن الى الأمام بادئا المراسيم ، واستدار رونان نحوها . وأمسك يدها بيده القوية الدافئة ، فرأت نظرة الاعجاب فى عينيه وهو يتأملها من رأسها لأخمص قدميها .
فى تلك اللحظة بدت الكنيسة والمحتشدون فيها وكأنهم استحالوا جميعا الى سحابة ملونة ، فلم يعد هناك سواها وسوى رونان وعهود الزواج بالحب والوفاء والاخلاص لبعضهما البعض بقية حياتهما .
وطوال الاحتفال ، كان فى أعماق تينك العينين الزرقاوين رغبة تحترق ، هى من القوة والتلهف بحيث تبعث فيها أحاسيس محمومة لا تليق بهذا المكان أو بهذه المناسة الرصينة .
.
ولكن بعد انتهاء الطقوس ، وانتقالهما الى حفلة الاستقبال فى فندق مجاور ، لم تعد ليلى تستطيع أن تكتم خيبة أملها أكثر ، فالتفت الى رونان معنفة .
- لماذا قصصت شعرك ؟
- مبروك لك أيضا .
كان هذا جوابه السريع الساخر ، وقطب حاجبيه الأسودين المستقيمين قليلا وهو يتابع : (( ومهما حدث ، فأنا أحبك ، يا زوجتى العزيزة . وأنا سعيد جدا لأننى أصبحت زوجك )) .
احساسها بما وراء كلماته هذه ، التى لم تتوقعها ، جعلها تمسك نفسها عما كانت تنوى قوله ، لتردد بحذر ، جملته : (( أحبك يا . . يا زوجى العزيز )) .
هل هذا صحيح . أيمكن أن يكون رونان قد أصبح زوجها حقا ؟ بعد تلك الأيام الحافلة بالشوق ، والليالى الحالمة بهذه اللحظة ، بدا لها مستحيلا أن تتحقق تلك الأحلام أخيرا .
- وأنا سعيدة جدا لأننى أصبحت زوجتك .
.
- أحقا ؟
لقد أحست ، مرة أخرى بذلك التشديد المقلق على الحروف بحدة كانت عيناه نارا فضية وهى تستخلص الجواب من أعماق روحها .
- هل أنت سعيدة ؟ سعيدة حقا ؟
فارتجف صوتها لعنف هذا الاستجواب الغير منتظر : (( طبعا أنا كذلك . ما هذا يا رونان ؟ استنطاق أسبانى ؟ )) .
- أردت التأكد فقط .
- التأكد !
.
أرسلت رغبة رونان المفاجئة للاطمئنان فى كيانها موجة من البهجة والاثارة ، غمرت قلبها بمزيد من الحب . ففكرة أن يظهر رجل متميز وناجح ، مثل رونان ، ويتحدث بمثل هذه المشاعر العميقة جعل عينيها تغرورقات بدموع حارة .
- أواه يا رونان ! وكيف لا أكون متأكدة ؟ لقد تزوجت لتوى الرجل الذى أحب وأقسمت على ذلك أمام العالم أجمع . .
- قاطعها بصوت خشن : (( ماعدا ديفى )) .
- فأجابت بهدوء : (( نعم ، ما عدا ديفى )) .
سالت دموعها هذه المرة لسبب مختلف تماما . فسعادتها كانت لتكمل كليا لو كان أخوها حاضرا اليوم .
- ليتنى تمكنت من الاتصال به !
- وكذلك أنا .
.
قال رونان ذلك بحدة فنظرت اليه بدهشة : (( لم أكن أعلم أن أمره يهمك الى هذا الحد )) .
- حسنا ، فلنقل أننى كنت أفضل لو قابلت أخاك قبل هذا اليوم .
- وحول عينيه عنها محدقا الى الخارج عبر القاعة المزدحمة . أيقنت ليلى أنه لم يكن يحدق بالمدعوين المتألقى الملابس ، الذين كانوا يضحكون ويثرثرون ، عندما عاد ينظر اليها بملامح غامضة يصعب تحديدها . وتكلم مرة أخرى ، فتملكها شعور غريب بأن الموضوع الذى كان يشغل أفكاره لا يمت اليها بصلة .
- اننا انسانان راشدان وعصريان ومع ذلك لا نستطيع أن نستدعى ولو فردا واحدا من أقربائنا .
- أعرف هذا . .
.
وتنهدت بأسى وهى تفكر فى والديها اللذين قتلا فى حادث مأساوى وهى فى السابعة عشرة من عمرها ، وديفى الذى يصغرها بست سنوات . لو بقيا حيين لشاركاها سعادتها وهما يريانها اليوم عروسا . ولم يساورها الشك للحظة فى أنهما كانا سيوافقان على هذا الصهر الوسيم ذى القامة الفارعة ، الذى يعشقها .
من المحزن أن رونان كان أيضا وحده . . فعندما سألته عن أقاربه الذين سيدعوهم الى العرس ، رد عليها باقتضاب : (( ليس لى أسرة . . ولكن سأعطيك قائمة بأسماء أصدقائى ، ان شئت )) .
وعوض عدد أصدقائه عن الأقارب ، حتى أن بعضهم أحدث ضجة كبرى فى هذه المدينة الشمالية الصغيرة ستدوم فترة طويلة بعد انتهاء الزفاف . . فبصفته رجل أعمال واسع الثراء ، كانت له اتصالات بأشخاص يماثلونه ثراء وشهرة . وقد حضر معظمهم حفل الزفاف اليوم .
لكن هذا لم يعن أن الفرصة سنحت لها للتحدث اليهم ، فقد أبقاها رونان بجانبه طوال الوقت فلم تجد الفرصة للتعرف على ضيوفه .
.
وقطبت حاجبيها قليلا عندما شاهدت أحد أصدقاء رونان ، (( كونور فيت باتريك )) فى حفل الزفاف . ففى اليوم السابق للعرس ، بدا عليه الشرود عندما قدموها اليه ، وأخضعها لفحص شامل بعث فيها اضطرابا واضحا .
أما (( هانا )) ، صديقتها الحميمة واحدى وصيفات العروس ، فقد نجحت فى التقرب منه على حلبة الرقص ، بينما كان يمنحها ابتسامة واسعة لملاحظة أدلت هى بها .
- لم هذه النظرة السوداء ؟ .
سألها رونان ذلك وهو يرى تغير ملامحها .
.
- لدى احساس بأن (( كونور )) ليس راضيا عنى ولا يشعر نحوى بمودة .
لمعت تانك العينان الفولاذيتان بسرعة وهما تحدقان بصديقه ، وعاد من جديد ليقطب جبينه . لكن رونان عاد فالتفت اليها ورماها بابتسامة بددت مخاوفها الحمقاء ثم قال لها بنعومة : (( وما الذى لا يرضيه فيك ، أيتها الحمقاء الصغيرة ؟ الحقيقة هى أننى لم أكن ، قبل الآن ، من النوع الذى ينشد الاستقرار . ولكن ، حبنا هذا كان أشبه بزوبعة غرامية . . ولقد صرعنى حبك وأنا عاجز عن استعادة توازنى )) .
************************
.
فى تلك اللحظة طمأنتها هذه الكلمات . . وتملكت ليلى التعاسة وهى تعود مرغمة الى حاضرها لتجد نفسها تحدق فى الباب الذى خرج منه رونان لتوه . لكن تلك الكلمات كشفت الآن عن خداع بالغ القسوة والوحشية وهو يعلن أنه راحل من دون عودة .
دفعها صوت الباب فى الطابق الأسفل وهو يفتح ، الى النهوض . ما الذى تفعله بجلوسها هنا بهذا الشكل ، تاركة رونان يرحل ؟ انه زوجها ! لم يمض على زوجاهما أربع وعشرون ساعة بعد . فهل ستدعه يرحل من دون مقاومة ؟
قفزت من سريرها برعب ، واختطفت عباءتها عن كرسى بجانب السرير ، غير عابئة بقميص نومها المكوم على الأرض حيث ألقى به رونان فى حمى مشاعره . . ارتدتها وأحكمت شد الحزام على خاصرتها وهى تنزل السلم .
كان الباب الأمامى مفتوحا على مصراعيه ، وأشعه الشمس تتسلل من خلاله . . شعرت بغصة فى قلبها أمام الطبيعة المشرقة ، التى تتناقض مع الاحساس الأسود بالهلع الذى ينتابها .
- رونان !
.
كان قد خرج من المنزل ووقف بجانب سيارته يضع حقيبته فى الصندوق ، فأخذ قلبها يخفق وهى تدرك مصدومة أنه كان يعنى حقا ما قال .
لأنها حتى هذه اللحظة ، لم تفقد الأمل فى أن ينتهى هذا الكابوس .
- رونان ، انتظر !
لكنه تجاهلها ، وحول وجهه بعيدا عنها وقد بدا من تصلب جسمه أنه يرفض أن يلين أمام تضرعاتها . . هبطت الدرجات قائلة : (( أرجوك ، لا تفعل هذا . . لا يمكن أن تفعل بى هذا يا رونان ، لن أسمح لك بذلك )) .
لكن رونان أغلق غطاء الصندوق ببطء متعمد . وتردد صدى ارتطام الغطاء ، فى رأس ليلى ، وكأنه يذكرها بالأبواب الفولاذية التى صفقت فى وجهها ، وصوت الساعة تعلن ساعة الفراق المرعبة .
لم يكن هذا رونان ! لم يكن هذا الرجل الذى أحبته من كل قلبها ، ومنحته جسدها وقلبها منذ يوم واحد فقط ! فقد خيل اليها أن رجلا غريبا دخل الى البيت ، وأمسك بجسد رونان وانتزع منه روحه ، تاركا من ذلك الرجل الذى أحبت الهيكل فحسب .
.
لكن العينين كانتا مختلفتين . كانتا صلبتين وباردتين كالفولاذ ، مهلكتين كنصل خنجر ، ومنيعتين كمصراعى باب حديدى .
- لا يمكنك أن . .
حاولت الكلام ، لكن صوتها خانها .
قال متحدثا بسخرية ، وهو يلقى عليها نظرة فاترة كئيبة كأيام الشتاء القارسة البرودة : (( يمكننى أن أفعل ما أريد ، حاولى فقط أن تمنعينى )) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|