منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   كتب الأدب واللغة والفكر (https://www.liilas.com/vb3/f267/)
-   -   نبيل سليمان , جماليات وشواغل روائية , اتحاد الكتاب العرب , 2003 (https://www.liilas.com/vb3/t55075.html)

تيتوف بارة 17-10-07 11:07 AM

نبيل سليمان , جماليات وشواغل روائية , اتحاد الكتاب العرب , 2003
 
كتاب جماليات وشواغل روائية
تأليف نبيل سليمان
مجهود تعب به اخرون حولته الى صيغة كتاب
أضعه بين أيدي الكرام من ليلاس


[IMG]http://www.3tt3.net/up/uploads/bvK11578.jpg



[/IMG]



رابط الكتاب


http://www.3tt3.net/up/download.php?file=Wvs11989.pdf



رابط اخر

:liilas---new:

نبذة من مقدمة الكتاب

إن أغلب مدوّنة هذا الكتاب هو مما صدر في شتى البلدان العربية خلال العقدين الأخيرين، ولمن تقدموا وتقدمن إلى الرواية خلال هذين العقدين. وإذا كان ذلك، وبقدر ما يمكن للتحليل أن يبلغ، يوفّر مصداقية أكبر، فإنني أدرك مدى ما بات عليه القول من عسر وتعقيد وتقصير، بعدما بلغت الرواية العربية ونقدها ما بلغاه، كمّاً ونوعاً. وهنا يهمني أن أشير إلى أن بعضاً من المدونة الروائية لهذا الكتاب، وبعض قضاياه، قد سبق لي أن تناولتهما على نحوٍ أو آخر، في بعض كتبي خلال أكثر من عشرين سنة مضت، وهو ما أحلتُ إليه وقت الضرورة، وبحيث يتواصل القول ويتكامل بقدر ما يتجدد ويختلف.

المنبالى 17-10-07 03:02 PM

شكرا على الكتاب الجميل وليتك تساعدنا باعمال نبيل سليمان الروائية

تيتوف بارة 17-10-07 06:51 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المنبالى (المشاركة 1016493)
شكرا على الكتاب الجميل وليتك تساعدنا باعمال نبيل سليمان الروائية

المبالي
شكرا على المرور
وسأحاول انشاء الله

دايم الحسن 18-10-07 03:55 AM

أخي الفاضل الموقع (( عين الذيب )) يرفض التحميل ، وقد حاولت عدة مرات في أوقات مختلفة ، ونفس الحكاية ببطء يتحرك مؤشر التحميل ثم يقف قبل الخطوة الأخيرة ...

تيتوف بارة 18-10-07 07:41 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دايم الحسن (المشاركة 1017776)
أخي الفاضل الموقع (( عين الذيب )) يرفض التحميل ، وقد حاولت عدة مرات في أوقات مختلفة ، ونفس الحكاية ببطء يتحرك مؤشر التحميل ثم يقف قبل الخطوة الأخيرة ...


عزيزي دايم الحسن
قمت بحميل الكتاب فتمت العملية بنجاح
حاول مرة اخرى

دايم الحسن 18-10-07 11:08 AM

شكراً لاهتمامك .. ولكن لا أمل ... بعد عشر محاولات صباح هذا اليوم باءت كلها بالفشل ...

الظاهر أن السبب من جهازي أو من اشتراك النت عندي ...

تيتوف بارة 18-10-07 11:17 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دايم الحسن (المشاركة 1018288)
شكراً لاهتمامك .. ولكن لا أمل ... بعد عشر محاولات صباح هذا اليوم باءت كلها بالفشل ...

الظاهر أن السبب من جهازي أو من اشتراك النت عندي ...

لن أدعك تخرج الا وانت راضٍ
يوم السبت انشاء الله سوف انزله لك على شكل نص
وما يكون خاطر ليلاس الا طيب

تيتوف بارة 18-10-07 11:20 AM

استهلال


مثلما كان فعل الصوفية في الشعر علامة حداثية فارقة، كان في الرواية، منذ أكثر من عقدين، وحيث بدا أن هذا الفعل قد أسرع إلى الحداثة الروائية، أكثر مما كان مع الحداثة الشعرية.
ولئن كان الروحي أو المعرفي من هذا الفعل واحداً في الرواية أو الشعر أو الموسيقى.. فقد اختلف التعبير الجمالي عنه بين لون وآخر من ألوان الإبداع، بمقتضى طبيعة كل لون، وتجربة كل مبدع. ومن هنا يمكن القول باختلاف الغموض واللغة في روايات جمال الغيطاني وإدوار الخراط مثلاً، جراء الفعل الصوفي، عما بَدَوَا عليه في شعر أدونيس مثلاً. وليس هذا سوى بعض ما يتلمسه الفصل الأول من هذا الكتاب.
وإذا كان الفعل الصوفي يستدعي، على نحوٍ أو آخر، الفعل التراثي، فالأخير يدفع ـ إلى أمداء مختلفة ـ بالقول في الحداثة الروائية العربية، وهذا ما يتلمسه الفصل الثاني من هذا الكتاب، عبر حضورٍ ثانوي أو أساسي لكتاب ابن حزم الأندلسي (طوق الحمامة) في عدد من الروايات.
من هذا النظر الجزئي، تنتقل الفصول التالية إلى المحاولة في نظرٍ أشمل، ابتداءً من رافعة كل إبداع، أي: (التجريب) الذي يبدو علامة حداثية فارقة، كما يبدو أكثر نشاطاً في الرواية في تونس، حيث دار القول في الفصل الثالث، ليمضي الفصل الرابع من بعد إلى شتى علامات التجربة الروائية الحداثية في الجزائر، وإلى مثل ذلك في الفصل الخامس في الكويت، ولكن هذه المرة بحضورٍ ما للتقليدي أيضاً من التجربة الروائية، مما لعله يجعل النظر أكبر دقة، مثله مثل تحديد القول بما في شطرٍ ما من الفضاء العربي (الجزائر ـ تونس ـ الكويت، وتالياً: فلسطين ـ سورية)، بعد ما بلغ المشهد الروائي العربي، ونقده، ما بلغاه.


تشكل الفصول الخمسة السابقة القسم الأول من هذا الكتاب، وحيث يبدو أن السؤال تعلق بجماليات روائية، بينما يبدو في الفصول الأربعة التالية التي تشكل القسم الثاني، أن السؤال يتعلق بشواغل روائية، يمحورها الثقافي والسياسي وسواهما من العيش العربي خلال العقود الأخيرة، وأعني: الحرب، والعلاقة مع الآخر.
فالصراع العربي الإسرائيلي (الفصل السادس: التعبير الروائي في فلسطين عن مقاومة الاحتلال)، والصراع في الداخل العربي كما تفجر في لبنان (الفصل السابع: التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية)، وكما توالى في اليمن أو الجزائر أو الكويت، هما محور عيشنا إلى أمد غير منظور. غير أن لهذا الاشتباك عنواناً قديماً ـ جديداً صارخاً أيضاً، هو: الآخر، والذي لم تزل الرواية العربية مشغولة به. ولأن كثيراً قد قيل من قبل في هذا، فقد أوقفتُ القول فيه على جديده: الأنموذج السويسري (الفصل الثامن).
بعد ذلك، وبنظرٍ يروم أن يكون أشمل أيضاً، ربما أمكن القول إن الحرب أو الآخر أو سواهما مما يمحور عيشنا، إنما يبدأ من وينتهي إلى القول بسؤال النهضة والسقوط، والذي يقلبه المثقفون والساسة منذ هزيمة 1967 وإلى أمد غير منظور. وقد خوضت الرواية والنقد في هذا، مثلما خوّض الشعر والفكر والموسيقى والتشكيل. وبسبب من ذلك ختمتُ القسم الثاني من هذا الكتاب بالفصل التاسع (سيرة روائية للنهضة والسقوط).
أما ما هو بمثابة خاتمة الكتاب (جماليات وشواغل روائية: الزمن الروائي بين الواقع والتاريخ ـ محاولة تأنيث)، فقد جاء على هذا النحو، توحيداً لتعلق السؤال الذي يشغل هذا الكتاب، ويعنونه بـ (جماليات وشواغل روائية).
ولعله سيبدو بجلاء في غضون فصول الكتاب، كيف أن تلمّس الجمالي يستبطن ويعلن ما يستبطن وما يعلن من تلمّس الشاغل، والعكس بالعكس، وما عدا ذلك ليس إلا تبويباً، وتحديداً لزاوية النظر. والمأمول أن يعضد ذلك كله ما عُنيتْ به الخاتمة من محاولة التأنيث التي عبرت عنها روايتا أهداف سويف ورجاء عالم، وهو ما يستدعي المساهمة المتنامية للكاتبة العربية في التجربة الروائية.

إن أغلب مدوّنة هذا الكتاب هو مما صدر في شتى البلدان العربية خلال العقدين الأخيرين، ولمن تقدموا وتقدمن إلى الرواية خلال هذين العقدين. وإذا كان ذلك، وبقدر ما يمكن للتحليل أن يبلغ، يوفّر مصداقية أكبر، فإنني أدرك مدى ما بات عليه القول من عسر وتعقيد وتقصير، بعدما بلغت الرواية العربية ونقدها ما بلغاه، كمّاً ونوعاً. وهنا يهمني أن أشير إلى أن بعضاً من المدونة الروائية لهذا الكتاب، وبعض قضاياه، قد سبق لي أن تناولتهما على نحوٍ أو آخر، في بعض كتبي خلال أكثر من عشرين سنة مضت، وهو ما أحلتُ إليه وقت الضرورة، وبحيث يتواصل القول ويتكامل بقدر ما يتجدد ويختلف.



نبيل سليمان
اللاذقية ـ 2002

تيتوف بارة 18-10-07 11:22 AM

القسم الأول





الفصل الأول :
الرواية والصوفية


مقدمة:
بظهور رواية (رامة والتنين) لإدوار الخراط ورواية (الحوات والقصر) للطاهر وطار عام 1980(1) بدأ التصوف يحضر كفعل، بدرجة حاسمة في الرواية الأولى، وبدرجة ثانوية ـ أو أقل حسماً ـ في الرواية الثانية. وسرعان ما جاءت رواية مؤنس الرزاز (أحياء في البحر الميت) عام 1982 والجزء الأول من (التجليات) لجمال الغيطاني عام 1983، ليتوالى، طوال ما يفصلنا عن ذلك التاريخ، الفعل الصوفي في الرواية العربية، فهل كان ذلك، اندياحاً لما سبق من هذا الفعل في الحداثة الشعرية العربية، وتلاقحاً بين هذين الجنسين الإبداعيين: الرواية والشعر؟ أمْ إن ذلك كان بتأثير ما لسحرية الرواية الأمريكية اللاتينية؟ أم تراه تأثير الحفر الروائي في التراث السردي الأدبي ـ وغير الأدبي ـ الرسمي والشعبي، وبخاصة منه: الأدب الديني الشعبي؟ هل جاء فعل التصوف والصوفية في الرواية العربية إعلاناً مبكراً نحو منعطف روائي عربي جديد، يستثمر منجزات اللحظتين الحداثية والتقليدية للرواية العربية، ويخرج من تأزمهما(2)؟ وأخيراً، وليس آخراً، كم كان من أثر في ذلك كله لما طرأ عربياً بعد هزيمة 1967 في الفكر والسياسة والإبداع، من حفر نقدي في التراث، ومن عودة تصنيمية إليه؟ كم كان من أثر في ذلك كله للانهيار الأيديولوجي والخضات الفكرية التي توالت كونياً منذ ثمانينيات القرن الماضي؟
بالنسبة لي، أرى أن مضمون التساؤلات السابقة جميعاً، هو ما جعل الفعل الصوفي لافتاً في الرواية العربية، وبنسب مختلفة بين سبب وسبب، وبين كاتب وكاتب. وبالوسع أن أضيف: الجري خلف صرعة، والتقليد والاستسهال، والتجريب وادعاءه، والعكوف على الذات ونرجسيتها تجاه التهميش والقمع الرسمي والشعبي للثقافة. وعلى أية حال فالمدونة الروائية العربية التي يعنيها الفعل الصوفي باتت مدونة كبيرة، فكيف تجلى هذا الفعل؟ وما الذي تحقق بسببه؟
1ـ الفعل غير الحاسم:
عام 1984 تساءل الطاهر وطار: "فبأي شيء أعبر عن اللامعقول إذا لم أوظف اللامعقول نفسه"(3). وكانت قد انقضت أربعة أعوام على صدور رواية (الحوات والقصر)، حيث غامر الكاتب في تجربة مختلفة، فجعل للتصوف قرية باسمه، من بين القرى السبع التي تتوالى رحلة بطله (علي) فيها، وجعل هذه القرية عرضة دوماً للغزو. وقد افتض الغزاة الأبكار فيها طراً، سوى واحدة سميت بالعذراء، فقرر المتصوفون ـ أهل قرية التصوف ـ إثر ذلك أن تُفتض بكارة كل وليدة من طرف الشيخ الملتحي قبل أن تبلغ أربعة أسابيع. وسيلي الفعل الصوفي بالعجائبية عندما يؤسطر الناس شخصية (علي) في قرية بني هرار، فإذا به يمر في وضح الشمس دون أن يراه أحد، أو يتنكر مثل غمامة ويقتحم الشوارع، وقد يحسبه الناس زوبعة أو ثعباناً مشعراً يلتف في الرمال، ويركب الريح السموم.
ربما كان الطاهر وطار في هذه الحركة من حركات روايته، وبحساسية الفنان، لاقطاً لموران المجتمع الجزائري الذي سينفجر ـ كما يليق باللامعقول ـ بعد عقد من صدور الرواية. وربما كان الكاتب ساعياً فقط إلى لعب المخيلة بالمكنون الشعبي الديني ـ الميتولوجي. ومهما يكن، فقد كان للتصوف حقاً فعله في الشخصية الروائية (علي) وفي شطر من الحدث ـ الأحداث الروائية، من دون أن يمسّ ذلك جوهرياً لغة الرواية. ومن هنا أمضي إلى وصف الفعل الصوفي في هذه الرواية بأنه لم يكن حاسماً، لكنه كان رائداً. وهذا الوصف سيظل يطالعنا بين رواية ورواية مما سيلي خلال العقدين التاليين، كما في رواية (فردوس الجنون)(4) لأحمد يوسف داوود، عبر تقديمها لشخصية الراهب سليمان الذي كان أستاذاً للفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، قبل أن يعتزل في صومعته، وفي الفيللا مع الكتاب الهندوسي (المنوسمرتي)، ومع الحلاج وابن عربي والمعري والسهروردي، ليغدو قناة الكاتب الفلسفية والصوفية. ويمكن أن نلمس الفعل الصوفي في هذه الرواية أيضاً عبر واحدة من حالات الجنون التي ترسمها، هي حالة (الجنون المحترم): "أي أن تقفز بين العوالم، وتعلن عن روحك، حتى لو لم تقل، إلا الكلام الذي تفهمه وحدك".
من هذا القبيل يبدو أيضاً ما يتلامع من الكرامة والعرافة في رواية (القبر المجهول أو الأصول) لأحمد ولد عبد القادر، ومن الاتحاد والحلولية في رواية (قصر المطر) لممدوح عزام، وفي رواية سليم مطر (امرأة القارورة)(5) وفي رواية (هشام)(6) لخيري الذهبي. وفي الأخيرة سيغدو القول بالتقمص هو الأوفى، كما في رواية (النعنع البري)(7) لأنيسة عبود، وفي (فردوس الجنون) نفسها، بيد أن الأمر كله يظل أقرب إلى (التعبير الثقافي) منه إلى (التعبير الكلي) عن الفعل الصوفي في الرواية، وربما كانت الرواية التالية المثل الأكبر لذلك:
حيدر حيدر: شموس الغجر(8):
تروي ابنة بدر الدين النبهان (راوية) أنه كان صاحب الوعي البرقي، ورجل الهجرات والمنافي التائه "عبر الدروب الضائعة نحو محطات القدر الشبيهة بمعالم الصحراء التي تظهر تارة وتمّحي، تحت سماء نجومها تومض وتنطفئ هي الأخرى عبر تبدلات البصيرة وزوغان البصر فوق رمال التيه" (ص10).
ولقد نشأ بدر في كنف أبيه الإمام الذي يفتي بالناس، ومرجعيته هي العتبات المقدسة وحنين كربلاء وندم عاشوراء الدامي. ولعل هذه النشأة، وما وصفت به راوية أباها، تومئان إلى الجذر الديني الإسلامي الشيعي، ومنه الصوفي، والذي سينعطف ببدر الدين النبهان إثر اعتقاله لأربعة شهور، فيطوي ما عاش قبل ذلك كمتمرد وعلماني، ويتحول إلى النقيض: يتحدث عن التوبة والاهتداء إلى الصراط المستقيم، وعن الخروج من الضلالة إلى عالم النور، ويمارس طقوساً جديدة وغريبة ومناقضة لما ربّى أسرته عليه، كأنه يعيد التكوين في سيمفونيته اليومية حول الأخلاق القومية وإقامة الصلوات والوصايا العشر وطاعة الوالدين والقضاء والقدر والزكاة ومراسيم الأعياد والاستماع إلى التراتيل الدينية من الراديو والتلفزيون..
يعلل الفلسطيني ماجد زهوان تحولات والد حبيبته (راوية) بالبنية النفسية الهشة. وتعلل راوية تحولات أبيها بعودة الطفل إلى أحضان وميراث أبيه الذي لم يخرج منه إلا ظاهرياً، أو بالحنين إلى الطوطم الكامن في الأعماق، وتشبهه باسترجاع دموي "كما جرثوم مستوطن في الخلايا الخفية والمظلمة للنفس"، وتتساءل عما إذا كان أبوها أصيب بلوثة جراء التعذيب، أو أنه تعرض لنوع من غسل الدماغ.
لأسباب راوية أو حبيبها، أو لسوى ذلك، بات بدر الدين النبهان يتحدث في أوقات خاصة وسرية عن مسائل طائفية ومذهبية وظهورات خرافية، تنعتها راوية باللامعقولية المستقاة من عصور ما قبل العقل، حول التجسيد الإلهي على الأرض، وبداية الكون من آدم شمس العالم وحواء قمر الظلمة. وتنقل راوية من شواغل أبيها الجديدة: الاثنان في الواحد/ الواحد هو الكل العلي الذي لا يدرك/ السر المقدس واللامتناهي/ معنى المعاني التي تعجز العقول والبصائر عن الوصول إلى جوهره اللا يحدّ. وتتساءل راوية عن انبثاق هذه الأطوار البدائية واللوثات الصوفية، وعن انحدار العقل المتوهج نحو طفولة القرون الأولى والأزمنة التي تذكر بإنسان الكهوف والتيه في الصحارى.
قبل التحول كان بدر الدين النبهان يحدث أسرته عن عظمة الإسلام الثوري الأول، وعن النكوص الذي تلا. لكن الرجل بات بعد التحول يتحدث عن العصر الجديد الذي افتتحته ثورة الإسلام في إيران، ويفتق القول في انهيار مثله القديم: الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. لقد صار بدر الدين النبهان يتحدث عن التحول الجوهري للتاريخ: العودة إلى الأصالة والجذور، والإسلام كبديل، فالدين قوة روحية مستمرة في الزمن والبشر على ما يبدو، وهي الأرسخ من كل الثورات العابرة في التاريخ. وبدر الدين النبهان في ذلك، بحسب راوية، مثل آلاف البدور التي تدخل انحرافات خسوفها وظلماتها عائدة إلى الجذور الأولى، في أعقاب الهزة الكونية التي زلزلت النظام الاشتراكي وحطمته. ولراوية نقداتها لهذا النظام، لكنها لا ترى في الإسلام الأب المستقبلي أو الراهن، بل تراه الجذر التاريخي، وهي معه تاريخياً وحسب. وسيشغل ذلك مجادلات مطولة بين راوية وصديقتها الأذربيجانية (علية) والدكتور (الأصولي) رضوان. على أن ما يهمنا من ذلك الآن هو انعطاف الثوري السابق نشداناً للسلام الروحي، وحسماً للجدال الداخلي والصراع بين المادي والروحي.
تتحدث راوية عن محفل سري يجمع الشيوخ في المقر الديني لبلدة عيون الريم، وستسميه محفل التكفير والتوبة. ولأن راوية هي السارد القيوم، تصف ما جرى لأبيها في المحفل، فمن أين لها بهذا العلم الذي تصدعنا بحجبه عن غير ذويه، وفي رأسهم: المرأة؟ أما كان الأَوْلى، لتوفير حد أدنى من الإقناع والمنطقية، أن يتولى السارد بنفسه تلك المهمة عن راوية، وهو الذي ينهض بين حين وحين بعبءٍ ما من أعباء السرد؟
يعاودنا هذا التساؤل بصدد سائر ما ستروي راوية من ممارسات أبيها الجديدة، من الأعياد السرية إلى الحلقات الخاصة الغامضة (السرية) التي باتت تعقد في غرفة على السطح. ويبدو من الإلحاح على السرية، ومن الإشارات الخاصة بوالد بدر الدين النبهان، أن الأمر يعني فرقة باطنية بعينها. فذلك الوالد كان يختم موعظة صلاة الجمعة بالدعاء لسيد البلاد ودرع الأمة في الشدائد "ليكون لنا عوناً وراعياً وهادياً في ظلماتنا. نحن العباد الواقعين في الخطايا والمعاصي: اللهم والِ من والاه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. الرشيد الحكيم، الخارج من عين الشمس والداخل في بروج البحر ومحاق القمر، قبل بدء البدايات ونهاية النهايات، وريث من دحى باب خيبر ورد الشمس عن مغيبها. أمير الزمان والعواصف والطيور والأسماك وسباع البر وما يدب على سطح الأرض، هو الذي فاز بالإسلام، وبقوله وعزمه حطمتْ أصنام الكافرين في مكة فانتصر الدين إلى يوم القيامة" (ص46).
أما الابن بدر الذي كان يسخر من ذلك كله، فقد بدا في نكوصه، كما تحدثنا راوية، يلج في بحران الروح، ويوغل في هذيانات أدعية وكتب ومراسلات خاصة، تصله عن طريق الشيوخ والمشرفين على إرشاد الضال الذي اهتدى، فغدا "مبحراً في الوجد الصوفي وأشعار ابن الفارض والمنتجب والمكزون السنجاري ومعارج نهج البلاغة" (ص 104). وراوية التي لا تفتأ تهول من صدمتها بارتداد أبيها وبظاهرته العامة، ستعيد مرة بعد المرة حديث (السرية) أي الباطنية، وما تخفي من الوجد الصوفي، وستنعت راوية ذلك بهذيانات الأزمنة المنقرضة، ومنها واحد من كتب أبيها السرية، يترجّع فيه صوت كريشنا، حيث يأتي التناص في الرواية على صفحتين، وتدع الطلاسم الهندية راوية على حافة دوار، شبه مسحورة، وتحت تأثير حالة سحرية تخطفها إلى فضاء الشرق الساحر الأسطوري.
هكذا يشتبك الفعل الصوفي في هذه الرواية، عبر شخصية بدر الدين وعبر نحلته ـ ملته ـ فرقته الباطنية، مع ما تصخب به من الخطاب المثقف الثوري في نهاية القرن العشرين، حول الإسلام والانهيارات الكونية والاستبداد والارتداد والفساد.
في خضم هذا الاشتباك عجز الفعل الصوفي عن تخصيص الشخصية الروائية ونحلته ـ من الخصوصية ـ بالاتكاء على مفردات الظهورات والمعنى والجوهر والتجلي والمهدي المنتظر... وكاد الفعل الصوفي يتبدد كلما ضاقت الرواية بالرطانة الثورية المتعالية التي حجبت رؤية الظاهرة بالحيدة التي تقتضيها الكتابة الروائية، وبالتالي حرمت الرواية من تحليل الشخصية ومن تحليل الظاهرة، ومن النفاذ إلى التعقيدات وتفكيكها، حتى وصل الأمر براوية إلى تفسير حالة أبيها ومن يماثله تفسيراً بيولوجياً، فعلّة التحول أو النكوص أو الارتداد ـ من بين علل أخرى ـ هي في جينات الدم الموروثة، وفي جرثوم مستوطن في الخلايا، وفي الاستنساخ.. وفي ذلك من العنصرية ما فيه من تغييب العامل الاجتماعي والسياسي والروحي، حتى لو جرى التشدق بهذا العامل في مواقع أخرى من الرواية.
لقد توقفت راوية عند الاضطراب الروحي والمسوح الدينية والمذهبية مما استشرى في الأجيال الجديدة، جراء القمع والفساد، وبعث جمعيات ومحافل سرية تبشر بقرب القيامة وظهور المهدي، فصارت الهزات الأرضية وظهور المذنب، علامات كارثية لنهاية القرن قبل العام ألفين، مما يعيد زمن ملوك الطوائف في الأندلس.
في هذا الموقع من الرواية، تلح راوية على الشرط الاقتصادي السياسي الذي اكتنف هذا التحول. لكن قيمة هذا الإلحاح في المحصلة تظل متواضعة، نظراً لما تقدم من التفسير البيولوجي، ونظراً لعدم قراءة هذه الظاهرة الفردية ـ الاجتماعية في الإطار الكوني، حيث تتفاقم في عصر الحداثة وما بعد الحداثة الملل والنحل، وبخاصة عندما كانت الألفية الثالثة تقترب، فيتعالى صخب نحلة جبل الكرمل الأميركية، ونحلة آوم اليابانية، والنحلة الرائيلية التي جعلت سفينة نوح محطة فضائية أرسلها الأيلوهيم، وجعلت صوت النبي يونس لغواصة ذرية..
هكذا، من القروسطية التي أورثت بدر الدين النبهان نحلته، إلى الحداثة وما بعدها ـ التي أورثت أمريكا وأوروبا واليابان نحلها ـ يشتبك السؤال عن الروحي/ الكوني. ومما لم يقلل من وطأة غيابه عن (شموس الغجر)، تشريقها إلى الهند، فيما أشبه الاستعراض الثقافي. وبذا، وبما سبقه، ظل الفعل الصوفي في الرواية، أسير الخطاب المتعالي الذي سيّد السارد ـ الساردة، ووحّد اللغة في صوتيهما المتوحدين.



2ـ الفعل الحاسم:
على نحو آخر يبدو الفعل الصوفي حاسماً في روايات أخرى، كما في (باب الجمر) للسوري وليد إخلاصي، عبر شخصية (محبة الجمر) بخاصة، أو كما في (سابع أيام الخلق) للعراقي عبد الخالق الركابي، حيث تتراكم المتناصات، لتصدح ثنائية النقص والكمال كما أطلقها العارف الدمشقي أبي عمرو المتوفى سنة 320هـ. وكذلك في روايات الأردني مؤنس الرزاز: أحياء في البحر الميت ـ متاهة الأعراب في ناطحات السراب ـ جمعة القفاري. أما المغربي مويلم العروسي فقد بنى روايته (مدارج الليلة الموعودة)(9) على هيئة المقامات الصوفية، وجعل لبعضها ألواناً (مقام الأحمر ـ مقام الأصفر ـ مقام الأبيض ـ مقام الرمادي ـ مقام الأسود) وصولاً إلى (مقام كل الألوان). ورسم رؤى الطوفان في مقام الماء "وهو بين جميع المقامات وما بعدها"، وخص النار بمقام "وهو مقام الإتيان على ما بقي".
من الراوي إلى الشيخ الشاب فمريم فالهاتف فالطيب فالغريب، تعتور الحالات الصوفية شخصيات الرواية، فتكابد أسئلة الموت والعشق والفناء والروح والجسد والظلمة والنور والخوف والداخل والخارج... وتكون الرحلة الشاقة ـ كعبور الجحيم ـ والمعراج الذي ينتهي بالليلة الموعودة، فيبلغ المتصوف غاية ما كابده، ويتحد العاشق والمعشوق، وتلتقي الروح بالسر الأعظم وأصل الوجود.
عبر هذه المدارج تتلون لغة الرواية باللون القرآني مرة، وبالمتناصات مرة (كما في كلام الشيخ من كلام الغزالي) وبالانثيال مرة (كما في إشراقات الهاتف)، وبذا وبسواه يبدو الفعل الصوفي حاسماً في هذه الرواية، إذ يشكل شخصياتها ولغتها وأحداثها وأطروحتها، ويهيكل بنيانها، ليصل أخيراً، بالنخبوية العتيدة ـ الفرد المتفرد، إلى النور.
غير أن التجلي الأكبر للفعل الصوفي الحاسم في الرواية، كان بخاصة
في تجربة جمال الغيطاني وفي تجربة إدوار الخراط، وفي جديدهما
سنتابع:


جمال الغيطاني:
رسالة في الصبابة والوجد ـ متون الأهرام:
مضى الفعل الصوفي بعيداً في كتاب (التجليات) لجمال الغيطاني، بأسفاره الثلاثة، عبر الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والدخول في عالم عجائبي. ففي علاقة الراوي بجسده، نراه يغيب عنه ويعود إليه على هواه، ونراه يسري من مكان إلى مكان، ويقابل الموتى، ويكشف الغيب، في
تجسيد روائي صارخ لوحدة الوجود وطي الزمن وإنطاق الموجودات وجلاء البصر(10).
بعد سنوات سيصدر الغيطاني (رسالة في الصبابة والوجد)(11) مواصلاً التجريب من صيغة (الكتاب) إلى صيغة (الرسالة)، في استيحائه للتراث السردي العربي. وقد صاغ (رسالة في الصبابة والوجد) في أربع عشرة حكاية أو مقطع سردي، يقوم زمنها في العقد السابع من القرن العشرين، ويقوم فضاؤها بين النقيضين: البيوت التقليدية والمكان الشعبي الأليف، مقابل الفنادق والأحياء المتعصرنة. وينوع الغيطاني في التوطئة للفصول ـ الحكايات ـ المقاطع، ويبدي ويعيد في السجع والترادف والموازنة وسواها مما يتصل باللسان التراثي في إيماءة إلى جوهريته وخلوده، من دون أن يوحّد ذلك أصوات الرواية وييبّس قولها. ولئن كان الحب مقاماً صوفياً أولاً في هذه الرواية ـ الرسالة (من النظر إلى الانتظار إلى الشوق إلى الغياب إلى الوصل إلى الفراق)، فالبناء مقام تال، سيتستأثر بالروايتين التاليتين: (خلسات الكرى)
(12) و (متون الأهرام)(13). ومن ذلك ما نقرأ في (رسالة في الصبابة والوجد) عن التعلق بالبناء: "إنه الرغبة يا أخي في عدم الزوال، في البقاء، في تثبيت اللحظة التي يستحيل مروقها، انفلاتها، فكأني أعوقها بالحجر".
إنه الهاجس الصوفي أمام الزمن والفناء، هاجس الخلود والبقاء، الزعزعة والتماسك، والذي يتواشج مع العلامات الصوفية الأخرى التي اشتهر الكاتب بتفعيلها في جلّ أعماله، وبخاصة منها: اللغة والحالة: "أليس بمصير كل تلاق إلى فراق، والفراق بداية العدم؟" وكذلك: "اعلم يا أخي أن الجماعة مرحمة، وفي التئام الشمل أنس، وفي الاتصال دواء وبقاء، وفي الانقطاع عدم(14)".
مثل هذه (الشذرات) سيغدو التكأة السردية التي يتفتق منها السرد في المتن الأول من (متون الأهرام). ومنها ما سيشكل متناً مستقلاً في كلمات معدودات، ابتداءً من المتن العاشر حتى المتن الرابع عشر ـ الأخير. وقد ترك الكاتب هذه المتون الخمسة الأخيرة بلا عنونة، مكتفياً بترقيمها. أما المتون التسعة الأولى فلكل منها عنوانه الذي جاء بالتنكير، كترقيم كل متن، لكأن التنكير بذلك يكتفي بالإشارة ويفتح المدى ويطلق الحالات التي تتوالى: (تشوّف ـ إيغال ـ تلاش ـ إدراك ـ نشوة ـ ظل ـ ألق ـ صمت ـ قصة).
من المتن السابع إلى المتن التاسع يغدو السرد أقرب إلى النجوى أو إلى الخاطرة، مما يعتمل في أحدهم نحو الهرم. أما المتون السابقة فيقدم كل منها ما هو أقرب إلى القصة، تاركاً للأهرام أن تشبك القصص. فالمتن الأول يقدم التهامي المغربي منذ طفولته وطلبه للعلم والحكمة والأدب إلى حجه ودفع شيخه لـه إلى الأهرام، إلى طوافه في بلاد المشرق وأقطار الزنج، ثم مقامه أمام الأهرام في لحظة التأمل والوجد، وحيث "يستحيل العشق بدون المعرفة"، والنظر إلى الهرم من كل ناحية في محاولة تلو المحاولة، حتى يستوفي السابعة، ويبدأ الاختلاف منذ الثامنة.
إن ذلك البناء "المهيمن المشرف الملغز المحيط الدال الجلي الثابت الساري القريب في بعده البعيد في قربه" هو غاية الرواية في قصصها الفرعية وفي شذراتها، وفي شخصياتها وتناصاتها وأحداثها. ويتوسل الكاتب في ذلك مستويات لغوية شتى، يسطع منها ما ينتسب إلى اللسان التراثي، سواء أكتبه الغيطاني مجارياً اللغة الصوفية أم مجارياً لغة المؤرخ العربي القديم، ومنها ما يأتي به التناص مع المقريزي أو ابن إياس وسواهما، ومنها ما ينتسب إلى السرد المباشر العادي الميسر. وهكذا يصف المتن الثاني رحلة فتية إلى الأهرام مدفوعين برغبة المعرفة والوصول إلى تخوم المجهول، كما لم يسبق إليه أحد. وترصد الرواية مشاعرهم وتحولاتهم من مكان إلى مكان داخل الهرم، من الممر الأول إلى المرقى الثاني فالغرفة المربعة فقضاء واحد منهم، فانقسامهم إلى فرقتين عندما يظهر لهم طريقان، وصولاً إلى الإحساس بالتوحد: "هو هو، وهناك هناك. وهناك هو. تكتمل استدارته، فتلتقي النقطة بالنقطة. وتكون الالتفاتة إلى الالتفاتة".
ويقدم المتن الثالث شخصية عجائبية منذ النشأة والتعلق بالأهرام، والتساؤل حول سر تكوينها، إلى محاولة الصعود بدافع غامض. ومثل من سبق، ومن سيلي، ينتهي ذلك ببغتات من الإشراقات، ثم التلاشي. فابن الشحنة، كما يقدم المتن الرابع، وكما يحدّث ابن إياس، حاول ـ بطلب من المأمون عندما قدم إلى مصر وشغله أمر الأهرام ـ قياسها، فإذا بالعرض في القاعدة كالعرض في المنتصف. ويردد ابن الشحنة "الأمر حيرة.. الأمر حيرة.."، ثم يصعد إلى فوق، ويتلاشى. وفي المتن الخامس تظهر الهيفاء التي سيترجّع وصفها في الأنثى الصوفية أو أنثى الصوفية، في رواية (خلسات الكرى)، ويظهر الشاب، ويندفعان صعداً إلى رأس الهرم، ويتحدان ويتلاشيان. أما الشرقي القادم من سمرقند أو بخارى أو خوارزم في طريقه إلى الحج، فيلازم ـ في المتن السادس ـ الهرم كظله، وتتعدد الروايات حول أصله ورحلته ومآله، لينقلب كل يقين إلى سؤال، وهذا شأن الرواية من مبتدأها إلى منتهاها، لأن الأهرام والبناء والحالة الصوفية، كما يكتب الغيطاني، سؤال لائب.
إدوار الخراط: يقين العطش(15):
بعد ستة عشر عاماً من صدور (رامة والتنين)، باتت ثلاثيةً، بصدور الجزء الثاني (الزمن الآخر)(16) والجزء الثالث (يقين العطش). وفيما كتب الخراط من روايات أخرى، عبر اكتمال الثلاثية، كان للصوفية القبطية والإسلامية بخاصة، والكونية بعامة، فعلها الأكبر. ولئن كان التعبير الثقافي عن هذا الفعل هو ما غلب على الروايات الأخرى، فالتعبير الكلي عن هذا الفعل هو ما حكم الثلاثية، عبر شخصيتها المحورية (ميخائيل)، وفيما عاشت من تجربة الحب لرامة.
وكما يليق بالصوفي، جاءت رامة امرأة استثنائية. ومنذ الجزء الأول الذي ناصف اسمها عنوانه: (رامة والتنين) ترسمها الرواية هكذا: "المرأة الإلهية العرافة الطفلة الضاحكة الحارة التعسة، العابثة الداعرة القديسة العذراء الأبدية..". إنها امرأة لم تكن من سلالة البشر، لا نهاية لها الآن وأبد الدهر، وميخائيل الذي يراها غريبة يراها أيضاً جزءاً منه، لا انفصال لـه عنها.
هذه الممرضة التي تقرأ اللغات القديمة وتكتب الروايات وتعمل في ترميم الآثار وتطوي عشاقها ـ وتلك علامات سيرتها في الثلاثية الروائية ـ تومض في حياة ميخائيل وتختفي، تنقضها وتقيمها، فيهتف "أحبك حباً كاملاً، نهائياً، دون تحديد". ويرسم ميخائيل هذا الحب كجوهر ومطلق. ومنذ هذه البداية في الجزء الأول سينفي ميخائيل ـ شأن الصوفي ـ أن يكون الحب من قبيل الكفاءة، أو عدمها، فليس فعل الحب هو الموضوع، بل الحب نفسه. وسنقرأ في (يقين العطش) أن "الحب ليس هو ـ وحده ـ أبداً"، فهو "دائماً شيء آخر، بل تتجسد فيه دائماً أشياء كثيرة أخرى، ملتبسة، من معاني الحياة نفسها، بل الوجود". كما سنرى ميخائيل في الجزء الثالث ينفي معرفته بالحب، ويقول: "لعلني أحب الحب نفسه، بشكل ما، على طريقتي الخاصة، ولعل معرفتي الوحيدة أنني أحبك".
لقد افتتح الجزء الأول بالتوكيد على أن الحب هو الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى تبرير، بل يأخذ ويعطي دون سؤال. كما أسرع هذا الجزء بالسؤال عما إذا كان الحب هو هذا النداء الذي لا رد عليه أبداً، ولا ينقطع. وسيلي أن الحب "عرامة شوق للحياة، لا تنطفئ أبداً، إيمان كلي بأن الإنسان لا يمكن أن يظل وحيداً، وأن الحب ليس كذبة". بيد أن ميخائيل كان قد رأى الحب لعبة، وسيراه فيما بعد كذبة، وهو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة. ويتوسل ميخائيل للتعبير عن حبه بالعديد من المتناصات الصوفية، فهذا شاعر صوفي يقول:
أرى الأيام صبغتها تحول
وما لهواك في قلبي نصولُ

وهذا آخر يقول:
فما جال في سري لغيرك خاطري
ولا قال إلا في هواك لساني

وهذا أبو منصور الحلاج يقول: "حويت بكلي كل حبك". وهذا القديس أوغسطينوس يقول: "بحثت عن الحب، مع الحب، وكنت أمقت الأمان". وتتوالى الأقوال: "تحمّل قلبي ما لا أبثه، وإن طال سقمي ومكنون إخباري"، "من لم يمت في الحب لم يعش به"، وأخيراً، وليس بآخر، هذا ذو النون الإخميمي، (بلديات) ميخائيل وإدوار الخراط، يقول: "أعرف الناس بمحبوبه أشدهم تحيراً فيه".
تلك بعض المتناصات في "يقين العطش". وقد أشار الكاتب في نهاية الرواية، بصدد سائر المتناصات، إلى أنه لم يثبت مظان ما اقتطف من تراث الصوفية والشعر المأثور والصحف اليومية، لأنه عدّها من نسيج الرواية. كما حرص الكاتب على أن يكتب بيت الشعر العمودي، حيثما ورد، بلا فصل بين الشطرين، توسّلاً شكلياً منه لمآل المتناصات ـ كقطبة ـ قُطَب من نسيج الرواية، فيما أحسب.
والمهم الآن أن ذلك الحب الصوفي من ميخائيل هو لرامة، لذلك كانت كما مر بنا امرأة استثنائية. لكن رامة امرأة من لحم ودم، جسد متعيّن، فكيف رسم الصوفي هذا الجسد؟
إنه الجسد الغني الوثير، القديم قدم الأزل، المتقلب بطينه، المتوفز بالشباب الغض، المتفتح بالرغبة الدائمة. ومن هذا الرسم في بداية الثلاثية إلى منتهاها يتساءل ميخائيل: هل الفيزيقية المباشرة الصريحة، هل الجسدانية البحتة هي النقية الخالصة لذاتها وبذاتها؟ وبقول ميخائيل، فإن عبادة رامة للجسد تجعلها مقدسة ونقية وإلهية: "أحس في هذا التمجيد غلوّ العابدين الذي يشارف الكفر، أو أن فيه سنتمينتالية لم تعد مقبولة في هذا العصر". وكذا، فليس هناك غير الجسد، والجسد جميل، لكنه ملتبس، وجسد رامة خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية، أما جسد ميخائيل فغريب "عصي عليّ، غير مطاوع، جامد مفصوم".
هذا إذن جسد المحبّ، وذاك جسد المحبوب الذي هو جسد العالم. والجسد الذي يعنون فصولاً في (يقين العطش) فنقرأ: (جسد ملتبس ـ جسد طعين ـ جسد غامض الوضاءة)، ينهض فيها برمّتها جسداً صوفياً بامتياز، على الرغم من الإلحاح على الوصف الفيزيقي والفعل الجنسي، فهذا الإلحاح محكوم بالحب الصوفي، وعلاقة الجسدين صوفية، أي إنها علاقة اللذة والألم، العلاقة التي تنهك الجسد، وتتجاوزه، وتدغمه في جسد الكون، ليكون وصال الجسدين واتحادهما، اتحاداً بالكون.
غير أن هذا الوصال ملفوع بالألم واللوعة، ولحظة الفقدان كما نقرأ منذ البداية لا تنتهي. وإذا كان ميخائيل يخاطب رامة هاهنا: "أنا وأنت وقد أصبحنا نحن" فشوق الحب لا ريّ له، والعالم معجون بالألم. وفي (رامة والتنين) يعبر ميخائيل من جديد عن النحن التي اتحدت فيها الأنا والأنت باعتبار الأساس هو التوحد: "ألا يكون هناك الأنا والآخر، ألا يكون هناك اثنان، بل واحد، عطاء متبادل كامل وأخذ متبادل كامل". وفي الآن نفسه يقوم النفي، فنظرة رامة لميخائيل، كما يعبر، ليس فيها حب ولا بغض: "بل مجرد انقطاع لكل صلة، ونفي حتى للنفي نفسه، نظرة كائن من عالم آخر، ليس علوياً ولا سفلياً، ولا يحاذيني ولا يتجاوزني ولا يضمني ولا ينفيني فأعرف أنه النفي إلى أبد الآبدين". ويخاطب ميخائيل نفسه قائلاً: "أنت عندما تفقد شيئاً تعرف أنه لن يعوّض، ولا يعوّض، وترفض مع ذلك، ترفض هذا الحس بالفقدان".
إنها علاقة من الوجد والاتحاد والانفصام والألم والفقدان والنفي، ليس لأن المحبوب غير معني بالمحب، بل لأن المحب لا يروم سوى علاقة كهذه. وتلك هي الجملة الأولى في "يقين العطش": "كان حسه بالفقدان الذي لا يعوّض عميقاً". وسيوالي التنازع بلا كلل، فميخائيل ينقض ما أغفل، وينفي ما أثبت، والحب قائم في وجه كل نقض، غير أن النفي لا يزول، وهاهو العاشق الصوفي يسائل معشوقته: "وكان فيك تلفي، فهل كان فيك ـ أيضاً ـ بقائي؟".
ولأن قارئاً قد يعادل هذه العلاقة بالرومانتيكية والنوستالجيا، وربما بالمازوخية أو السادية أو سواهما من التحليل النفسي، أياً كان مذهبه، فإن ميخائيل يعاجل أيضاً إلى نفي الرومانتيكية عن الألم الملازم لعلاقته برامة، ويرى مرة أن الألم واقعة حسية فقط، ثم يرى أنها قد تكون واقعة روحية. وميخائيل يهجو الألم: إنه شيء خشن، شعث، غير جميل بأي معنى، لكنه يعايش الألم متلذذاً، فهل من عجب أن يردد مع القائل، في متناص جديد:
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي
وعيني على فقد الحبيب تنام

وما دام الارتواء الكامل هو يقين العطش، فماذا يعني أن يكون الحب الجسداني بين امرأة ورجل شرطاً للحوار الكامل؟ هل يقين العطش هو ـ كما يتساءل ميخائيل ـ الفناء وتحدي الفناء معاً؟ هل من يقين وعطش ميخائيل لا يطاق؟
قد يكون من المفيد هنا أن يلتفت المرء إلى المدونة الصوفية، على الرغم من متناصات ثلاثية الخراط معها، من أجل إضاءة الصوفي في هذه العلاقة بين رامة وميخائيل، فمماطلة رامة وصدودها هي مما قال فيه ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه
فعندي إذا صحّ الهوى حَسُنَ المطلُ

والحب لدى ميخائيل هو مما قال فيه ابن عربي: "الحب يزاوج بين طلب الفناء وطلب البقاء... يدعوك إلى طلب المشاهدة فيفنيك عنك، ويدعوك إلى طلب إمساك الأمر فيبقيك معك". وكتابة جلّ الرواية في وصف رامة هو مما قال الجنيد في المحبة: "دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب". ولوعة ميخائيل هي مما قال فيها محمد بن سوار بن إسرائيل:

وهل تتحمل النكباء مني
إليهم حاجة القلب الكئيب

فتخبرهم بحفظ الود عني
وإن أضحى صدودهم نصيبي


فلنمضِ الآن إلى الفعل الصوفي في الزمن الروائي وفي الفضاء الروائي، حيث سيترجع في منتهى ثلاثية الخراط (يقين العطش) صدى البرهة الطللية في القصيدة الصوفية، فلنقرأ: "هذه الأطلال صروح ما زالت شامخة وقائمة الأركان، حتى إن كان أهلها قد رحلوا عنها. رامة ما زالت. ليست رسماً دارساً طوحت به عاصفات الليالي، بل هي حضور". ويتوج فصل "جسد ملتبس" من "يقين العطش" هذا البيت لجرير:
حيّ الغداة برامة الأطلالا
رسماً تحمّل أهله فأحالا

ولا ينسى ميخائيل أطلال رامة على طريق بيت الله. ولعمري، كان قميناً به أن يردد خلف ابن سوار أيضاً:
سلام قد تضمّن كل طيب
على جيران رامة والكثيب

تستدعي البرهة الطللية ما انقضى، متنكبةً الحاضر، ولائبةً على المستقبل الذي يعيد الماضي. وهذا القوام الزمني هو ما تأخذ به الرواية، فالحاضر يظل باهت الحضور وضامر الفعل، يظل كحاضر الصوفي قفراً وكآبة وانكساراً. هكذا يبدو العقد التاسع من القرن العشرين في مصر، في "يقين العطش" عبر ما ترسم من الأحداث الطائفية في المنيا، أو من تهريب الآثار وترميمها. وقد تكون الاستدارة عن الحاضر في الجزء الأخير من الرواية أقل أو أصغر منها في الجزأين السابقين، لكن العين تظل لائبة على كل حال خلف عنوان الجزء الثاني من ثلاثية الخراط: "الزمن الآخر". وهكذا يقوم بناء الرواية على الفصول الطويلة التي تستعيد ما عاش ميخائيل ورامة، بالتزاوج المحدود مع لحظة ما من الحاضر، وبالنشدان بين حين وحين لمستقبل يتجاوز الوجود الشقي (الحاضر) ويعيد الماضي السعيد والفردوس المفقود.
ربما تشي لعبة الزمن هذه في ثلاثية الخراط بالتزامن والتكسير والاندغام بين الأزمنة التي يقوم بها زمن الرواية في التجربة الحداثية بعامة. لكن الثلاثية تكتفي من ذلك بأهونه، شأن القصيدة الصوفية. فمزاوجة خطي الحاضر والماضي، مع غلبة الأخير، ومناوشة المستقبل لماماً، هي ديدن الثلاثية التي لا تغيب عنها الرحلة أيضاً، شأن القصيدة الصوفية، سواء أكانت رحلة في الفضاء الطبيعي والعمراني والآثاري، أم كانت رحلة روحية ومعراجاً.
يقول ميخائيل إن قضيته هي أن الماضي لا ينقضي. ويقول أيضاً إن الرحلة عنده متصلة في عتمة ضاربة الضوء وسرية، وليست مراحل. وفي (حركة) ترميم الآثار في مآل الثلاثية يعد ميخائيل الترميم كذباً، والفن كذباً، لأنه تجميل، والأصل بكل خشونته أو بهائه أو بكارته، لن يقوم. وللماضي، للأصل الذي لا يستعاد مهما بذل الباذل، جماله الخاص الذي لا ينبغي ولا يجوز إصلاحه أو تعديله أو إعطاؤه صورة مغايرة، مهما كانت مشابهة أو مقاربة، أو حتى مطابقة، لأنها ليست الأصل.
تثبيت هو للماضي إذن وتمجيد، ويأس من الاستعادة يضارع ويصارع نشدانها. إنها المأساة التي تلفع الوجود، فلا يكون لميخائيل سوى أن ينقذف في الكوني، كصوفي، حيث الفضاء الطبيعي، والخلود، وحيث الحق، وتلك هي السيرورة الصوفية للرواية في الزمان والمكان، فالماضي والحاضر والمستقبل طيّ الفضاء الأكبر: طيّ الفضاء الطبيعي.
في الجزء الأول (رامة والتنين) تحضر الصحراء اللانهائية والنيل والورقة والغصن والحمامة وموجة الزمن الزرقاء الخضراء والزرقاء الثابتة، ويحضر وجه رامة الماثل أبداً في الزمن. وإذ تأخذ ميخائيل صدمة كشف، تتفجر تلك العناصر في الفضاء الكوني، فإذ برامة كالكون كله، فيها قبس من كيان متقد متسام وإلهي، وحكايتها مع ميخائيل هي حكاية كونية إلهية، وهما يضربان في عالم خاص قد تحرر من القيود ومضى في طريق بهجة كونية من الحرية والطاقة المبذولة بسخاء.
يسأل ميخائيل محبوبته: "هل تظنين أنك أنت ـ الحقيقة ـ موجودة في قلب هذا التيه... هل تظنين أنك أنت موجودة في كل عام من هذه الأفلاك التي تتماس، ولكن لا تتداخل، تتساوق ولكن لا تتقاطع أبداً، في كل عالم، وحده، من هذه التي تدور، غريبة كل منها عن الآخر".
هذا السائل هو عينه من صاغ من رامة امرأة خالدة، وخاطبها: "أنت محدودة ومحددة، دانية البحث عن كمال ما، مفقود، وكأنك كاملة، وكأنك خالدة لا تموتين". ورامة تتناسخ من قميص إلى قميص، فهي إيزيس إلهة الحب القديمة والأولى والدائمة، هي العذراء وأم حوريس، وأم المسيح وستنا الطاهرة وعشتروت وهيرا وديميتر وأفروديت، هي جماع المريمات، والجوهر غير الفاني: (رامة والتنين). ورامة هي نعمة، حوريس، حتحور، ليليث، إينانا، الأميرة ميريت، بنت الملك رمسيس الخامس، زهرة القمر المنير، محظية السماء، محبوبة رع، أم الإله، بنت رع...: (يقين العطش). وأياً كانت أسماؤها، فهي ذات ميخائيل الأخرى كما يجهر.
لكنه أيضاً يرى الأبد كلمة لا معنى لها، والبحث عن الدوام صبياني وبدائي قليلاً، ويخاطب نفسه: "أنت ترى نفسك ميتاً، وتعيش مع الموت، تعيش الموت، تحمله معك، تصبر عليه، وتعانيه، أنت تحمل ميتاً في داخلك، والميت هو أنت أيضاً، قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير غطاء ولا كفن".
المحبوبة خالدة إذن والمحب ميت. الخلود والموت، أو الفناء بحسب الإيثار الصوفي الذي يردده ميخائيل، وهو القائل باشتياق الجسد إلى الفناء في الجسد الآخر. إنها أبدية الحب الصوفي التي تتشظى في ثنائياته الشهيرة: الحياة والموت، البقاء والفناء، الجسد والروح، المحب والمحبوب، الهجر والوصال، النقصان والاكتمال، والسلب دوماً في الذات المحبة، والإيجاب دوماً في الذات المحبوبة. وبالطبع، لا مكان للمنطق ولا للعقل في هذه المعادلات ـ الثنائيات، فميخائيل الصوفي يخاطب رامة "لا أحب المنطق. هنا لا أحب العقل"، والطريق سالكة إلى الجنون، وأولها الخمر والسكر.
في (رامة والتنين) حوار مطول بين الحبيبين حول الدونيزية بعامة، وفي ميخائيل بخاصة. والخمر بصنوف لا تحصى لا يكاد يغيب عن لقاء الحبيبين، فالنشوة حد الجنون مطلوبة، والجنون غاية ووسيلة، بالخمرة وبدونها. كذلك يتساءل ميخائيل وهَوْلاتُ الجنون جراء علاقته برامة، تصفعه: "هل أنا أجن؟".
لقد سبق ابن عربي إلى أن عدّ الجنون سقف المعرفة في حديثه عن عقلاء المجانين. وها هو ميخائيل يتقفى هذه الدرب الصوفية، حيث ثنائية العقل والقلب، وصولاً إلى الحق والمعرفة بالرؤيا.
يقول ميخائيل في الجزء الأول من ثلاثيته مخاطباً رامة: "المعرفة المحرقة هي معرفة من أحب. هذه هي المعرفة، فيم تفكرين؟ كيف تحسين؟ ماذا تقرأين؟ بم تحلمين؟ كيف تتنفسين حتى؟ ما خطاباتك، رؤاك، هذياناتك المخبوءة؟ ماذا في حقيبتك؟ أليس هذا فضولاً، والمعرفة ليست الملكية ولا السيطرة، هي الحق، وحدها، هي الحب". وهذا الحب ـ الجنس ـ المعرفة يملأ كل فجوات الماضي والمستقبل، من هنا يضيف: هذا الحب ليس تملكاً ذكورياً ولا انتهاكاً للمحبوب، كما سيلي في (يقين العطش)، فميخائيل يرى نفسه مقوماً أساسياً من مقومات جسد رامة. ولئن كان في "رامة والتنين" يرى الحق انهداماً للأسوار وتدفقاً لمياه الحياة المختلطة، فهو في "يقين العطش" يبدي ويعيد في التوله وفي التصوف بالعشق، وفي المطلق توقاً إلى "معرفتك معرفة شاملة في استضاءتك النورانية، وفي مباذلك الأرضية معاً، المعرفة الشاملة، الحب الكلي".
تلك هي الدرب الصوفية التي يحدو لها ابن عربي مرة، إذ يقول: "لو علمته لم يكن". ومرة إذ يقول: "سفور الحقيقة هو إفناء لكل عين سواها". وميخائيل في مضيه على هذه الدرب، شأنه شأن الصوفي، ستغدو عبارته تشبيباً بالمحبوب، وصفاً ومناجاة ومساءلة، وستكون مرة بعد مرة شطحاً، فالشطح ـ كما قال الطوسي ـ كلام ترجمه اللسان عن وجد، وميخائيل قد أخذه الوجد، فهو لا ينطق عن ذاته، وإنما عما يشاهد، كما قال الجنيد في شطح الصوفي، والمشاهدة هي للمحبوب الذي حدده الجنيد بالله، وحدده ميخائيل برامة جسداً ورمزاً.
لقد تخللت لغة الرواية حوارات بالعامية ومفردات ومتناصات، مما وشى بتعدد مستويات اللغة، ولكن تحت هيمنة اللغة الشاعرية التي تصل إلى الدفق وغنة الغناء والإصاتة والهزج، حيناً بعد حين. ولعلي لا أبعد إذ أعود إلى ما قال الشاعر الصوفي حسن رضوان في قول المتصوفة:
فإنهم أجلّ من أن تفتقر
أقوالهم إلى قياس مشتهرْ

أو اشتقاق إذ لهم قانون
ساروا به وسره مكنون

فلفظهم أقواله لا تفتح
إلا بذوق أو بكشف يمنح

فثلاثية الخراط لا تسير في نهج مطروق، وربما كان ذلك ما التبس على ناشر الجزء الأول (رامة والتنين) في طبعته الأولى، إذ عده مجموعة قصصية. وهذه الثلاثية غير معنية بأن يغمض بعضها على قارئ. وقد التفت الخراط في هذا الجزء إلى صنيعه اللغوي والبنائي فقال: "ولعل هذا الدفق من الكلام ليس إلا جسراً رقيقاً لا قوام لـه فوق المهاوي الغائرة المظلمة والمفتوحة في عمق الروح القلقة والأحشاء المتقلبة بالهوى والمضض والاشتهاء والجنون".
وفي مقام آخر يضع الخراط لعبته الروائية كلها موضع التساؤل، فنقرأ: "ألا ترى أن هذا الشعر أو التصوف، أو ما لست أدري، هو بتر وتشويه لنفسك أو للعالم؟ ألا تجد زيفاً وزيغاً وكذباً مقصوداً أو غير مقصود، أبيض أو غير أبيض، في هذه الزخرفة الشعرية أو التصوفية أو ما لست أدري؟".
سليم مطر: التوأم المفقود:
من أجل دراسة رواية سليم مطر (التوأم المفقود)(17) لا بد من العودة إلى روايته (امرأة القارورة) ابتداءً بالمرأة التي حملت الرواية اسمها ـ لقبها، أو بتوسل العجائبي وازدواجية السارد أو بإيقاع الحرب (العراقية الإيرانية)، وانتهاء بالرحلة السندبادية إلى أوروبا أو بذكريات الطفولة أو بوعي الذات والآخر أو بالوشاح الصوفي..
يتصدر رواية (التوأم المفقود) مقتطف من جلجامش، يلح عليّ بالإشارة إلى أنه عين المقتطف الذي صدّرتُ به روايتي (مجاز العشق ـ 1998)، ولكن بتصرف في صياغة فراس سواح له. كما يتصدر رواية مطر مقتطف من ألف ليلة وليلة، يستحضر للقارئ قصة السندباد البحري (العجيبة) ومؤاخاته للحمال. ومنذ البداية تنهض الشخصيتان المحوريتان في الرواية: الراوي (غريب) وشيخه (ومعلمه وشفيعه) توما الحكيم. وسيعرفنا الراوي في الفصل الخاص بالأخير أن اسمه يعني بالآرامية: التوأم. وكما في بداية الفصل الأول (المخاض) سيفتتح غالب الفصول قول للحكيم، فضلاً عما سيلي في بطن بعض الفصول. ويبدو قول الحكيم بعامة خلاصة نظرية لكل فصل، تتعاضد مع ما سبق وما سيلي، لتشكل فكرية الرواية ـ أطروحاتها في (العرفانية). ومن أجل ذلك جاء ملحق (حكاية الملك نبونيد نبي العرفانية) بعدما انتهت الرواية. وقد اقترح الكاتب في هامش من فصل (توما الحكيم) قراءة الملحق، ثم العودة إلى الرواية. ولعل من الأفضل هنا أن نبدأ بهذا الملحق الذي يؤرخ لنبونيد آخر ملوك بابل في القرن السادس (ق.م) والمتعلق بأمه التي تقدس إله القمر (سين) أكثر من ملك الآلهة (مردوخ). وتقديراً من نبونيد لأمه سعى إلى إعلاء شأن (سين) كإله للأنوثة والمشاعر الروحية، بخلاف (مردوخ) إله الفحولة والقوة. ويعد نبونيد أول باحث أثري في التاريخ لأنه نقب عن كتابات أسلافه، فأدرك أن المشكلة هي انحطاط ديانة المشرق إلى طقوس، وفقدان الناس روحانيتهم. لذلك دمج فكرة (المنقذ) الشامية الدهرية (تموز ـ بعل: إله الخصوبة والذكورة) بفكرة البعث والحسابات المصرية، فظهرت (المنداعية ـ العرفانية) كتعبير بسيط عن المعرفة الحدسية الطبيعية، وجمع نبونيد حوله أنصاراً، فتآمر الكهنة عليه من الفرس، وقرر الاعتزال عن الحضارة المحتضرة، فكانت (التيماء) قرب الحجاز، وصارت مركز نشر الدعوة العرفانية، وملتقى قبائل الرعاة الآرية الغازية على الحصان. بقبائل الصحراء العربية صاحبة (الجمل). وعبر قرون انتشر المعتقد العرفاني الذي عرف في الإغريقية بالغنوصية
(GNOSICISM)، وتشكلت طوائف العرفانية: العيسانية والصابئة والهرمزية والمانوية.. وصارت الإسكندرية مركز العرفانية بعدما دخلتها مؤثرات آسيوية وإغريقية، فكانت الأفلاطونية المصرية الجديدة تعبيراً فلسفياً عن ذلك. ويمضي الملحق إلى أن العرفانية بلغت ذروتها مع انبثاق المسيحية الشامية. وفي القرن الرابع الميلادي نشر ماني البابلي دعوته العرفانية، فصلبه الفرس وأحرقوه. ومن السلالة العرفانية مَنْ أسس يثرب ومكة، كما انحدرت قريش من سلالة نبونيد الذي يعتقد بعض أتباعه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان.
ليست خلاصات الحكيم سوى بيانات هذا الملحق، كما أن الحكيم نفسه ليس سوى تعلّة الراوي ـ كيلا نقول قناة الكاتب ـ لإرساله نظره أو نظريته وفكره أو فكريته في الرواية، وهذا ما تجلوه الوحدة الأسلوبية لقول الحكيم ولقول الراوي، مما يعبر عن وحدة صوتيهما، وثالثهما: التوأم، وبخاصة في الفصل الخاص بتوما الحكيم.
في السطور الأولى من (التوأم المفقود) يخاطبنا الراوي على طريقة الحكاية التي سبقت إليها رواية (امرأة القارورة)، فنعلم أن الحكيم كشف لغريب ـ اسم الراوي ـ الكثير من أسرار الواقع والتاريخ، فبات يستطيع الآن: "أن أسرد لكم حكاية ترحالي العجيب في عوالم الوجد والفقدان، خارج حدود الزمان والمكان، بحثاً عن توأمي المجهول".
وقد بدأت الحكاية ليلة اندلاع حرب الخليج الثانية (17/1/1991)، حيث كانت مارلين ـ زوجة غريب ـ في مخاضها في المشفى، وغريب يصحو على صوت يستغيث: "أرجوك أنقذني من الضياع والموت. أنا أخوك يا غريب.. أنا توأمك أرجوك خلصني أرجوك".
في طفولته، تملك غريب إحساس بالغربة عن الجميع، ومنذ بداية وعيه أحس أن لـه نصفاً آخر: "كنت ممسوساً بفكرة خرافية بأني في حقيقتي كائن هبط من سماء أو من كوكب بعيد". أما شيخه فيؤكد أن لدى كل إنسان ثنائية ـ وسيكرر ذلك في فصل "متاهة (أنا).. (هو).." ـ يولّد صراعُها الشيزوفرينيا. لكن لعبة غريب وتوأمه، كلعبة آدم وصاحبه في رواية (امرأة القارورة) ليست مرضاً نفسياً، بل لعبة روائية في التجربة الروحية الحاسمة: التجربة العرفانية التي تستدعي الفعل الصوفي في الرواية.
تطغى الخطابية على حضور هذا الفعل عبر (رسالة) الحكيم التي يبلغنا إياها غريب في بيانات ـ افتتاحيات الفصول غالباً. وإذا كانت الفصول بعد ذلك تجسد أو تمشهد الفعل الصوفي بخاصة، وتفجر التخييل والعجائبي بعامة، فالخطابية تحضر من حين إلى حين، عبر الملخصات والوقفات السردية.
كذلك يبدو الأمر مع الفصل الثاني (سيدة القارورة) والذي يحيل على عنوان رواية سليم مطر الأولى (امرأة القارورة). فمن حكمة الحكيم: "أن الوطن مثل الله، حاضر في ضمائر حتى أبنائه الملحدين" إلى المرقص الذي يقصده غريب، ويستحيل إلى الوطن، إلى صوت التوأم يرتجّ كأنه من (نشيد الوجود) مخاطباً غريب: "تعال سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي" إلى تدفق الوصف البديع لبحيرة جنيف وانبثاق الحورية الغامضة منها، حاملة قارورة خشبية؛ من ذلك نصل إلى (وحدة الوجود)، إذْ تتوحد سيدة القارورة بالبحيرة فالكون، وإذ تُرجّع مما سبق في رواية (امرأة القارورة) مخاطبتها لغريب: "أنت يا عزيزي غير موجود إلا هنا في رأسي.. ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا في قارورتي.. حياتك حياتي وترحالك ترحالي". ويلي رد غريب في هذا التبتل: "يا سيدة القارورة.. يا سيدتي ومالكة روحي وحياتي وتاريخي.. أنت ماضيّ وحاضري.. أنت الروح الحاملة لحيواتي السابقة واللاحقة.. أنت سر وجودي وأحلامي الأبدية.. خذيني.. خذيني أينما تشائين".
من متاهة إلى متاهة يرحل غريب، ولكل متاهة فصل، فتقوم الرواية بالرحلة التي يشتبك فيها السيري بالميتولوجي. وبداية ذلك تكون في الفصل الثالث (المتاهة الإيطالية) الذي يفتتحه الحكيم بتعليل صراع إنسان العصر مع ذاته في تجاهله لها والهرب منها "نحو بهرجات حياة مصطنعة". ويوالي الحكيم كأنه يلخص الرواية: "إن السفر الحقيقي هو الذي يجري في متاهات الروح، في خبايا الذاكرة: في الذات السرية المتحررة من قيود الزمان والمكان". ويحدثنا غريب أن متعته الكبرى هي السفر في الخيال: "إن تخيل الحياة، ظل بالنسبة لي، أكثر متعة وحرية من معايشتها".
في (عجيبة) من (عجائب) هذا الفصل ـ المتاهة، يلتقي غريب بالفتاة التي سكر معها في نفق محطة المترو إبان وصوله إلى روما، فيفكر بالسؤال (الغريب) الذي يهابه الرجال: ماذا لو وجدت نفسك امرأة؟. وذلك في إشارة إلى التوحد والاكتمال الإنساني الذي فصمته الذكورة، ولا يفتأ يقترن في الرواية بصورة الأنثى الصوفية. فإلى ما تقدم مع سيدة القارورة، سيلي في فصل ـ متاهة "(أنا).. (هو).." هذا الغزل الصوفي لغريب بإيمان ـ حبيبة عهده بالمراهقة: "إيمان الحاضر والماضي والأبدية.. سيدة العشق، ملكة القلب، باعثة الوجد، واهبة الحياة، وجهها السماء وجسدها الأرض.. هي الإيمان والشك والسؤال السرمدي.. هي الحياة والموت، الجنة والنار، هي الأكوان وما بعد الأكوان". وفي هذا الفصل نفسه يعود غريب إلى سيدة القارورة في اللحظة التي ابتدأت معها رواية (امرأة القارورة) فنقرأ في الرواية الجديدة كأنما نقرأ في سابقتها: "إنه يعيش عالم حلم في رأسها. الوجود بأجمعه ما هو إلا خيال في رأس هذه المرأة التي تعيش في عالم آخر هو أيضاً خيال، لكنه في رأس كائن أعظم. كل هذا التاريخ من آلاف وآلاف الأعوام والأوطان ما هو إلا دقائق من حلم في رأس امرأة تمارس رعشتها الأولى في أحضان عشيقها. هما يعيشان في عالم آخر يدور في رأس الكائن الأعظم. جميع أبناء هذه الأرض ما هم إلا حلم رعشة، بعنفها وهمجيتها وألمها وبهجتها وترددها بين تلاحم وتناء. شعوب تولد وتفنى.. حروب تخاض وحضارات تقام وبشر يمارسون لذة وتناسلاً، وارتعاشة هذه المرأة ما زالت تمنح الحياة لحلم الوجود". ويتصل بهذا النظر الصوفي للمرأة ما ترسله الرواية في اللذة والجنس والجسد. فتوما الحكيم يقول في متن (المتاهة الإيطالية): "إن الروح تتلبس بالجسد مجذوبة بلذة الجنس. إن شيطان الحياة الدنيا يتمكن بواسطة ارتعاشات اللذة من إغواء الروح وإقناعها لتهبط من الحياة العليا، وتدخل بذرة الخصب، فينشأ الوليد في الرحم. من اللذة تنبثق الحياة، وبها تستمر. إن فعل اللذة هو فعل الحياة، وهجر اللذة يدفع البدن لهجر الحياة والسير بدروب الموت والعودة إلى عوالم الأبدية. ألا ترى كيف تعوّد الإنسان من دون شعور، إلى الإكثار من فعل اللذة كلما هدده الموت وزادت مخاطره؟".
يبلغ الفعل الصوفي في الرواية مداه في فصل (توما الحكيم)، وبيانه ـ فاتحته: امتلاك الإنسان لطبقات عديدة متداخلة، وليس لماض واحد، بل لماض اجتماعي وماض كوني وماض بدني و "ماض روحي يرثه من الحيوات العديدة التي تناسختها روحه بمراحلها المتصاعدة من جماد ثم نبات ثم حيوان، حتى بلغت مرتبة الإنسان، وهي مستمرة بالتناسخ صعوداً إلى الإنسان السامي، الملاك الأبدي".
لقد التقى غريب بشيخه وهو يعبر الحدود السورية العراقية، عائداً إلى وطنه، متخفياً ومتقفياً أثر توأمه الذي ناداه ليلة مخاض مارلين واندلاع الحرب. فبعد أن صرعته الذئاب وصار كائناً من أثير، وتناسخت روحه في عوالم أليفة بأبدان سالفة، تلخص تطور الإنسان: نطفة من طوفان، جنين، وليد، طفل في غابة، شاب في مغارة، رجل يشيد مدناً ويحارب؛ وبعد أن جالت روحه في كل الأوطان، وتقمصت أبداناً في جميع الأقوام، بعد ذلك كله أفاق على ذلك الناسك (الغريب) في أطلال دير عرفاني قديم، بناه الملك نبونيد، حيث اعتكف المسيح ومحمد.
يعلّم الحكيم صاحبنا كيف يداوي بدنه من خلال مداواة روحه. والحكيم الذي يعرف عن غريب كل شيء يخاطبه: "إن توأمك هو دربك.. أكمل بحثك حتى نهايته وسوف تعرف سره". وبحسب الحكيم فالنفس جوهر خالد يتكون حوله جسد فان، والله "فيك حتى إن كنت لا تؤمن به". لذلك يدعو إلى أن نعامل الله مثل أب، وليس مثل ملك.
وفي التعبير الصوفي المعهود عن وحدة الوجود، تأتي الذئاب وديعة إلى الحكيم وغريب الذي كان جازماً عندما هاجمته بأنها "مختصر كلي لجميع الناس الحمقى الذين استغلوا طيبتي وسببوا لي الأذى في حياتي". وإذ يستفيق شوق غريب لمارلين وللماضي، ويطلب من شفيعه خمرة تسكره أو نبتة تدوخه، يقول الشفيع: "إذا رغبت الثمالة والتحليق أنت وبدنك في فضاءات الفقدان، فإني معك، وعندي لك طريقة تفوق بتأثيرها الخمرة والحشيشة"، وليس ذلك غير حفلة (ذكر) حول النار مع هتفة (الله حي). وما إن ينسجم غريب مع بدنه المتلوي والمتسامي حتى تباغته كائنات غريبة، هي الذئاب التي شرعت تشكل دائرة وهي تحوم حوله وحول الحكيم، تلعق الهواء كأنها تشارك في الرقص. وبالدبك واللطم والهلوسات والتمرغ في الأرض، يبلغ غريب "ذلك الوجد الذي تتفكك فيه مكونات الجسد، وتصير أثيرية كالروح"، ويمّحي لديه الفرق بين رؤى الوجود ورؤى دواخله، فتمتزج الأشياء وتنعدم حدود الزمان والمكان "حتى يستحيل الكون كله إلى كينونة واحدة تنطق بتلك الكلمات وحاوية سر الأبدية: حيّ". وفي الفصل التالي "متاهة (أنا).. (هو).." وبعدما يعود الحكيم إلى ثنائية الوجود، وإلى الثمالة يردف: "ما الجنون والهلوسات إلا تعبير عن فقدان العقل قدرته على السياحة فوق سطح البحر البدني وتحليقه في لجة الوجود الكلي الذي تنعدم فيه حدود الزمان والمكان. أما الموت فهو انقطاع الروح عن الوجود المادي البدني، والتسامي إلى تلك الأعماق الخالدة".
يقود الحكيم غريباً إلى المكتبة المخفية تحت الأطلال، حيث ألواح حجرية بكتابات مسمارية، ورقائق جلدية بلغات آرامية، وكتب مسيحية ومانوية بالسيريانية، وكتب إسلامية بالعربية، مما توارثه النساك وترجموه. وفي المكتبة باب لن يدخله غريب حتى ينضج. وفيما يُمضي الوقت قارئاً، يعود التوأم إليه فجأة، كما تظهر سيدة القارورة، فيكرر مما سبق، وبالإفقار عينه للفعل الروائي لصالح جهارة القول (الخارجي): "كل ليلة تأتيني لتغرقني في عوالم أحلامها. تأخذني في ترحال بين حيوات سالفة، كأني حقاً قد عشتها. أحداث عجاب جرت في أزمان ومدن مختلفة. تتناسخ روحي في أبدان ملوك وثوار ولصوص وشعراء ومحاربين وأنبياء ومعتوهين.. ودائماً كانت هذه المرأة معي". حتى إذا أنهكته القراءة اقتحم الباب المحرم، فغدا كأنه في رحم الأرض، وهنا يطلق الشيخ هذا الذي (نضج) قائلاً: "أمامك الدرب الذي سيقودك إلى توأمك".
يمضي غريب في نفق (غريب)، وتتكشف الجدران عن رسوم وكتابات من سلفوا، فيركض دون أن يبلغ مصدر الضوء الذي يلوح في النهاية، ويصير جزءاً من الأرض، ويقول كأنما الحكيم هو الذي يقول: "الإنسان ما هو إلا معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق.. إن جهنم الإنسان تكمن في حيوانيته، وجنته تكمن في روحانيته". وفجأة تشرخ صمت النفق انفجارات وضجيج طائرات: إنها الحرب، وإنه العراق: إنه الواقع.
بالعودة إلى الواقع نعود إلى بداية الرواية لنتقرى في شخصية غريب وحكايته وعيه للذات الفردية والجماعية ووعيه للآخر وللعالم. فاسم (غريب) كما يسرد هو (جمعة) – أي إنه سيد ومنذور للإمام العباس أو الرأس الحار، أي إنه مقدس – و(جمعة الحلفي) هو اسم الكاتب سليم مطر. ومن المفارقة هذا أن جمعة الحلفي هو أيضاً اسم الشاعر الشعبي العراقي المعروف. وينتسب غريب – جمعة كما يسرد في الرواية إلى ذلك الجيل الذي قررت الحكومة العراقية توحيد تواريخ ميلاده في يوم 1/7، يوم موت تموز إله الخصب. وإذا كان (غريب) يؤسس لاستثنائيته في اسمه الأصلي، أو في طفولته كما تقدم، فهو يؤسس لتوأمته بسيرة أسرته: بدءاً من الأم التي لا تذكر إن كانت أنجبت توأمين، إلى العشيرة التي تسرّ أن لجمعة – غريب توأماً ضاع في طوفان، أو مات، أو لا يزال حياً. وفي الحاضر، في بداية الرواية، يؤسس غريب لتوأمته بحاجته إلى توأمه كي " يُعين نفسي على نفسي، ويكون حكماً في الصراع المحتدم بين أقوام ذاتي"، فكأنه آدم في رواية (امرأة القارورة) الذي يصدعنا بحشود وأقوام روحه. وعلى أية حال، فلعبة (القرين) هذه أليفة في الرواية، وحسبنا هنا الإشارة إلى رواية سليمان فياض (أصوات) وإلى روايات مؤنس الرزاز، وبخاصة (متاهة الأعراب في ناطحات السراب) حيث تقوم التوأمة أيضاً.
خاتمة:
مبكراً التفت مصطفى زيعور إلى ما بين التصوف والأدب الشعبي، وخص بالعناية (القصة الصوفية) من حيث صلتها بألف ليلة وليلة، ومن حيث لغتها (الحروف- السيولة- الإيحاء- الإدهاش- المصطلحات..) أو من حيث عالمها (الذاتية-الحكم-الطفولة-الكرامة..).
ومع اطراد الفعل الصوفي في الرواية، اطردت عناية النقد بهذا الأمر. أما بالنسبة لي، فقد توخى اختيار الروايات في هذه القراءة أن تتوزع جغرافياً، وأن تتواصل، منذ بداية الفعل الصوفي في الرواية العربية، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وأن تتعدد التجارب، مع التركيز على ما قدم الغيطاني والخراط، وبخاصة الأخير في (يقين العطش)، لعل في ذلك ما يوفر مصداقية أكبر لنتبيّن ما كان من الفعل الصوفي في الرواية العربية، إنْ في البناء أو الشخصية أو اللغة أو الرؤية أو التخييل أو التناص.. وحيث باتت تشتغل عناصر التجلي والكشف والفقد والاتحاد والحلول والمعرفة والحق والعشق والجسد الكوني وسواها من عناصر التجربة الروحية الصوفية، فضلاً عن لعب المخيلة وتفجر التخييل ووهم الشاعرية وسواها من عناصر التعبير الفني.
لقد رأى فيصل دراج في صنيع أدوار الخراط كهانة جديدة، ونعت غالي شكري هذا الشطر من التجربة الحداثية الروائية بالحداثة الكهنوتية(18). ولئن صح ذلك أو بعضه – على الأقل- ففي زعمي أن التعبير الكلي أو الجزئي عن الفعل الصوفي، حاسماً كان أم غير حاسم، في الرواية العربية، يمكن لـه أن يوفر ويتوفر على الكثير، من الحفر في الذات إلى الحفر في التراث السردي الشعبي والرسمي، وفي الأدب الديني الشعبي بخاصة. كما يمكن لهذا الفعل أن يشرع الأسئلة في الرواية على الكوني والإنساني عبر مفاصل الإيمان والموت والحب والجسد والطبيعة والوجود والخلود.. فضلاً عن تطلّب ذلك كله إلى لغة – لغات. بيد أن الأمر ليس بهذا اليسر، فالمزالق تحف بالدرب، ومثال الشعر بادٍ للعيان، كما هو الأمر في تجربة إدوار الخراط، حيث وصل اللعب أحياناً إلى المجانية، في مقاطع الدفق التي تتوخى جرس حرف ما (من رامة والتنين: حرف الحاء ص 92- من يقين العطش: حرف الفاء ص 215. وهذان مثلان من أمثلة كثيرة). والأهم هو هيمنة الزمن الذاتي غير التاريخي على الزمن التاريخي، فمع هذه الهيمنة يتقدس الماضي، ويكون ما يتعلق بالحاضر وبالمستقبل في الرواية تكأة للماضي واستعادة، وتتوحْدن الذات وتتضبب الرؤيا، فهل ستعيد الرواية سيرة الفعل الصوفي في الشعر وما آلت إليه هذه السيرة من تأزم في التجربة الحداثية، أم إن الرواية ستستطيع أن تجعل من الفعل الصوفي فيها فعلاً مخصباً؟


 الهوامش:
(1)-الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، والثانية عن دار البعث، قسطنطينة، الجزائر.
(2)-انظر: (نحو منعطف روائي عربي جديد) في كتابي: بمثابة البيان الروائي، دار الحوار، ط1، اللاذقية 1998.
(3)-من حواره مع عبد العزيز غرمول في مجلة الحياة الثقافية، تونس، العدد 83 لعام
1984.
(4)-اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1996، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الكتابة والاستجابة، ط1، اتحاد الكتاب العرب 1999.
(5)-منشورات رياض الريس، لندن 1990، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الرواية والحرب، ط1 الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999.
(6)-دار الكنوز الأدبية، ط1 بيروت 1998.
(7)-دار الحوار1997، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الكتابة والاستجابة، مذكور.
(8)-دار ورد، ط1، دمشق 1997، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الرواية العربية: رسوم وقراءات، مركز الحضارة العربية، ط1، القاهرة 1999.
(9)-مطابع صومادي، ط1 الدار البيضاء 1993.
(10)-انظر فصل (التشكيل الروائي العجيب) في كتاب (الكتابة والاستجابة)، مذكور.
(11)-دار الشروق، ط1، القاهرة 1989.
(12)-انظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الرواية العربية، رسوم وقراءات، مذكور.
(13)-دار شرقيات، ط1، القاهرة 1994.
(14)-انظر دراسة عبد الرحيم جيزان لهذه الرواية في كتاب: لقاء الرواية المصرية المغربية، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 القاهرة 1999.

(15)-دار شرقيات، ط1 القاهرة 1996.
(16)-دار شهدي، ط1، القاهرة 1985.
(17)-المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت-عمان 2002.
(18)-أنوه هنا بدراسة فريال جبوري غزول: الرواية الصوفية في الأدب المغاربي، مجلة ألف، العدد 17 لعام 1997، الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

تيتوف بارة 18-10-07 12:27 PM

الفصل الثاني:
الرواية والتراث السردي:

طوق الحمامة أنموذجاً


بتحريض قديم من دراسة الطاهر مكي لتأثير (طوق الحمامة) في الأدب العالمي، ومن التقلب بين سيرة ابن حزم وأسباب تأليفه لكتابه الشهير، وبين أبواب الكتاب، أقبلتُ على الروايات التي رصدتُ أثراً ما لـ(طوق الحمامة) فيها، وهي: رواية (فردوس الجنون)(1) لأحمد يوسف داوود (سورية) ورواية (الباذنجانة الزرقاء)(2) لميرال الطحاوي (مصر) ورواية سلام عبود (يمامة: في الألفة والألاف والندامة)(3) ورواية (رائحة الأنثى)(4) للزاوي أمين (الجزائر). ورواية (العصفورية)(5) لغازي القصيبي (السعودية) ورواية (وراق الحب)(6) لخليل صويلح (سورية)، فبلغت المدونة ست روايات، ثلاثة من كتابها يجمعون الشعر إلى الرواية (أحمد يوسف داوود- غازي القصيبي-خليل صويلح)، وتأتي جميعاً في ذروة اشتغال التناص في الحداثي من الرواية العربية، وفي ذروة حفر هذا الحداثي في التراث السردي. وربما يقوي من مصداقية هذه المدونة توزعها الجغرافي في بلاد العرب، وتوزعها الجيلي. أما الأهم، فهو توزّع أثر (طوق الحمامة) في هذه المدونة بين الأساسي في روايتي ميرال الطحاوي والزاوي أمين، والثانوي في باقي الروايات، وبالأخيرة سأبداً.
***
تتوزع رواية (فردوس الجنون) على فصولٍ أو أبواب، دون أن تحمل هذه التسمية، وإن يكن لكل منها عنوانه الذي يخاطب بحرفيته أو بصيغته التراث السردي، ومن ذلك باب –فصل (رسالة الغفران) و(التوابع والزوابع) و(طوق الحمامة).

في هذا الفصل يعتزم (بطل) الرواية السوري بليغ مغادرة بيروت بعد مقامه الطويل المرير في حمأة الحرب اللبنانية. ويلتقي في كاباريه (تامارا) بزيزي التي أحبته بصمت، وتسأله الآن: "أما جاء وقت أن تناديني يمامتي مرة واحدة؟". وسيستجيب بليغ الوحيد المستوحش مثلها في هذا العالم الفاضل المرعب. وإلى بيتها سيمضيان ليعلن صباح ليلتهما الأولى أنها المرة الأولى التي يتوحد فيها مع امرأة، ولتعلن هي أنها أحبت مرتين من قبل، وفيهما فقط أعطت جسدها، وهذه هي المرة الثالثة مع بليغ، على الرغم من أنها تعمل في كاباريه. وطوال ثلاثة أيام تالية، وكما سيعبر بليغ: "كان كل منا يريد أن يطمر كل شقائه وشقاواته تحت ركام اللذة الفريدة في (أننا معاً) أننا وحيدان متحدان باستمتاعنا بكل هذه الحرية الغريبة في شقة كالزنزانة". ولأن بليغ يحسب أنه أحب زيزي أكثر مما قدر، يطلب الزواج، فترفض، وإن كانت تريد منه طفلاً: "أنا أحبكَ حب يأس لا حب اختيار، ومع ذلك فهو حب أصيل وصاف وقوي فوق ما تظن". أما بليغ فيضيف: "كلانا يحب الآخر كي لا يهلك في اليأس".
ولا يحضر (طوق الحمامة) ولا صاحبه إذن إلا في العنوان، إعلاناً عن قصة حب تبحث عن نسبها في باب من أبواب كتاب ابن حزم. وعلى نحوٍ مقارب يبدو الأمر في رواية سلام عبود الذي يذكر (طوق الحمامة) بين المراجع التي أفاد منها في الجانب التاريخي من روايته. وسيكون للقارئ أن يتلمس الأثر الجواني لكتاب ابن حزم مثل كتاب (مصارع العشاق) في العلاقة التي تقوم بين ابن يعيش وخولة أو بينه وبين الجارية حور، من منفاه إلى مقامه بين سبتة وأليشانة وقرطبة.
***
بخلاف ذلك سيحضر ابن حزم وكتابه في الروايات الأخرى. بل إن ابن حزم، وفي غير (طوق الحمامة) سيحضر أيضاً في رواية (العصفورية). فبطلها البروفيسور بشار الغول حصّل دكتوراه في الفقه من جامعة طومبكطاء التي تمنح الدكتوراه في كل المجالات، وكان موضوع أطروحته "اجتهادات الإمام ابن حزم الأندلسي".
على القارئ أن يوطن نفسه على السخرية في رواية (العصفورية) ليتابع أيضاً تبدد نظرية السببية بين الأشعري وتلميذه الغزالي وفتوحات ختم الأولياء. لكن الله "قيض لهذه الأمة بطلين، ابن حزم الأندلسي وابن تيمية الحراني، أنقذا نظرية السببية وأدخلاها غرفة الإنعاش، ولا تزال هناك".
ولأن البروفيسور من حزب الشقر، يؤصل تحزبه في تفضيل ابن حزم للشقراوات، وفيما علل ذلك في (طوق الحمامة) إذ قال: "إني أحببت في صباي جارية لي شقراء اللون، فما استحسنت من ذلك الوقت سواد الشعر، ولو أنه على الشمس، أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت". غير أن البروفيسور الذي لا يقرّ على قرار، يستنكر تحزب ابن حزم للشقر قائلاً: "هذا، إن سألتني، تطرف من أبي محمد، رحمه الله. ولعله كان متأثراً بمعازبيه الخلفاء الأمويين في الأندلس الذين كانوا، والعهدة عليه، مجبولين على تفضيل الشقرة (لا يختلف في ذلك مختلف). والتطرف ذميم حتى في حب الشقر. والتطرف يوجد تطرفاً مضاداً. وهذه هي الديالكتيكية التي اكتشفها هيجل السنة الفارطة". وسيذكر البروفيسور من ابن حزم أيضاً مخالفته كل الأئمة في موضوع الساحر، إذ ذهب إلى أن الساحر لا يقتل، بل يعزز.
***
على نحو ثانوي أيضاً، ولكنه أكبر، يبدو أثر (طوق الحمامة) في رواية (وراق الحب)، والتي ستتصدرها من هذا الكتاب المحاورة التي ساقها ابن حزم في كتابه: "-إذا كره من أحب لقائي، وتجنب قربي فماذا أصنع؟ - أرى أن تسعى في إدخال الروح على نفسك بلقائه وإن كره. – أنا لا أرى ذلك، بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، وأصبر ولو كان في ذلك الحتف".
يكتب روائي (وراق الحب) وبطلها روايةً. وفي سعيه إلى مدخل لروايته يفكر في أن يكون ذلك حكاية التاجر البغدادي الذي صادف في الشام ياسمين زاد وعشقها، فطلبت مهرها أن ينسخ لها كتاباً يحتوي أجمل ما قيل في الحب والفراق والموت. وبعد قرابة عشرين سنة عاد العاشق بقافلة من الجمال محملة بمئات المخطوطات، ومات تاركاً وصيته بحفظ الحمولة، لكن الحمولة فقدت في إحدى غزوات تيمورلنك لدمشق، سوى نسخة من (طوق الحمامة)، بدأ الراوي بالبحث عنها في المكتبة الظاهرية، متلبساً روح أمبرتو إيكو في (اسم الوردة) وهو يبحث عن مخطوط غامض في أحد الأديرة القديمة في إيطاليا.
عثر الراوي على نسخة من الكتاب – الكنز: (طوق الحمامة). لكن أمله خاب حين وجده أنيقاً كأنه مطبوع للتو. وعلى الرغم من قراءته للكتاب من قبل ثلاث مرات متباعدة، أثارت شهيته هذه المرة توطئة ابن حزم، فقال: "واعتقدت أنها مفتاح روايتي، وتخيلت نفسي أتجول في أحد أروقة قصور قرطبة بين أشجار الرمان، أردد قصيدة كتبتها عن الصبابة في الحب، أو عن الإشارة في العين". ولقد أغرى الراوي أسلوب الأسلاف في التوطئة، ففكر في أن يبدأ روايته كما بدأ ابن حزم كتابه، ونقل من أجل ذلك من توطئة ابن حزم ما نقل، كما نقل تعريفه للحب - وسنقرأ المنقولين بطولهما في الرواية - والأهم أنه عزم على تبويب روايته المنشودة في ثلاثة أبواب: باب الحب، باب الفراق، باب الموت، ثم اكتفى بباب الحب.
ذلك هو الأثر الثانوي – بالأحرى- العابر لـ(طوق الحمامة) في تلك الروايات الأربع، فماذا عن الأثر الأساسي في سواها؟
***
جاءت رواية ميرال الطحاوي (الباذنجانة الزرقاء) في ثلاثة فصول، عنوان آخرها: (طوق الحمامة). ويبدأ هذا الفصل بمقتطف من (باب الوصل) حول العطاء الذي لم يحصل عليه أحد، والحالة التي ليس في الدنيا ما يعدلها: عاشقان بلا رقيب وبلا ملل، وبتوافق في المحبة والأخلاق ورزق متاح وزمان هادئ وصحبة طويلة. ولكن أنّى ذاك لراوية الرواية وبطلتها، وهي التي تخاطب نفسها ليلة عيد ميلادها داعية الحبيب المدبر عنها، فيأتيها ابن حزم، ويترك لها في دفترها عبارته الشهيرة: "الحب- أعزّك الله- أوله هزل وآخره جد..".
كان (طوق الحمامة) أول كتاب في الحب تقرأه العاشقة التي تروي سيرتها. وها هي – إذ تستعيد ذلك- تخط سهاماً باتجاه التمرد والقمع الاجتماعي والتمزق الحضاري وازدواجية المثقف.. وتتربع على إحباطاتها، وتكتب أشياء، لا هي قصص ولا أشعار: "إنها فقط خدوش وجهك من أثر حادث قديم".
بلغة شعرية تستذكر هذه الطالبة الجامعية الولد الذي أحبها، والرجال الحمقى الذين يتغزلون بعينيها ولا يرون فمها المحاك بالخياطات. ويصل ذلك إلى انتظام الرواية على أبواب (طوق الحمامة)، وأولها (باب من أحب من نظرة واحدة)، ويتصدره مقتطف من كتاب ابن حزم، كما سيلي في الأبواب الأخرى، وكما سبق في بداية الفصل. وإذا كان ذلك الباب من (طوق الحمامة) يحكم على الحب من نظرة واحدة بأنه الأسرع نمواً والأسرع فناء، والأبطأ حدوثاً والأبطأ نفاذاً، فالرواية التي توالي استخدام ضمير المخاطب تأتي بقصة فتى الكوفة من كتاب الغزالي (إحياء علوم الدين)، ثم يصدعها صوت الحبيب: أنت حمقاء وغير طبيعية، ويصدعها صوت زميلتها أولغا: الحب خبرة حواس، وهي، الباذنجانة الزرقاء نون كما تعرف عن نفسها، عاشقة النظرة الأولى، تنشبح إلى الباب التالي في هذا الفصل الأخير من الرواية، وهو (باب الوصل)، فإذا بنصفها يعيش تجربة الوصل، ونصفها يشاهد، ثم تكتب في أوراقها عن جسد المرأة والكبت، وتمضي إلى (باب الهجر)، متابعة استذكار عشقها المقيم الخائب، والكتابة في شأن المرأة عندنا، فيما ابن حزم يصنف الهجر في بابه بين التجني الذي يقع في أول الحب وآخره، وبين "الملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان"، وبين القلى، ودواؤه عند ابن حزم أن يتصدى المحب لمحبوب محبوبه. لكن عاشقة رواية (الباذنجانة الزرقاء) مهجورة، وكفى، سواء أتابعت السرد بضمير المتكلم، أم خاطبت المعشوق، أم سردت يومياتها، ثم تمضي إلى (باب الغدر) ونقرأ: "قبل النهاية تقفين في كل قصصك وتمطين خيوط الحكي كي لا تنزلقي إلى الفقد". وعلى صوت ذلك الذي لا يفكر في الزواج ولا في الأطفال، ويدفع عاشقته عنه" أنا ناقص قلق"؛ على ذلك تبلغ الرواية خاتمتها في (باب البَيْن) حيث يلتقي المعشوق صديقة للعاشقة ويقول إنه لا يعرف تلك العاشقة، وإنها تافهة، فتكره العاشقة الصديقة التي تنقده، ولسان حالها ينطق بقول ابن حزم في الطاعة: "ولا يقولنّ قائل إن صبر المحب على ذلّة المحبوب دناءة في النفس". وتوالي العاشقة الانتظار، كأنما تحيا ما ساق ابن حزم في (باب البين) في كتابه، من البَيْن القصير إلى بَيْن الرحيل إلى سواهما، ما عدا بَيْن الموت، وإن يكن بالعاشقة مثل الفوْت الذي هو بَيْن الموت، بحسب ابن حزم.
***
إذا كان (طوق الحمامة) قد فعل فعلاً أساسياً في بناء رواية (الباذنجانة الزرقاء) وفي شخصيتها المحورية، فهذا الفعل سيتضاعف في رواية الزاوي أمين (رائحة الأنثى). ويبدأ ذلك بإشارة – ستبدو غامضة حتى تكاد الرواية تنتصف - إلى كتاب ابن حزم، في إعلان (حمامة) رحيلها عن وهران التي تستقبل مثقفاً اغتالته الجماعات الإسلامية.
ترحل (حمامة) حاملة معها مخطوطة للشخصية الروائية التي لن نعرفها إلا باسم ابن بطوطة. وتفكر حمامة بأن ما تحمل سينسيها (طوق الحمامة). وعلى هذا ينقفل أول أبواب الرواية (باب السماء). فإذا بلغنا (باب النساء) طلع (زهار) بحكاية علاقته في منفاه السوري بالعاشقة الحلبية التي قرأت (طوق الحمامة)، وأسلمت الروح مع آخر صفحة منه، ولما يقدم لها زهار الخاتم الذي قضى في صناعته 180 يوماً.
يتمنى زهار أن يقرأ الكتاب، ويقرأ فيه عن جحيم النساء ونار العشق وجنة الغيرة. وقبل أن ينهي الكتاب يرمي الخاتم في البحر، فتخرج امرأة لا تشبه الحلبية، من قلب الخاتم أو من البحر أو من حكايات ابن حزم. وفي مقصورته يجد امرأة تشبه من خرجت من الحكايات أو من.. وهي تقرأ فيما ظنه (منامات الوهراني) فإذا به (طوق الحمامة). وانشغل زهار بالكتاب عن المرأة التي تحتل سريره "مستلذة فضائح النساء والأمراء في كتاب قتل مؤلفه وقتل الحبية وجنّن الآلاف". وودّ زهار لو ألقى بـ(الكتاب اللعين) في البحر، فيما اقترحت حمامة اقتسام السرير والحكاية، ففكر: "عليّ أن أتجنب حكايات ألف ليلة وليلة وطوق الحمامة فكلها حكايات مؤسسة على الغواية والرغبة". وحين تشرع تحكي من (طوق الحمامة) يعتزم مقاطعتها، كيلا تنهي الكتاب فتموت، ويهجس: "دون شك، إذا استمرت في القراءة، فإنها إما تقتلني أو تقتل نفسها.. إن لعنة طوق الحمامة ستأخذ على الأقل واحداً منا كما أخذت الحلبية التي أمر فقيه حلب ومؤذنها ومغنيها في الوقت نفسه أن يدفن معها كتابها كي تأخذ لعنتها معها.. أخطأت أيها المؤذن ذو الصوت الجميل، فلعنة ابن حزم قائمة". ويتمنى زهار أن تطرد حمامة ما استطاعت شيطان ابن حزم الذي يصفه هو بالفقيه الإباحي الذي يقرأ عليها سخافاته كي يقتلها: "مازوخي.. إنها مستسلمة له، تنتظر نهايتها أو نهاية الحكاية، عليّ أن أرفع الكتاب المفتوح أو المصلوب فوق نهديها، وأن أخلصها من الهاوية".
صباحاً تعصف الريح في الخارج أو في الحكاية التي لم يجد لها ابن حزم غير نهاية الجنون، وأنفاس زهار وحمامة على الزجاج تلهث خلف سرب من المجانين الهاربين على أوراق كتاب (طوق الحمامة). آنئذٍ فكر الرجل في أن يسمي المرأة حمامة، وستسميه هي (زهار)، ويكون علينا أن ننتظر من الرواية (باب الغيرة) لتتابع (يامنة) الروي، فنرى حمامة تدخل في وحشة كتاب ابن حزم، وتقرأ فيه كيف يؤكل الرجال، ونرى دعوى (يامنة) أن من قتل (زهار) ليس غير ابن بطوطة، كي ينام في حجر حمامة وهي تقص حكايات (طوق الحمامة) عن الغلمان والغيرة وغبار الخيل ومآثر السحر. وسنقرأ أن حمامة بعد اغتيال زهار "لم ترفع عينيها عن كتاب طوق الحمامة لرجل اسمه ابن حزم زنديق وكافر، قضى جزءاً من حياته في المنافي والسجون، وإنه لكفره ووقاحته وأفكاره منع من التدريس في جامع قرطبة الكبير. كان يتستر بظاهر إسلامي كي يكتب عن النساء والغلمان والجنون وأسرّة الملوك".
تستبطن يامنة في (باب الغيرة) ما ذهب إليه ابن حزم من أن الغيرة "خلق فاضل مركب من النجدة والعدل.." ومن أن "الغيرة إذا ارتفعت ارتفَعت المحبة". لكن ذلك وسواه، وبالنسبة ليامنة أم لسواها من شخصيات رواية (رائحة الأنثى)، تغدو لـه جبلّة أخرى تخاطب جبلّة (طوق الحمامة) وتفتق فيها وتعيد تشكيلها، تأسيساً على ما تعنيه الحكاية في العيش وفي الرواية، وعلى الحفر الروائي في التاريخ وفي التراث السردي، كشهادتها على الراهن – الجحيم الجزائري- وهذا ما سيتوالى في (باب الدفن) من الرواية، حيث الطشقندي يبحث عمن يعلمه العربية كي يأكل قلب حمامة: "كي يشرب هديل حكاياتها العجيبة المسروقة من ابن حزم.." وفي (باب الحديث الشريف) حيث يحول عهد حمامة لزهار بينها وبين أن تتركه وتدخل في حكايات ابن بطوطة التي باتت تبدو لها أكثر إغراءً من حكايات طوق الحمامة. وفي هذا الباب تخشى حمامة كل المدن "ما دامت غرناطة وإشبيلية قد خدعت ابن حزم بالمنفى والسجن، وهو الرجل القلم الذي طلق المناصب والسياسة، وهام في الكتابة وقصص الحب والجنون والشر والوساوس". وفي هذا الباب أيضاً، بعدما يُرمى – يدفن زهار في البحر، ويرفع زرياب التابوت بين جناحيه إلى قرطبة أو وهران، تتساءل حمامة: "لماذا لم يتكلم ابن حزم عن زرياب؟ إن غيرة كانت تأكل قلبه، وهو الذي دوخ نساء وفتيات قرطبة وسائر الأندلس وبغداد وبلاد الشام". وأخيراً، وفي (باب عبد القادر) الذي يقفل الرواية، تعانق حمامة كتاب ابن حزم، وهي حزينة على المدينة التي يحرقها الجحيم الجزائري المتفجر منذ أكثر من عقد. ومن تمثال الأمير عبد القادر، الذي يتوسط المدينة، والذي قد يكون ممتلئاً ببعض الغيرة من الوهراني ابن بلده – صاحب المنامات - كغيرة ابن حزم من زرياب، من التمثال إلى عبد القادر الذي اغتيل – لنتذكرْ الباب الأول من الرواية - تفكر حمامة في هذا العاشق الخجل الذي انسحب من حكاية من حكايات ابن حزم، لأنه وجد فيها بعض الوقاحة أو الإباحية.
***
هكذا تبدى الأثر الأساسي لـ(طوق الحمامة) في روايتي ميرال الطحاوي والزاوي أمين. ومنذ ابن إياس (جمال الغيطاني وروايته: الزيني بركات) إلى ابن حزم في هاتين الروايتين وسواهما، بلغت الرواية الحداثية العربية ما بلغت من وعبر الحفر في التراث السردي، ولعلها ستبلغ ما هو أكبر وأهم، سواء لأنها باتت أقدر وأجدر، أو لأن كنوز التراث السردي – مثل كنوز الراهن - لا تنفد.



 الهوامش:
(1)-مذكورة سابقاً.
(2)-دار شرقيات، ط1، القاهرة 1997، وانظر دراستنا لها في: الكتابة والاستجابة، مذكور.
(3)-دار الكنوز الأدبية، ط1، دمشق.
(4)-دار كنعان، ط1، دمشق 2000.
(5)-دار الساقي، ط2، لندن 1999.
(6)-دار البلد، ط1، دمشق 2002.

تيتوف بارة 18-10-07 12:29 PM

الفصل الثالث:
التجريب الروائي في تونس


مقدمة
وسم التجريب اللحظة الروائية العربية منذ بدايتها، فجاءت ريادة فرنسيس مراش ونعمان القساطلي وزينب فؤاد ومحمد حسين هيكل، بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تجريباً في كتابة تختلف أو تقطع مع موروثها في السرد واللغة، بفعل فواعل شتى، ثقافية وغير ثقافية.
بعد عقود قليلة شرع السبيل يتباين بين رواية تقليدية ورواية حداثية، وشرع التجريب يغدو علامة فارقة للحداثة الروائية. ولئن كان ذلك بدأ بقوة في ستينيات القرن الماضي في مصر وسورية بخاصة، فقد بدا بقوة أكبر في تونس، ولكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد التوكيد على الريادة التجريبية الحداثية التي كانت من قبل لمحمود المسعدي (حدث أبو هريرة – السدّ) ولعز الدين المدني (الإنسان الصفر)، وحيث يمكن تشخيص العلامتين الكبيرتين اللتين ستسمان التجريبية الروائية في تونس، وأعني: البحث في التراث السردي واستثماره (المسعدي) والانفجار الشكلي وتفجر الذاتية (المدني).
هكذا تواترت روايات مصطفى المدايني (الرحيل إلى الزمن الدامي –1981) وهشام القروي (ن-1983، أعمدة الجنون السبعة-1985) وعروسية النالوتي (مراتيج- 1985، تماسّ- 1985) وفرج الحوار (النفير والقيامة –
1985) وسواها.
إبان ذلك كان التأزم يعاجل الحداثة الروائية العربية، من الفخامة والصخب إلى التتقين واختزال الراهن ونرجسية الذاتية والغنوصية.. وإبان ذلك أيضاً كان قد غدا للحداثة الروائية منجزها الكبير، من تهشيم العمود السردي إلى التلاقح مع الفنون (السينما والتشكيل والغناء والموسيقى) ولعب الضمائر والأزمنة والتهجين اللغوي والنصّي..(1) وفي الأمرين معاً: أمر المنجز وأمر التأزم، كان التجريب علامة فارقة، فماذا كان للرواية في تونس منهماً؟
السيرة النصيّة:
استيعاءً للمنجز الحداثي العربي وغير العربي في الشكل الروائي، بما يعنيه ذلك أولاً من تفجير للمنجز التقليدي، وبما يعنيه من سؤال الذات المبدعة، أخذت الرواية في تونس تمعن في مسائلة شكلها، وبالتالي في الانكتاب في العراء أو على المكشوف، أي في ممارسة اللعبة الروائية أمام القارئ، وكل ذلك مما أدعوه بوعي الذات المبدعة، أو بوعي الذات الروائية، كما يتجلى في كتابة النص لسيرته.
من ذلك أذكر ما جاء في رواية كمال الزعباني (في انتظار الحياة)(2)، حين يختفي الصحافي عيسى الشرقي تاركاً للفنانة التشكيلية فادية ظرفاً فيه من مراسلاتها، وفيه – كما نقرأ- فقرة من رواية أو سيرة ذاتية وخواطر أسفار وتأملات فنية أو فلسفية متنافرة، ومذكرات شخصية غير مؤرّخة، ونص أو عدد من النصوص المتداخلة تقدم تفصيلات عن سمية وعائشة..
تغوي الرواية بأن يراها القارئ في محتوى الظرف نصاً هو – كما نقرأ- جملة المقاطع المتفاوتة التي لم تستطع فادية ربطها إلا اعتماداً على لون الخط وحجمه، وعلى الورق، فيما يتراوح النص بين سرد أحداث قريبة، واستحضار مشاهد وصور وحالات من شخص يتماهى مع الكاتب حيناً، فيأخذ النص شكل سيرة ذاتية قائمة على الاعتراف والتداعي، وينفصل عنه أحياناً، فتتحول الكتابة إلى ضرب من التحليل أو التخييل الروائي.
يحتوي الظرف العتيد على رسالة يوصي عيسى فيها فادية بتسليم الظرف إلى كمال الزعباني، وبألاّ تحاوره، لأنه سيحاول إقناعها بأنه كاتب الرواية "وبأننا نحن جميعاً، لسنا سوى كائنات وهمية اختلقها خياله المريض خلال عزلته شبه الكلية التي امتدت أربع سنوات..". وستلتقي فادية بجار كمال الزعباني في سعيها خلفه. وستصفه الرواية بالكاتب العنكبوتي الذي ينسج ذلك التعقيد. وفي المحصلة، لن تفتأ الرواية تجرب في تقنية الكابوس والتقرير والسيناريو وفي السرد الكثيف وملاعبة الإيقاع والذاكرة والمتناصات الشعرية والغنائية، حتى ينهض بنيانها أمام القارئ وبمشاركته في اللعب، موهمة بـ/ ومستثمرة ومعرية للسيرة الروائية ولقدسية وباطنية الكتابة.
وفي رواية محمد الباردي (حوش خريّف)(3)، تجريب آخر لكتابة السيرة النصيّة، يقوم على الحضور المباشر للسارد، والمسافة التي يجلوها بينه وبين الشخصيات الروائية، بينما الرواية لا تفتأ تجرب في تقنية الوصف والتشذير والتقرير والتصوير الفوتوغرافي والسينمائي.
ففي فصل (شذرة- فقرة): (ارقصي ع الرنّة)، وحيث يصوّر فتحي الأرتيست في معرض الأزياء التقليدية، وبحضور فضيلة وهاجر، يخبرنا السارد أن تحت القطع الخارجية من اللباس، والتي تلتقطها عين فتحي، ثمة قطعتان داخليتان لا يمكن أن يرسمهما إلا "سارد متطفل مثلي يريد أن يكون محايداً ولم يفلح".
وفي عنوان فصل سابق نقرأ: "فصل من تقرير خبير اليونسكو نقله إلى العربية سارد لبيب". وفي فصل تال هو (ما خفي من خبر سارة حوحو) يتابع السارد أحوال هذه المغنية، ويتوحد بالكاتب وهو ينفصل عنه، فنقرأ: "ولكنني في هذه اللحظة، وأنا أصوغ كتابي هذا، وأتخيل الصورة كما رسم ملامحها رواتي، لا أستطيع أن أحدد تحديداً دقيقاً في أية زاوية كانت تجلس السيدة، فلماذا؟".
لأن الرواة كما يخبرنا السارد لا يعرفون التفصيل، ويختارون التعميم "ولذلك فأنا أسعى إلى تركيب المشهد، وأتخيل الزاوية التي يمكن أن يقف عندها الرائي ليصف ما يرى". وفي الفصل نفسه، يقدم السارد لما يورد من المتناصات الشعرية بأنه ليس من الحفّاظ "على الرغم من أن شعر العرب رتيب ووزنه، سهلٌ حفظه، ولكن رواتي سجلوا لي هذه الأبيات..".
ويلعب السارد هذه اللعبة أيضاً في فصل (عرس النار) فيقول: إن ما استطعت أن أدركه من أخبار سارة حوحو من خلال نتف الجرائد والصور الشخصية والأخبار المقطعة، متشابه، ولست مستعداً الآن لأن أتحول إلى إسكافي يرتق الوقائع ويصل بين ما تقطع، فلأمضينّ في اللعبة الخطيرة، ولأبلغنّ منتهاها". وفي هذا الفصل يصارح السارد قارئه بأن علاقته بحوش خريّف وبسارة حوحو قد تحوّلت إلى علاقة شبقية غريبة. كما يصارح بما عاش وبلغ من كتابة هذه الرواية، حيث رواته وخياله، و(أسطورة) الحوش التي جاء ليعقلنها، عقلنة العالم الخبير، فإذا بها تبلعه وتدخله في منطقها الخاص.
ومحمد الباردي يعدُّ روايته هذه – كما نقرأ على غلافها - نقلة نوعية في كتابته، تتبنى مشروع بحث عن رواية المكان، ويكفي منها وفيها أنها (رواية تجريبية). ومهما يكن من قراءة الكاتب لروايته، فالباردي في (حوش خريّف) لا يجرب فقط لعب السارد على المكشوف، وبالتالي تقديم شطر من سيرة النص، بل هو يجرّب أيضاً السخرية والتشذير واستثمار الغناء والرقص.
وتلك هي أيضاً رواية إبراهيم الدرغوثي (الدراويش يعودون إلى
المنفى)(4) التي تبدأ بهذه العبارة: "لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرواية". ويعلل الراوي ذلك بخوفه القلم والقرطاس منذ حرقِ كتب ابن رشد إلى منع (ألف ليلة وليلة) في القاهرة قبل سنوات معدودات.
لكن درويشاً يهدد الراوي: "إن لم تكتب هذه الرواية سأقتلك شر قتلة"، والرجل ليس غير كاتب هاو، حاول في القصة القصيرة والمقالة ما لم يلتفت إليه نقاد الدرجة الثالثة. وهكذا يتعاور الراوي ودرويش على اللعب، فالدرويش سيتولى الإملاء، والراوي الذي يستشير القارئ "ما رأيك صديقي القارئ.." سيتولى النسخ وهو يعود كل حين إلى القارئ: "قد يقول بعضكم ما هذه بالرواية" لأنها تفتقد الرابط وتخبط، لكنها حقيقة الحقيقة، كما يؤكد راويها –كاتبها، وهو – هي- يمعن في اللعب على المكشوف.
السيرة الروائية:
بالإضافة إلى وشائج وتباينات السيرة الذاتية والرواية، تواتر وتنامى وتعقّد سؤال الذات الكاتبة في الرواية، تحت وطأة النبذ المؤسّسي للمثقف إلى الهامش، والعوامل الثقافية والاجتماعية التي غذت الفرادني وعقّدته. وباشتباك ذلك مع المغامرة الحداثية، شرع كتّاب يجربون في سيرة روائية مختلفة، أمثّل لها بما راد لـه غالب هلسا منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتابعه فيما تلا حتى وفاته، وأعني حضوره باسمه الصريح في الرواية، أي حضور الكاتب كشخصية روائية، مهما يكن من اعتماد المروي على السيري، وهو ما جرّبته في رواية (المسلّة- 1980) فقط. ومن آخر – وربما أفضل - ما أشير لـه في هذا الصدد رواية حليم بركات (طائر الحوم) ورواية خليل النعيمي (الخلعاء).
أما في تونس فقد مضت الرواية سريعاً وبعيداً في تجريب السيرة الروائية، عن مألوفها الذي نراه – مثلاً- في رواية عروسية النالوتي (مراتيج).
هكذا جاءت رواية حسونة المصباحي (هلوسات ترشيش)(5)، وحيث اكتفى الكاتب بإشارتين، أولاهما هي التصدير المقتطف من كتاب (المسالك والممالك) حول تسمية مدينة تونس بترشيش، والثانية هي الإهداء، (إلى أمي التي مضت دون أن تتذكر موضع مولدي).
فإثر ذلك، وفي السطور الأولى من الرواية، تشير الأم إلى الفضاء مخاطبة ابنها: "وضعتك هناك"، وهي لا تذكر بالضبط، وهذا ما يعذب راوي الرواية الذي يتوسل ضمير الغائب، كما يليق بالرواية غير السيرية، كي يستذكر ويستذكر، والذاكرة عتلة الرواية السيرية والسيرة الروائية بعامة.
وقد يجد قارئ في تسمية الكاتب لبطل روايته (قمح أفريقيا)(6) لحمدي رجب – والاسم الثلاثي للكاتب هو محمد رجب الباردي – تكأة للسيرية، لكن صلاح الدين بوجاه لا يكتفي بمثل هذه التكأة، مهما تلاعب بالضمائر أو غامر في التخييل والتركيب. ففي رواية (التاج والخنجر والجسد)(7) ثمة صاحب المخطوط الذي يكشف السارد خفايا لعبة السرد لديه. وصاحب المخطوط- كما يقول السارد للقراء في فصل: السيف- "قيّمٌ على أمري وأمركم جميعاً". وفي فصل (هبة المغرب إلى أفريقيا) نقرأ ما ورد في "كتاب (حمام الزغبار) الموروث عن الأجلّ الأكبر أبي يسر صلاح"، والكتاب من مؤلفات صلاح الدين بوجاه، والنص إذن وهو يلعب، يكتب سيرته أو منها، مما سنجده أكبر وأجلى في رواية بوجاه (النخاس)(8).
تقوم هذه الرواية على سفر الكاتب تاج الدين – هل يحق لنا أن نشير إلى الوزن مع الاسم الأول المركب للكاتب: صلاح الدين؟ - بحراً من مدينة القيروان – مدينة الكاتب - إلى جنوا. وعلى السفينة تتفرع الحكايات، ومنها حكاية الإسبانيولية التي علمت تاج الدين النخاسة، ولعبا معاً لعبة (التاج والخنجر والجسد). وفي حقيبة تاج الدين التي توصف بالجنون، وتتكدس فيها مخطوطات هي من مؤلفات صلاح الدين بوجاه: المستجاد في أخبار الجموع والآحاد – أسفل خط الجحيم - حمام الزغبار.
هل للقراءة إذن أن تمضي إلى الكاتب من الكاتب النخاس في الرواية، الجوال أبداً، الذي يتخذ ألف شكل وشكل، الحلزون التائه والزاحف في دنيا الناس؟ وهل الذي يجريه الكاتب في بناء الرواية كما تأتي الإشارة في الرواية (النخاس) إلى (المستجاد..) كطلسم مرصود يرتق فتق المدينة الرابضة كالمومياء، غير قادرة على الانبعاث، وغير موقنة من قوتها؟
اللغة بين التتريث والتهجين:
يندر أن وقعت لغة الرواية في تونس في مزلق الشعرية – نسبة إلى الشعر- كما شهدت الحداثة الروائية في مصر وسورية، منذ بديع حقي إلى حيدر حيدر وإدوار الخراط، حيث يترامى المزلق من فيض اللغة على المتطلبات السردية إلى الإصاتة.
وبالمقابل، تنتأ تأثيرات لغة المسعدي في اللغة الروائية لخلفائه من الكتاب التونسيين. ومن هنا، أو بدونه، ينتأ حضور التراث اللغوي الفصيح المتعالي في روايات تجريبية شتّى، حتى ليغدو ذلك ميسماً للغة صلاح الدين بوجاه وللغة فرج الحوار التي مضت إلى مضارعة اللغة القرآنية، حتى في الفواصل بين الآيات، مما نجده في روايته المخطوطة (طقوس الليل)، وهي التجربة التي نراها أيضاً في الرواية القصيرة – أو القصة الطويلة - (رؤيا) للكاتب الأردني هاشم غرايبة.
يرفد هذا التجريب لدى بوجاه والحوّار قاموس الرواية اللغوي بمفردات وصيغ شتّى، على الرغم مما ينأى بها عن لغة العصر نحو المبالغة في الحفر اللغوي في التراث، أي نحو: التتريث، الذي نجده لدى بديع حقي وإميل حبيبي أيضاً.
غير أن التهجين اللغوي الذي يمارسه بوجاه والحوّار وحبيبي ينزل بالتتريث اللغوي من عليائه ونخبويته واستفاضته، فتظل للشخصية الروائية حيويتها وخصوصيتها، بينما يغلّ التتريث هذه الشخصية في رواية محمود طرشونة (المعجزة)(9)، كما غلّها في روايات بديع حقي، على الرغم مما يجربه طرشونة في تعدد الأصوات، وفي التهجين النصّي وملاعبة الضمائر.
وفي سبيل آخر تمضي اللغة الروائية لمحمد علي اليوسفي ومحمد الباردي وكمال الزعباني وإبراهيم درغوثي وظافر ناجي وحسونة المصباحي وسواهم، حيث تنشط الفصحى غير المتعالية أو النخبوية، بقدر ما ينشط التهجين بالعامية التونسية، وأحياناً بالفرنسية وسواها، هنا أو في روايات بوجاه والحوّار.
على أن الأهم بصدد التهجين ليس ما يتعلق بالعامية التي قد تستغلق على قارئ غير تونسي، بل هو ما يوفّره تعدد الرطانات المهنية أو الاجتماعية، مما يخصّص لغة الشخصية الروائية، فيخصصها هي. وهذا ما قد يشتبك مع التتريث، لتنتسج البلاغة الروائية التي كثيراً ما يجري خلطها بالبلاغة الشعرية.
التتقين:
استجابة لما يتفجّر في الذات وفي الآخر – من الجار التونسي إلى العدو الصهيوني- واستجابةً لتفجير الشكل الروائي التقليدي، والشكل الروائي الحداثي أيضاً، يتوالى التجريب في بناء روائي مختلف، منه ما سبق في لعبة السيرة النصية، وما سبق في التهجين، ومنه استثمار التراث السردي العربي، الرسمي والشفوي، والأسّ في ذلك كله هو ما يسمح به مفهوم الرواية من المغامرة التجريبية التي لا تنتهي وهي تبدع شكلاً فشكلاً.
وهنا تأتي استراتيجية الكتاب التي تناجز مفهوم الرواية لدى فرج الحوار في روايته (التبيان في وقائع الغربة والأشجان)(10)، حيث يجبهنا منذ البداية هذا التحذير: "هذا الكتاب خيال قحّ". والاستراتيجية عينها نجدها عند صلاح الدين بوجاه، وإن كان كل كاتب يفعّلها بطريقته. فرواية بوجاه (النخاس) يتصدرها مقتطف من كتاب ابن النديم (الفهرست) يومئ إلى ما يروم الروائي من أن يكون في روايته أخبار الأمم ومصنفيها، ومن الاكتفاء بالكلمة الدالة. وفي نهاية فصل (عودة القرش وطير النوء..) نقرأ: "هذا فهرست ليلتنا"، ثم يلي فصل الفهرست الأول "في أخبار النخاسين الغرباء..". وستأتي هنا لعبة الفهرست – اللفافة ذي الصفحات العشرين. وسيعنون الفهرست فصلاً آخر من الرواية هو (الفهرست الكشاف في أخبار العرب..) وفيه وصف للفهرست الذي عثر عليه كافينالي في غرفة تاج الدين. وتتعنون نهاية رواية (النخاس) بـ(أطراف الكتاب) كما تعنونت بدايتها بـ(صدر الكتاب). وكما يظل السؤال في النهاية معلقاً (هل تتم الروايات أبداً؟) فإن ضفر البداية إلى النهاية يعلن المرام في أن تكون الرواية كتاباً، بما يعني ذلك من عصيان على التجنس، ومن أمداء التجريب.
ها هنا يخرج التجريب بالبناء الروائي عن أليفه التقليدي والحداثي، فنراه يترجرج أو يتفجر. ولعل ما جاء في رواية بوجاه (القاع) عن هيئة الدار، أن يرسم مقاربة أخرى للبناء الروائي، حيث تتكاثر الأشكال في تعاريج الرسوم ورائحة الدبق، فيدعو بعضها بعضاً، وحيث سيرك خفي ومتوثب، فيه الدائرة، والدائرة المنفتحة، والشمس، والشمس التي تتفرع أشعتها كي تنتهي بصليب أو هلال، والشمس المنقوطة، والشمس الفارغة، والمثلثات المتكافئة، والنجوم الخماسية والسداسية، وفيما بعد يتصادى لغو الجن والتخاريف والأحلام والطلاسم والهلوسة.
يستدعي التتقين تفعيل التقنية، سواء أكان ذلك بمهارة وسلاسة أم بتمحّل وتكلف. وفي روايات فرج الحوار بعامة ينحو التتقين هذا المنحى، فرواية (التبيان في وقائع الغربة والأشجان) – مثلاً - تتعنون في مفتتحها وفي ختامها بـ(في البدء)، وتراها وهي تروم الحفر في المقدس التاريخي والراهن، تتشذّر. واستراتيجية التشذير كاستراتيجية الكتاب، تناديان التراث. والأولى، فيما يبدو، مغوية جداً للتجريب الروائي في تونس، فعليها تقوم وبها تتصل الحكايات في رواية محمد علي اليوسفي (شمس القراميد)(11) والتي نقرأ فيها للراوي: "أخرجُ من زمن الأسلاف أولاً، لأخرج من تربتهم لاحقاً، وأروي على لساني كل ما جرى بشأني". واستراتيجية التشذير هي أيضاً ما يصدعنا في رواية إبراهيم الدرغوثي (الدراويش يعودون إلى المنفى)، وبدرجة أدنى في رواية محمد الباردي (حوش خريّف).
خاتمة:
بالطبع، لا يستوفي ما تقدم في السيرة النصية والسيرة الروائية والتتريث والتهجين والتتقين تجريبية الرواية في تونس. فثمة أيضاً توزيع المستويات السردية بالاستعانة بنوع الحرف الطباعي، كما فعل فرج الحوار في رواية (التبيان..) حيث خصّ بالأسود ما يتصل بالعلوم والتكنولوجيا – هل هذا ما يصلنا بعصر ما بعد الحداثة؟ - ومونولوج المحظورات، والكتل السردية الكبيرة والكثيفة التي تلخص تجربة الصحراء الدائلة مقابل البحر. وثمة أيضاً في هذه الرواية الرسائل التي تصل الحفر في تاريخ المقدس – كما فعلت رواية رجاء عالم: (حبّى) – بحرب الخليج الثانية. وفي أية رواية تقريباً تأتي لعبة الضمائر الثلاثة، وبالتالي لعبة الأزمنة الثلاثة. وإذا كان المرء يفتقد هذه اللعبة الصوفية المتفشية في التجريب الحداثي الروائي العربي بعامة، ففي رواية (شمس القراميد) لفحة من ذلك، وتتصل بذلك من طرف أو آخر استراتيجية الغرائبي أو العجائبي أو الفانتازي التي لا تكاد تغيب عن رواية تجريبية في تونس.
وهذا كله وسواه، وكده هو في القاع الاجتماعي، وفي الذات المهمّشة والمعصوبة. غير أن ناقداً مثل عبد الحميد عقّار، يرى أن التجريب لدى الكتاب وبعض النقاد بلغ في تونس خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي درجة من السعة والامتداد تجعل منه حركة نظيرة لما يشبه حركة الطليعة أو النزعة العصرية في الأدب. ويعد عقّار من بين مؤشرات هذا المنحى "حدة التمرد المعلن على القوالب والأشكال القائمة، وما يكتنف الكتابة أحياناً من غموض مبالغ فيه يكاد يتحول إلى ما يشبه الاستيحاء السوريالي دون سياق مقبول"(12). وإذا كان عبد الحميد عقّار يتلمس في ذلك صدى عز الدين المدني وكتابته الريادية عن الأدب التجريبي، فإنني أرى أن قول العقار ينسحب من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلى فورة الرواية في تونس في العقدين التاليين. ولقد كان ذلك – فضلاً عن العجز عن الإحاطة - سبب اختيار المدونة هنا من نصوص العقد الماضي، لعله يساعد على تبيّن ما بلغت تجريبية الرواية في تونس، وما تومئ إليه، كفاصل من فواصل الحداثة الروائية العربية في راهنها وفي أفقها، وهي تتأزم وتروم منعطفاً جديداً يستثمر ما أنجزت الرواية العربية وغير العربية، ويجرب في تجاوزه.


 الهوامش:
(1)-انظر: نبيل سليمان، بمثابة البيان الروائي، مذكور سابقاً.
(2)-تونس 1998.
(3)-سراس للنشر، ط1، تونس، 1997.
(4)-دار رياض الريس، ط1، لندن-بيروت 1992، ودار سحر، ط2، تونس 1998.
(5)-دار طوبقال، ط1، الدار البيضاء، 1995.
(6)-دار الحوار، ط1، 1992.
(7)-دار سعاد الصباح، ط1، القاهرة، 1992.
(8)-سراس للنشر، ط1، تونس، 1999.
(9)-دار الجنوب، ط1، تونس، 1996.
(10)-دار الجنوب، ط1، تونس، 1996.
(11)-دار الجنوب، ط1، تونس، 1997.
(12)-عبد الحميد عقّار: الرواية المغاربية: تحولات اللغة والخطاب، ط1، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 2000، ص84.

تيتوف بارة 18-10-07 12:30 PM

الفصل الرابع:
الحداثة الروائية في الجزائر


مقدمة
إذا كانت ريادة الرواية العربية - من نهاية القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين - قد ابتدأت مقلدة هذه اللحظة أو تلك من التراث الأدبي العربي أو من الرواية الغربية، فقد كان ذلك التقليد أيضاً تجريباً لشكل مختلف من الكتابة، بمستويات مختلفة، وإلى أمداء متفاوتة في تواضعها، أي إنه كان حداثة أيضاً، وبما هو عليه من تقليد. ولئن تمفصل تاريخ الرواية العربية من بعد، وطوال قرن مضى، على اللحظة التقليدية واللحظة الحداثية، فقد وسم التجريب اللحظتين معاً، وهذا من بين ما يفسر عدم استقرار اللحظة التقليدية على الرغم من استمرارها. أما اللحظة الحداثية فقد قامت وتأزمت، بالتجريب. وبالتجريب يبدو أن الحداثة الروائية العربية تمضي في منعطف جديد يتجاوز تينك اللحظتين بقدر ما يستثمرهما(1). وهنا، كما في اللحظة الحداثية، ما فتئ النقاد والكتاب يصدحون بحداء التجريب الذي يستعصي على حد جامع مانع- كما ترى هناء عبد الفتاح، فمثل هذا التحديد للتجريب يعني نهايته(2)- وإذا كان ناقد مثل جابر عصفور يُلْمع للتو بالسمات الفذة والآفاق غير المحدودة للتجريب(3)، فإن ناقداً وروائياً مثل أحمد المديني كان قد قرر قبل عقدين أنَّ "التجريب المستمر هو ما يهب الكتابة شرعيتها وتبريرها"(4). وقد بكر عز الدين المدني قبل ذلك بعقد آخر إلى قدر من التفصيل، فرهن التجريب للبحث، ولم يقصره على الشكل(5).
آنئذ، وفيما كان الحداثي الروائي يغذ الخطى على يد وليد إخلاصي وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط وإميل حبيبي... كانت الرواية في الجزائر تدشّن انطلاقتها على يد شيخيها: عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطّار. وسرعان ما سيغذ تجريبها الروائي الخطى أيضاً، وهو ما سيكون مدار القول، بعد أن ننوه إلى ما عناه ويعنيه الحداثي بعامة، وبصدد الرواية في الجزائر بخاصة، من موقف نقدي من راهن الكتابة ومن الكتابة، ينطوي على ما ينطوي عليه من تصور وفهم يتصلان بالمستقبل أيضاً. ولعل من المفيد هنا أن نستعيد قول الطاهر وطار: "وإذا سألنا ما هي الصلة بين اللامعقول والواقع، فإن الجواب مفجع. أنا أقول: إنهما على صلة حميمة، حيث إن واقعنا في العالم الثالث واقع لا معقول. وإلا ما معنى أن نسمع مثلاً أن رابطة من الضباط في بلد عربي تحرق ملايين الكتب، لتضع كتيباً صغيراً لا معنى لـه بديلاً لكل المعاني؟ هذا الواقع كنا نقرؤه في الميثولوجيات الرومانية والإغريقية. كنا نعرفه عن كاليغولا أو قاراقوش أو غيرهم. وها نحن نعيش ذلك اليوم في القرن العشرين، فبأي شيء أعبر عن اللامعقول إذا لم أوظف اللامعقول نفسه؟"(6). فهل تكون مرجعية الحداثي الروائي إذن فيما عصف بالجزائر منذ الثورة التي جاءت بالاستقلال، إلى الثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي، إلى هبات 1988 وما أفضت إليه من بحر الدم في العقد التالي؟ أم إن التجريب كان فقط صدى أو تفاعلاً مع المشهد الروائي والنقدي العربي والعالمي، وسعياً - بالتالي- من الكاتب إلى تطوير كتابته؟
1-عبد الحميد بن هدوقة:
فلنبدأ من حيث لا يُتوقع أن يبدأ الحديث عن الحداثة في الرواية في الجزائر، من عبد الحميد بن هدوقة الذي أسرع يجرب تطعيم أو تلوين الإهاب التقليدي لروايته (ريح الجنوب)(7) وروايته (نهاية الأمس)(8)، متابعاً إخلاصه لذلك الإهاب، مما تعبر عنه روايته الثالثة (باب الصبح)(9)، حيث جرب الكاتب استثمار الحوار بخاصة، وجعله حاملها الأكبر في تعبيرها العام عن المسافة بين الجيل الشاب وجيل الشيوخ من رجال الدين، وكذلك في التعبير عن الطارئ في أمر المرأة. وإذا كان بن هدوقة قد دفع أبعد في هذه الرواية بعناصر المخيال الإسلامي التي تلامحت في روايته الأولى (النار- الجنة- النشر- البرزخ - القبر..)، وأطلق سخرية الشباب الناقدة من خطاب المشائخ عن تلك العناصر، فإن التعبير الطارئ عن أمر المرأة قد دفع برواية (بان الصبح) أبعد عن سابقتيها، وإن يكن الكاتب قد ظل يبدأ جملته بأدوات التوكيد (إنّ..)، كما ظلت الجملة تفتقر إلى ألفاظ الاحتمال، لتتواصل يقينية السارد في الرواية التقليدية. إلا أن الطالبة دليلة وسواها من الجيل الجديد الشاب، ستخلخل الإهاب التقليدي للرواية على نحوٍ أو آخر، ابتداءً من اغتصاب دليلة، أو من حمام النسوان والسحاقية، وصولاً إلى خروج دليلة في نهاية الرواية من قمقم البيت إلى الفضاء الأرحب الأعقد.
أما خطوة بن هدوقة التالية، فلعلها الأهم، إذ جرب في رواية (الجازية والدرويش)(10) استثمار الأسطرة والمخيلة الشعبية في بناء يسعى إلى مغادرة خطية البناء الروائي التقليدي. هكذا استحضر من التراث السردي الشعبي صدى الجازية في تغريبة بني هلال، وعجن الجازية الروائية من الفتنة نفسها ومن الذكاء والحزم والغموض والزئبقية، وأطلقها في فضاء قرية (السبعة) بين عشاقها: ابن الشامبيك الذي يدرس في أمريكا، عايد العائد من هجرته، الطيب بن الجبايلي، الطالب صاحب الحلم الأحمر والقادم من المدينة مع الطلبة المتطوعين... ونحن إذن في لجة ما طرأ في الجزائر المستقلة، عبر قصتين وزمنين يهندسهما التناوب المنتظم في ثمانية فصول: أربعة منها للجبايلي السجين الذي قتل الطالب المتطوع، وأربعة للحياة اليومية في قرية السبعة، وكل ذلك تمحوره الجازية.
بهذه الشخصية، وبهذا البناء، وبخصوصية لغة الدراويش- التحاور الرمزي- وبالمشهدية المترجحة مع الأسطرة - حفل الزردة ورقصة الجازية مع الطالب المتطوع - عبرت الرواية عن تجريب بن هدوقة لتطعيم وتلوين الإهاب الروائي التقليدي، فيما ظل السارد التقليدي ينتأ، كأن يرصد أصداء حفل الزردة بقولـه: "هذه هي التعاليق التي أخذت تنطلق من الأفواه" وسوى ذلك كثير. ولئن كانت تجريبية بن هدوقة عبر ذلك قد ظلت متواضعة وخجولة، فلعلها قد ساعدت على أن تأتي رواية (الجازية والدرويش) امتيازاً كبيراً لكاتبها.
***
وتتواتر في الرواية الجزائرية محاولات مماثلة شتى، كما في روايتي محمد العالي عرعار (البحث عن الوجه الآخر)(11) و(زمن القلب)(12) حيث جرب من مفردات الحداثة الروائية استثمار الحلم، مما لوّن اللغة وخلخل المنطق التقليدي الصارم في لحظات محدودة من الروايتين. وقد ساعد على ذلك في الرواية الأولى الوشاح الصوفي بين الراوي - بضمير المتكلم - وصاحبة اليد البيضاء، كما ساعد عليه التخييل في الرواية الثانية (الطبيب الذي يخترق البحر إلى عالم العرائس، حيث الكاهنة).
بمثل هذا التواضع في تلوين وتطعيم الإهاب الروائي التقليدي جرب أيضاً عبد الملك مرتاض استثمار ضمير المخاطب في رواية (صوت الكهف)(13) وجرب مرزاق بقطاش في روايته (عزوز الكابران)(14) استثمار تقنية التجريد أو اللاتعيين، حيث يبقى المكان والبطل- معلم القرية- بلا اسم ولا تاريخ.
على نحو مختلف يضاهي ما بلغه بن هدوقة في (الجازية والدرويش)، تأتي رواية الحبيب السائح (زمن النمرود)(15)، إذْ جربت استثمار التذكير والتداعي والحلم، وتطعيم الفصحى بالدارجة، والتناص مع الأغنية والمثل الشعبي، والانتقال بين الفضاءات، مما انزاح بالرواية عن النسب التقليدي إلى مدى أو آخر، على الرغم من تنضيد البناء بعامة من اللحظة التي سبقت الانتخابات البلدية- الماضي- إلى لحظة الانتخابات - الحاضر- إلى اللحظة التي تلت، كذلك على الرغم من هيمنة ضمير الغائب. وبذا تقطع السرد وتلاعبت أزمنة الثورة على الاستعمار وما طرأ في سبعينيات القرن الماضي بعد الاستقلال، حيث تطلق الرواية نقديتها في العالم الجديد: عالم الحلاليف وبني كلبون، مقابل من خيبهم الاستقلال من ذرية النمرود أو شياطين ابن باديس. ولئن كانت خلاصة ذلك تفضي إلى تبرئة الشيوعي زمن الثورة: "الشيوعي ما خان ما باع، استشهد كإخوانه المجاهدين" فإنها تطلق الصرخة النذيرة الملتاعة: "كولون نصارى خرجوا، كولون عرب دخلوا" و"الدنيا طلع لها الزبل للرأس، إما يقع التغيير وإما تخلط" (ص 22).
2-الطاهر وطار:
مع شيخ الرواية الجزائرية: الطاهر وطار، يستدعي الحداثي قولاً آخر. بالأحرى، مع الطاهر وطار، يغدو القول في الحداثي جدياً بما لا يقاس مع ما تقدم. فلنعد إلى ما تقدم من الطاهر وطار في استدعاء لا معقولية الواقع للامعقولية الكتابة، ولنثنّ بما صدر به روايته (تجربة في العشق)(16) حيث قال: "ومحاولة وضع قواعد لرواية جديدة، أو تقنين الكتابة بعناوين مختلفة، دعوة رجعية تقودنا، طال الزمن أو قصر، إلى المحافظة وإلى تقديس الشكل" (ص 7). وقال أيضاً معقباً على قول الياس خوري عن رواية (الحوات والقصر) بأن لهذا الكاتب طريقته الخاصة: "فأقول إنني كذلك في كل ما فعلت وما سوف أفعل، لكن ليس بمعنى التجريب المخبري، وإنما بمعنى إفساح المجال للمضمون ليتشكل، وللشكل ليتقولب مع المضمون، وليتحرر في نفس الوقت، من قالبيته" (ص 8).
قبل ذلك، ومنذ روايته الأولى (اللاز)(17) كان الطاهر وطار قد جرب تكسير استقامة الزمن، معتمداً فعل التذكر والاسترجاع كعتلة روائية. فالرواية تبدأ باسترجاع الشيخ الربيع للماضي، ثم تشرع وهي تمضي من نقد تاريخ جبهة التحرير الجزائرية إلى المغيّب من هذا التاريخ، عبر ذبح الشيوعي زيدان، فتفسح لكل شخصية فصلاً أو أكثر، كي تروي حدثاً أو جزءاً من حدث، مكملة ما سبقت إليه شخصية أخرى، أو تاركة لشخصية أخرى أن تكمل، مما يعدد زوايا ووجهات النظر. ولئن تلامحت في (اللاز) كما ستتلامح في أغلب روايات الطاهر وطار، شيات تقليدية، فقد بدأ منذ (اللاز) يجرب تقنيات الحداثة الروائية المختلفة، وهو يبدع من الشخصيات الروائية التي لا تنسى: زيدان واللاز. ومن تلك التقنيات استثمار اللقطة الوامضة والمركزة ليغدو الوصف في الرواية التقليدية صورة روائية، أو استثمار سجلات الكلام لتغدو اللغة الروائية التقليدية الواحدة لغات تتفاعل فيها العامية والسياسي والتراثي والكابوسي. وسيتابع الكاتب ذلك في الجزء الثاني من روايته الأولى (العشق والموت في الزمن الحراشي)(18)، وهو يرسم مآل الثورة بعد الاستقلال، عبر الاصطفاف بين الحركة الطلابية (الشيوعية جميلة واليسارية المتطرفة ثريا..) وبين من يتوسلون الدين ليجهضوا الثورة الزراعية ويجهزوا على التحول الاشتراكي.
لقد تابع اللاز حضوره في الجزء الثاني، ولكن الكاتب مضى في هذا الحضور يجرب استثمار الأسطوري في الروائي، فإذا باللقيط يصبح ولياً. وفي هذا الجزء أيضاً جاء الكاتب بالشخصية التي ستوالي ظهورها في روايات غالب هلسا والغيطاني والقعيد وسواهما، أعني حضور الكاتب نفسه كشخصية روائية. وكان الطاهر وطار قد جرب هذه التقنية من قبل، في روايته (عرس بغل)(19)، وحيث جرب أيضاً استثمار التراث السردي عبر شخصية الحاج كيان، وما يمور فيها من حمدان قرمط وزكرويه بن مهرويه وعبدان والمتنبي وسيف الدولة وأخته خولة... كما جرب الكاتب استثمار الفانتازيا الصوفية عبر زيارات الحاج كيان للمقبرة، وجرب ملاعبة الضمائر عبر تقلب الحاج كيان، ليس فقط في ماخور العنابية والهزيين والوهرانية وزمردة وحياة النفوس.. بل في ماخور الحياة خارج ذلك الماخور.
أما رواية وطار الثانية (الزلزال)(20) فلعلها المجلى الأكبر للحداثة في تجربة هذا الكاتب. فإذا كنّا - من جديد - سنقع على التقليدي في البطل الروائي (عبد الحميد بو الأرواح) وفي النسق الهرمي، فإن لمعمارية الرواية شأناً آخر، إذ جرب الكاتب بناء الرواية على هيئة المدينة: قسنطينة، فالفضاء يشكل الرواية في سبعة فصول تتعنون بأسماء جسور المدينة السبعة (باب القنطرة - سيدي مسيد - سيدي راشد- مجاز الغنم- جسر المصعد- جسر الشياطين- جسر الهواء)، فضلاً عن الصخرة وعن الوادي الذي يقسم المدينة.
تشتغل رواية (الزلزال) على ما استأثر بروايات الكاتب وبالرواية في الجزائر بعامة - بعد الثورة التي جاءت بالاستقلال- حتى يأتي العقد الماضي ببحر الدم، فيكون للرواية شاغل أكبر جديد. ونحن في (الزلزال) إذن أمام البطل العاقر الذي يقارف الثورة الزراعية ويتوسل الدين، وأمام المتدين الذي يصير شيوعياً بعدما رأى ما حل بالعمال في عهد الاستقلال (عيسى بو الأرواح). ولذلك وسواه يجرب الكاتب الحوار المسرحي، والتناص مع النص القرآني والخلدوني... لتجأر النقدية، ليس في الفضاء الجزائري وحده، بل في الفضاء العربي أيضاً، ونقرأ مثل هذه الأهجيات لزماننا: "لست أدري ما الفرق بين إسرائيل وبين كثير من الدول العربية. إسرائيل رأسمالية، معظم الدول العربية رأسمالية. إسرائيل عميلة للأمريكيين، معظم الحكام العرب عملاء للأمريكان. إسرائيل تقتل الفلسطينيين، معظم الحكومات العربية ضد الفلسطينيين." (ص 164). كذلك: "نحن هنا عرب لا ننتمي إلى عرب... بايعنا أبا بكر في السقيفة، ثم رحنا نهمس في آذان علي وأنصاره. بايعنا عمر وقتلنا عمر. نصّبنا عثمان وقتلنا عثمان. بايعنا علياً مليون مرة وقتلناه مليون مرة. نمدح معاوية ونذمه. نقيم المذاهب ونحطّمها. ننطلق من السنة وننتهي إلى البدعة".
مما تقدم ستستأثر عناصر بعينها في روايات الكاتب التالية، وبالطبع سينضاف إليها ما ينضاف، وسيتفاوت فعلها. هكذا تمضي رواية (الحوات والقصر)(21) في تجريد الفضاء، ليغدو سلطنة وغابة للوعول ووادياً للأبكار وسبع قرى بمسميات تليق بالغرائبي والعجائبي (التحفظ- الحظة- التصوف...). وهذا الغرائبي والعجائبي هو العنصر الذي سيجرب وطار استثماره من عناصر التراث السردي الشعبي والأدب الديني الشعبي، فتتوالد الحكايات وتتفجر المخيلة لتصنع من علي الحوات "ولياً من أولياء الله، بل رسولاً من رسله، بل إلهاً من الآلهة" (ص 66). وفي هذه الرواية يجرب الكاتب أيضاً استثمار الخيال العلمي في معمارية قرية الأعداء- مدينة الأباة، وفي إنجاز الحاسة السابعة عشرة (حاسة التزود الذاتي التي تغني الإنسان عن كل شيء) وفي العقار الذي يخترعه حكيم قرية الحظة، ليصير به الذكر خصياً دون ألم، ولتشربه الأنثى فتهتاج.
مع بحر الدم الجزائري في العقد الماضي، تتراخى تجريبية الطاهر وطار، وتتمحور الحداثة الروائية بخاصة على العنصر التراثي، ومنه بخاصة الصوفي. وهنا تبدو رواية (تجربة في العشق) علامة أخيرة يفتقد بعدها (جنون) الكتابة التي فرضها مجنون الرواية، كما يقول الكاتب في تقديمه لها، وكما سيجسد بناء الرواية في لوحات لا تأبه بنظام، ولا توفر نقديتها الجزائر ولا العروبة ولا فلسطين ولا الإسلاميين، ضاربة السخرية بالكوبسة بالجملة اللاهثة القصيرة بدفقات التداعي السردية بالأغنية... ويذهب بعضهم إلى أن ذلك التراخي يتأسس في تراخي النقدية الذي وسم روايتي (الشمعة والدهاليز)(22) و(الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي)(23). ففي الرواية الأولى، وحيث تتلون اللغة كما يليق بكاتب متمرس، بين الشاعر المثقف، ومهندس النفط: القيادي الإسلامي، يبدأ ما سينعته فاروق عبد القادر بالمراوغة الفكرية التي وسمت الرواية التالية، لأن الكاتب لا يقطع شعرة معاوية مع التيار المتلفع بالإسلام، فيما هو يخص بعضه بنقدات، ويسلق النظام بنقدات، كما فعل بشير مفتي في رواية (المراسيم والجنائز). وقد يكون في بحر الدم الجزائري ما يفسر استعادة الطاهر وطار للعنصر الصوفي من رواية (الحوات والقصر)، وما في هذا العنصر من الغرائبي والعجائبي، وما يتصل منه بالتراث السردي الشعبي وبالأدب الديني الشعبي، وذلك في رواية (الولي الطاهر...)، التي وصفها فاروق عبد القادر بالشطحة، ورأى شكلها مراوغاً أنتجته المراوغة الفكرية(24).
لقد ابتدأ الطاهر وطار من حروب الردة فيما صدّر به الرواية، ومضى ببطله الولي- وما يستدعيه رغم التخييل من السيرية - من صحبة خالد بن الوليد إلى الحرب في الأصقاع المعاصرة: أفغانستان والقاهرة والأقصر... وصولاً إلى حي الرايس في الجزائر، وكان التقمص والتوحد عتلة الرواية، يصنع شخصياتها وأحداثها، وليس فقط الولي الذي تتوجه أخيراً رشاشته ونقداته إلى القتلة، فهل يكفي ذلك كيما تُنقض دعوى المراوغة، مقابل مقام عباد الرحمن- مثلاً- ومن أقامه من الهاربين بدين الله إلى إنشاء الأمة المحصنة؟
3-رشيد بوجدرة:
منذ رواية رشيد بوجدرة الأولى بالعربية (التفكك)(25) يدفع الحداثي بالوثيقة وهي تشتغل على التاريخ - الثورة التي جاءت بالاستقلال. فمن المرجعية التاريخية للطاهر الغمري تطلع الشخصية الروائية محتفظة باسمها، ولكن لتكتب التاريخ المضاد للتاريخ الرسمي، كما فعل الطاهر وطار وكما سيفعل واسيني الأعرج. فبحسب روايات أولاء- ولا ننسَ الحبيب السائح أيضاً- فقد تجنى التاريخ الرسمي على الشيوعيين الجزائريين زمن الثورة. والتاريخ هو- كما نقرأ في (التفكك): "هذه الجزئيات البسيطة التافهة، ففيها يكمن الصدق التاريخي، ومنها يمكن أن تصنع مادته". ولقد غدا التاريخ بالنسبة للطاهر الغمري فاسداً بفعل ما طرأ بعد الاستقلال. وستقدح سالمة ذاكرة الطاهر الغمري ليتولى فعل الذاكرة تشغيل الزمن الأول - الماضي في الرواية عبر شخصيات الشهداء: بوعلي طالب والدكتور كينون وبودربالة الملقب بالألماني وأحمد أنيال. ومثل هذا الأمر نقع عليه في رواية (العشق والموت في الزمن الحراشي) للطاهر وطار، عبر قدح جميلة لذاكرة الشباح الملكي. وقد يلفت فعل الجنس فيما بين رواية وطار (اللاز) ورواية بوجدرة (التفكك). لكن هذا الأمر ليس وقفاً على تينك الروايتين، إذ يندر حضور الفعل الجنسي خارج الاغتصاب أو الشذوذ أو البغاء في أغلب الروايات الجزائرية. والمهم هنا هو ما يؤهب به ذلك إلى تفجير المنظومات المقدسة: منظومة الأعراف والأخلاق، كذلك المنظومة الروائية التقليدية، وهذا ما يبدو صارخاً في روايات رشيد بوجدرة، موفراً لها مستوى لغوياً خاصاً يمكن نعته بمستوى الحرام الجنسي، والذي ليس غير واحد من مستويات الحرام الأخرى التي يمعن الكاتب في تفجيرها اللغوي والقيمي، ابتداءً بالسياسة، وليس انتهاءً بالحاجات الجسدية الغذائية.
على أن الحداثي في رواية (التفكك)، كما في رواية (ليليات امرأة آرق)
(26) أو في رواية (معركة الزقاق)(27) أو في رواية (فوضى الأشياء)(28) يمضي في انتهاك المقدس الفني، فيلاعب حد التفاصح المعجمية اللغوية، ويشعّب السرد حد التتويه، كما عبر الحبيب السائح بصدد رواية (معركة الزقاق) إذ عدّها "معركة التتويه ضد المتاهة"(29)، ولعل هذا التعبير يصدق في روايات بوجدرة جميعاً. ففي (التفكك) يتوزع البناء على أحد عشر فصلاً بلا ترقيم وبلا عنونة، ويمكن إعادة ترتيبها على غير النحو الذي جاءت به، كما هو الأمر في فصول رواية الطاهر وطار (تجربة في العشق) الثمانية عشرة، على الرغم من عنونتها. وفي رواية (التفكك) يجرب الكاتب استثمار الفن التشكيلي (الصورة التي تضج بالألوان وتعنى بالهندسة) ويمعن في تجريب استثمار لعبة الضمائر وتقنية التداعي وتوليد القصص، ويكثر من الأقواس والتكرار. أما في (معركة الزقاق) فيتركز الحداثي على استثمار تقنية التداعي (ذاكرة طارق) وتقنية الوصف، حيث تقابل المنمنمة هنا الصورة في (التفكك)، وتشتبك اللقطات القريبة والبعيدة والمتعددة بتعدد الزوايا، بتداعيات طارق التي تقلبه على نار الحرام. فمن صفعة الأم إلى صفعة الأب إلى دم النجاسة على خرقة الأم (دم الدورة الشهرية) يتشكل السؤال اللائب الذي سيُحل أستاذ التاريخ بن عاشور محل الأب. وليس ببعيد عن هذا الحفر في الحرام ما للطبيبة في الأمراض التناسلية التي تمحور رواية (ليليات امرأة آرق) سواء فيما يتصل بجسدها أم فيما يتصل بالدين، وهي التي يزعجها المؤذن كما يزعج المجنون في فصل (الكابوس) من رواية الطاهر وطار (تجربة في العشق).
4-جيلالي خلاص:
قريباً من هذا التجريب حد التتويه، تبدو روايتا جيلالي خلاص (رائحة الكلب)(30) و(حمائم الشفق)(31). ففي الرواية الأولى تتعنون فصول الرواية بالكلمة الأولى من كل منها، ويتشعب السرد وتتوالد القصص ويشتبك الزمن كأنما يروم أن يكون من تلك الزئبقية التي تشكل بها في رواية (التفكك). ومثل التيه في الرائحة (رائحة الكلب راكس أم الكلب طيو أم رائحة الكلس أم رائحة التراب أم رائحة الزيتون أم رائحة فاطمة الزهراء...) هو التيه فيما بين الطفولة القروية والحاضر المديني لذلك الكاتب العمومي الذي يروي ويتوسل أفعال التذكر والكوبسة والحلم والرسالة والحكاية الشعبية. وتنفتح الأقواس لتنقض السرد أو تسيل به إلى ذكرى، فيطول الاعتراض بين القوسين أو يقصر، ويندر الحوار، ويضارع وصف الفعل الجنسي أفلام البورنو.
وفي نهاية الرواية تجتمع الأشتات التي بثها الروائي حول ما سبق لـه أن كتب، فإذا بشبهة السيرية تكبر إذ نقرأ: "الليلة شرعت في تحبير تلك الرواية التي طالما حدثتكم عنها، وقرأت لكم بعض فصولها الوهمية، أو رأيتموني أعيشها بكل شغف" (ص 119) أو نقرأ: "والواقع أن كل ما عشته وفكرت فيه كان روافد ظلت تسيل وتسيل" (ص 119). وإذا كان هذا التساؤل "وهل تلك الرواية إلا حياتي" (ص 120) يجلو شبهة السيرية، فالأمر كله يظل يترجح بين تقنية حضور الكاتب في الرواية وبين السيري.
في الرواية التالية (حمائم الشفق) يجرب الكاتب استثمار تقنية التجريد، فلا يعين المدينة التي يكتب تاريخها خلال خمسة قرون. وفي تشييد المدينة يجرب الكاتب استثمار تقنية الأسطرة، فتأتي المدينة شبه أسطورية بمعماريتها الغرائبية وعشق الراوي لها حد الصوفية. ويتابع الكاتب في هذه الرواية تجريب الاستغناء عن الحوار، مضيفاً الاستغناء عن التداعيات، تاركاً للسرد أن يروي تاريخ المدينة بتعقيد اقل مما سبق في (رائحة الكلب). ولعل غاية ما حقق التجريب في (حمائم الشفق) قد جاء في اللغة أولاً، وحيث مستويات الدارجة والحكاية ولغة الأغنية العربية الفصحى والأغنية الشعبية والأغنية الأجنبية... وثانياً عبر شخصية الفنان التشكيلي الساهي الذي تغضب لوحاته سلطة المشيخة، فتأمر السلطة بخطفه وبتجنين رفيقته جميلة ابنة (أبو جبل) المناضل زمن الثورة.
5-واسيني الأعرج:
بعيداً عن حد التتويه، ولكن بمضارعة في المغامرة، يأتي الحداثي في رواية الزاوي أمين (صهيل الجسد)(32) إذ تنقض الحرام الديني، والحرام اللغوي بخاصة من بين مفردات الحرام الفني. وعلى هذا النحو يأتي أيضاً الحداثي في روايات واسيني الأعرج كسمة أولى لمغامرته الحداثية.
ها هنا نبدأ بالتذكير بما تقدم في التاريخ- الثورة التي جاءت بالاستقلال، في روايات الطاهر وطار ورشيد بوجدرة. ففي رواية الأعرج (ما تبقى من سيرة لخضر حمروش)(33) يشخب دم الشيوعي (لخضر) الذي نفذ الحكم بذبحه ذلك المجاهد البسيط زمن الثورة (عيسى). وعيسى يذكر زيدان والطاهر بطلي روايتي وطار وبوجدرة، فالجذر هو هو: النظر النقدي للتاريخ الرسمي، واجتراح نقيضه، عبر تحول عيسى إلى فلاح صغير يروي في الحاضر الروائي أغلب الرواية.
يبدو الحداثي حيياً في هذه الرواية، سواء في ثنائية المعلم والتلميذ أو التلقائي والعقل، كما مثلها لخضر وعيسى، أو في صراع العدوين: الحاج المختار والشيخ عبد الوهاب ومدير التعاونية ورئيس البلدية وسواهم ممن يغتصبون الاستقلال، وبالمقابل: المتطوعون. لكن شخصية البغي (مريم الروخا) والفعل الجنسي الشاذ (اغتصاب المختار لزوجة عيسى أو مضاجعة الكلب الألماني- برغبة المختار- لزميلة مريم..) يطلق التجريب في بناء الشخصية وفي اللغة. وعلى أية حال يظل الأمر في هذه الرواية أدنى منه في سابقتها (نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري)(34) حيث يستثمر التناص مع تغريبة بني هلال مع كتاب المقريزي: (إغاثة الأمة بكشف الغمة) وذلك بالمفارقة عبر المعارضة التي تقول فيها سيزا القاسم: "المفارقة عبر المعارضة وسيلة من وسائل كسر تقديسه (التراث السردي- نبيل) ورفض وطأة التقاليد، ولذلك نجد في هذه المعارضة نوعاً من التحرر من وطأة هذا التراث دون إنكار ما لـه من قيمة"(35).
بين مدينة أمسيردا من جزائر الاستقلال والثورة الزراعية والتحويل الاشتراكي، وبين فضاء التغريبة، تبدأ لعبة المفارقة عبر المعارضة، لتتواصل بين بني هلال وبني كلبون الذين يعنون السلطة الاستقلالية (لنتذكرْ اسمهم هذا في رواية زمن النمرود)، وهكذا يقابل صالح بن عامر السبايبي مرة أبا زيد الهلالي ومرة الحسن بن سرحان، وتقابل لونجا (حبيبة صالح الزوفري) الجازية الهلالية التي سبق أن رأينا مقابلتها للجازية الروائية عند بن هدوقة. وكل ذلك وسواه يأتي فيما بين نمط التغريبة المتعلق بجماعة، ونمط الرحلة المتعلق بفرد هو صالح الزوفري الذي تحول من مجاهد في الثورة إلى مهرب على الحدود الجزائرية المغربية يجأر: "بيار راح وموح جاء" (لنتذكرْ زمن النمرود ثانية).
عبر هذا التجريب في استثمار التراث السردي يأتي التناص مع أشتات من تغريبة بني هلال، ومع اللغة الهلالية، كما يأتي تعدد الرواة في تداخل وانفصال الراوي مع صالح الزوفري، مقابل تداخل وانفصال القوال مع أبي زيد في التغريبة. ويدفع ذلك باللغة - مع المثل والأغاني واليومي- إلى تعدد المستويات.
بعد قرابة العقدين سيعاود واسيني الأعرج هذا التجريب بامتياز في روايته (حارسة الظلال أو دونكيشوت في الجزائر)(36). وانشغال الكاتب بدونكيشوت قديم يعود إلى رواية (مصرع أحلام مريم الوديعة)(37). لكنه ثمة انشغال عابر، بينما هو أساسي في (حارسة الظلال...).
فقد شيدت هذه الرواية من قصتين، أولاهما هي قصة الصحافي الإسباني فاسكيس سيرفانتس دالميريا الذي يفضل أن ينادى: دونكيشوت، لانتسابه إلى الكاتب الشهير ميغيل سيرفانتس الذي أبدع رواية (دونكيشوت بلامانتشا).
كان رياس البحر قد أسروا ذلك الجد البعيد، فقضى في الجزائر خمس سنوات. وها هو الحفيد يتعقب آثار جده زمن إعلان الجماعات الإسلامية عزمها على قتل الأجانب. هكذا تبدأ رحلة البحث في حي شعبي وفي المتحف ومزبلة السمار العمومية. وباختطاف هذا العالم السري الذي يتضافر فيه اللصوص والقتلة والمتنفذون... للصحفي الإسباني، تبدأ قصة - حسيسن- حسان الموظف في وزارة الثقافة، والذي رافق الإسباني، فقادته الرفقة إلى عالم سري آخر في دهاليز المحققين.
من نمط الرحلة إلى المذكرات إلى السرد العاري إلى الوشاح البوليسي، تعددت تقنيات الكتابة، على إيقاع بحر الدم الجزائري الذي جرّ على حسيسن قطع لسانه وعضوه، ولا ننسَ هنا أن علي الحوات في رواية الطاهر وطار (الحوات والقصر) كان قد جأر: "هكذا قطعوا لساني ثم أمروني بالكلام". لكن علي الحوات استعاد في النهاية أعضاءه المقطوعة - إذ تبدد القصر وتحقق حلم المتصوفين، والقطع لم يكتف باللسان - بينما ظل حسيسن محروماً من الكلام والإخصاب.
بالعودة إلى رواية (مصرع أحلام مريم الوديعة) سنرى فيضاً من اللغة المتشعرنة قد نجا من الهدر اللغوي الذي مارسه الآخذون بهذه اللغة من الروائيين، وبخاصة من ينسب منهم إلى التجريب والحداثة. ولعل نجاة لغة رواية (مصرع أحلام...) - شأن رواية الزاوي أمين (صهيل الجسد) - قد كانت بفعل اشتغالها على التفاصيل من جهة وعلى الجسد من جهة وعلى الراوي المتلبس بالكاتب تلبّس الرواية بالسيرية، كذلك على أسطرة شخصية مريم صاحبة الوجه النبوي التي خرجت من موجة تكسرت على صخور الشط، وسقط أخوتها السبعة على مشارف البلدة في الحرب الضروس التي أكلت أحلامهم، كما نقرأ في الرواية.
يظل الراوي في هذه الرواية بلا اسم، فيضيف بتجريده إلى صوت السيري في الرواية صوت السارد وصوت الجماعة، كما يأتي إلى الرواية صوت التراث السردي، وإن يكن خافتاً، إذ يُستدعى الملك خازوق من (ألف ليلة وليلة) إلى الحاضر الروائي الذي يزج بشرطي (سفيان الجزويتي) في عقل الراوي، ليراقب ما يكتب، فيمزق - الراوي- أشعاره وتشتبك فيه الأزمنة، من زمن الجد المفقود، زمن الدونكيشوت، إلى الحاضر المأزوم والفائر.
لقد تركز الحداثي في هذه الرواية على اللغة بخاصة، ولذلك نقرأ: "كنت أبحث عن شيء غامض ينام بين الأبجدية العربية للكتابة". وسيغدو ذلك علامة فارقة في أغلب كتابة واسيني الأعرج وجيلالي خلاص والزاوي أمين ورشيد بوجدرة، مثلما هو الاشتغال على الجسد وعلى المثقف في الحاضر المأزوم والفائر. وسيقترن الحداثي في أغلب هذه الروايات بالنقدية والمغامرة المفتوحة. هكذا تأتي روايتا الأعرج: (ضمير الغائب أو الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر- 1998) و(رمل الماية أو فاجعة الليلة السابعة بعد الألف- 1990)، بل هكذا تبدو سيرة واسيني الأعرج منذ فاتحة أعماله حتى (سيدة المقام: مرثيات اليوم الحزين(38). ولئن كانت الفاتحة تسم بميسم البداية العناصر الأساسية في تجربة الكاتب، فرواية (سيدة المقام..) تجلو ما وصلت إليه تجربة الكاتب من الامتياز والاستواء، بعد تدرج وتفاوت من رواية إلى رواية، كما يبدو أن (سيدة المقام..) قد دفعت بمغامرة الكاتب في أفق آخر، وهو ما ستؤكده الرواية التالية (حارسة الظلال..).
تتقدم رواية (سيدة المقام..) إلى الحداثي في استثمار الفنون، من لوحات محمد بن خدة إلى رقصة شهرزاد إلى باليه البربرية... ومن غناء الشيخ عبد الغفور وعبد المجيد مسعود إلى موسيقى سترافنسكي وتشايكوفسكي وكورساكوف وموزارت وبرليوز وفاغنر، إلى أجساد راقصات الباليه: إيكاترينا ماكسيموفا ومريم التي يصمها حراس النوايا (حراس الإيمان- فقهاء الظلام) بالشيوعية، ويرمون رأسها برصاصتهم في يوم الجمعة الحزينة، لتدع الراوي العاشق- الأستاذ الجامعي غارقاً في بحر الدم الجزائري ومشبوحاً بين القتلة وبين سلطة بني كلبون.
في ذلك البحر يلاعب الحداثي العنصر الأثير للكاتب: التراث السردي، كما ترمز لـه ندهة شهرزاد في الرواية: اعتقني للكلام. كذلك تقوم في الرواية ملاعبة السيرية، والشعر (شخصية الشاعرة صفية كتّو) واللغة الفرنسية واللغة المثقفة في الحوارات حول الفن والموسيقى- الحضارة. ومن ذلك أيضاً ملاعبة الوثيقة والشهادة على الحاضر المأزوم الفائر الذي يعصف: من مجلة الجهاد الأفغاني إلى حلف حراس النوايا مع بني كلبون إلى من تسميهم الرواية بديمقراطيي هذا الزمن الذين يغازلون حراس النوايا ويقومون كوجه آخر لعماء السلطة.
6-أحلام مستغانمي:
مع التوكيد- الذي تأخر- على أن في هذا النظر في الرواية الجزائرية من القصور ما فيه، يلح على المرء، أن يمضي إلى الثنائية الروائية (ذاكرة الجسد)(39) و(فوضى الحواس)(40) لأحلام مستغانمي، لعل المآل الحداثي- بعجره وبجره- يزداد وضوحاً.
لقد دفعت الكاتبة بتقنية حضور المؤلف إلى مدى أبعد، في التجريبية التي يتواتر تداول الرواية العربية لها: من غالب هلسا وعبد الحكيم قاسم إلى الطاهر وطار وحليم بركات وخليل نعيمي وكاتب هذه السطور وسواهم، وهي التي تفتح القول في الروائي السيري على أفق أرحب وأعقد.
في تلك التقنية يقوم الرهان الحداثي لروايتي مستغانمي، كما لدى مواطنها بشير المفتي في روايته (المراسيم والجنائز)(41) وليس في شعرنة اللغة - بصدى نزار قباني بالنسبة لمستغانمي وبخاصة في الجزء الأول- ولا في التناص الغزير حد الإبهاظ، أو غيره من مفردات التجريب الأخرى التي اشتغلت عليها الرواية في الجزائر، وإن تكن تقنية حضور المؤلف، كما لعبتها روايتا مستغانمي، قد استدعت بعض مفردات التجريب تلك.
فراوي (ذاكرة الجسد) الرسام خالد الذي بُترتْ ذراعه زمن الثورة التي جاءت بالاستقلال، يبدأ اللعب الروائي من الالتباس السيري بين اسم (حياة) كما سمى بنت صديقه وقائده في الثورة: سي الطاهر، وبين اسم (أحلام) كما سمى الأب ابنته، وهو الاسم الأول للكاتبة.
بعد انقطاع تشب فيه حياة - أحلام سيلتقيها خالد ليلتبس بين الأب والعاشق. وسيتفاقم هذا الالتباس ملاعباً أفق الانتظار والغموض في (فوضى الحواس) التي سترويها حياة - أحلام بعد الزواج من ضابط فاسد. وها هنا تلاعب الكتابة التلقي وتشتبك الشخصيات والأحداث في تخييلية ماكرة بقدر ما تبدو منفلتة، فالراوية هي كاتبة أيضاً. ومن قصتها القصيرة سيخرج عبد الحق، فتخون حياة - أحلام زوجها معه، لكنها ستكتشف أن من أحبت ليس هذا الخارج من القصة، بل صديقه وصنوه الذي أخذ العسكر يده اليسرى في أحداث 1988 والذي سيودي به بحر الدم الجزائري.
إنه تجريب يذكّر بالتتويه الذي ذكرنا بصدد جيلالي خلاص ورشيد بوجدرة، بالإضافة إلى مساءلة الرواية لنفسها. ففي (فوضى الحواس) نقرأ: "كيف لي بعد الآن أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي، والروائي لا يروي فقط. لا يستطيع أن يروي فقط. إنه يزوّر أيضاً، بل إنه يزور فقط، ويلبس الحقيقة ثوباً لائقاً من الكلام" (ص 95). ومنذ مطلع (فوضى الحواس) نقرأ: "لم أكن أتوقع أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً، يرغم فيه المؤلف أبطاله على قول ما يشاء هو" (ص 28)، كما نقرأ: "وهل الرواية سوى المسافة بين الزر الأول المفتوح وآخر زر يبقى كذلك؟" (ص 36).
خاتمة:
في الغلبة لما بين مناوشة الحرام الجنسي والديني والسياسي والفني، وبين تفكيك ونقض ذلك الحرام المشتبك والكثير، قادت الحداثة الروائية في الجزائر- في الغلبة أيضاً - إلى الخروج من أسر اللغة الواحدة إلى أفق التهجين والتعدد، مما ساعد على تنويع الأساليب وتحقيق درجة أعلى من الحوارية، وكل ذلك أثر في العناصر الروائية الأخرى كما أثرت هي فيه، فتعقد السرد وتصدع وتوالد، وتبدل الوصف، وتكسر الزمن، وتخلخل الميثاق السردي، وساءلت الكتابة نفسها، واشتبكت الخطابات، وسربلت العتامة إلى مدى أو آخر البنية، كما كان مع اللغة أو مع الشخصية... وليس ذلك وسواه - التداعي، تجريد المكان أو الشخصية، استثمار التراث السردي...- سوى علامات اللحظة الروائية الحداثية، كما عرفتها الرواية العربية بعامة خلال العقود الماضية. فحديث التجريب الروائي العربي يقترن بالحداثة الروائية، وإن يكن لا يوقفه عليها، لأن اللحظة التقليدية لم تفتأ تحاول بقدر متواضع أو آخر من التجريب أن تجدد نسغها، وبخاصة بفعل اللحظة الحداثية طوال العقود الأربعة المنصرمة.
ولئن كان على المرء هنا أن يشدد على قِصَر اللحظة التقليدية في الرواية في الجزائر، فإن هذه الرواية قد عرفت ما عرفته الحداثة الروائية العربية بعامة من تأزم، جراء وهم اللغة الشعرية- من الشعر- أو الغموض أو التتقين بعامة. غير أن منعطفاً جديداً ابتدأ في الرواية العربية - ومنها الجزائرية - منذ حين، يروم أن يتجاوز ما أزم اللحظتين السابقتين: التقليدية والحداثية، وأن يستثمر منجزاتهما في آن، والتجريب في أس هذا المنعطف، كما هو في أس أية انعطافة في تاريخ الأدب والفن، والتي قد تكون سالبة أيضاً.



 الهوامش:
(1)-انظر: نبيل سليمان: بمثابة البيان الروائي، فصل: لأجل منعطف روائي عربي جديد، مذكور.
(2)-مجلة فصول، المجلد 14، العدد 1، القاهرة ربيع 1995.
(3)-المصدر السابق.
(4)-مجلة الطريق، العدد 3-4، بيروت 1981.
(5)-عز الدين المدني: الأدب التجريبي، الشركة التونسية للتوزيع، ط1، تونس 1972، وبخاصة ص 130 منه.
(6)-مجلة الحياة الثقافية، مذكور.
(7)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1971.
(8)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1975.
(9)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1980.
(10)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1983.
(11)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1981.
(12)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1986.
(13)-دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1986.
(14)-لافوميك، الجزائر 1989.
(15)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1985.
(16)-مؤسسة عيبال، الطبعة الأولى، نيقوسيا (قبرص) 1989.
(17)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1972.
(18)-دار ابن رشد، الطبعة الأولى، بيروت 1980.
(19)-دار ابن رشد، الطبعة الأولى، بيروت 1978.
(20)-بيروت، ط1، 1974.
(21)-مذكور.
(22)-دار الهلال، ط2، القاهرة 1995.
(23)-الجاحظية للتبيين، ط1، الجزائر 1999.
(24)-وجهات نظر، أغسطس، القاهرة 2000.
(25)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1982.
(26)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1985.
(27)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1986.
(28)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1990.
(29)-مجلة المساءلة، العدد الأول، الجزائر ربيع 1991.
(30)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1985.
(31)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1986.
(32)-دار الوثبة، الطبعة الأولى، دمشق 1983.
(33)-دار الجرمق، الطبعة الأولى، دمشق 1983.
(34)-دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1983.
(35)-مجلة فصول، المجلد 2، العدد 2، القاهرة 1982.
(36)-دار الجمل، كولونيا (ألمانيا)، الطبعة الأولى، 2000.
(37)-دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1984.
(38)-دار الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا (ألمانيا) 1995، وانظر دراستنا لها في: الرواية والحرب، مذكور.
(39)-دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت 1993.
(40)-دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت 1998.
(41)-منشورات رابطة الاختلاف، الجزائر 1998.

تيتوف بارة 18-10-07 12:31 PM

الفصل الخامس
الرواية الحداثية والتقليدية
في الكويت


مقدمة
آلت التجربة الروائية العربية خلال قرنها الأول المنصرم إلى تسيد الحداثي. وفي السبيل إلى ذلك كان التجريب هو العلامة الفارقة. فحتى التقليدي جرّب أن يمتصّ من الحداثي. ولقد جرب الحداثي أن يمتص من التقليدي، وهذا ما سميته منذ عقدين: تقليدية الرواية الحديثة- الحداثية(1). على أن التجريب كان بخاصة سمة الحداثي، سواء بتقفيه واستثماره للمنجز الروائي الغربي، أم بتقفيه واستثماره للمنجز السردي التراثي، وقبل ذلك وبعده الكثير.
ولعل السؤال عما تبدى من ذلك فيما بلغته التجربة الروائية في الكويت، أن يضيء لها فيما آلت إليه التجربة الروائية العربية، وأن يضيء أيضاً لهذه التجربة نفسها، وبخاصة أن السؤال هنا سيتعلق أساساً بروايات صدرت في السنوات الأخيرة.
1.الحداثي:
1-1-إسماعيل فهد إسماعيل: سماء نائية(2):
تنتمي تجربة إسماعيل فهد إسماعيل منذ البداية إلى الحداثي، حيث خوّض الكاتب في رواية تلو الرواية عبر السيرورة الحداثية للرواية العربية، ابتداءً أو انتهاء بمساءلة الذات أو تهشيم الزمن أو اللعب بالضمائر أو تعدد المستويات اللغوية وزوايا النظر أو تلوين السرد والمنْتَجة...
ولعل صنيع إسماعيل فهد إسماعيل قد بلغ غايته في روايته (سماء نائية)، إذ توسل ضمير المخاطب (أنتَ) منذ السطر الأول إلى السطر الأخير، فجاءت الرواية أشبه بحوارية بين المخاطب والمتكلم، بين الأنت والأنا، فكان للرواية ساردان: أولهما صاحب ضمير المخاطب الذي رجّع في الرواية أصداء ضمير الغائب (هو)، من حيث علمه المحيط وتحريكه للشخصيات، وثانيهما ضمير الأنا الذي اضطلعت به الشخصية المحورية في الرواية (المعلم) والذي رجّع في الرواية الأصداء السيرية، من حيث توسل الاستذكار والاسترجاع. أما الناظم للعبة برمتها فقد كان إيقاع الصفعتين اللتين كال بهما حلمي شقيقه وتلميذه، واللتين تشتبك بهما صفعة الاحتلال العراقي للكويت. أما الصفعة الأولى للشقيق، فهي الأقدم، عندما كان الصافع في العشرين والمصفوع في العاشرة. وأما الصفعة الأخيرة، وهي الأحدث، فقد ناجز فيها الصافع خمسينيته، لابن العاشرة أيضاً، والذي سينجلي في خاتمة الرواية ابناً لشقيق حلمي الذي نفر من أسرته وتزوج في تخفيه من فلسطينية، وقد سبقت الصفعة الأخيرة صفعة الاحتلال العراقي بقليل.
وبلمساته الدقيقة المعهودة، وبالاقتصاد اللغوي الذي اشتُهِرتْ به الكتابة الروائية- والقصصية إلى حد كبير- لإسماعيل فهد إسماعيل، يرسم في رواية (سماء نائية) شخصية المعلم المعتلة روحاً وجسداً، ونقيضها في شخصية الشقيق، وصنوها ونقيضها في شخصية الضابط العراقي الاحتياطي المعلم أيضاً، كبطل إسماعيل فهد إسماعيل.
بيد أن ما أحسبه من ضغط الأيديولوجي على الفني آذى الرهافة الإنسانية المتعلقة بالموقف الدقيق بين حلمي والضابط العراقي. كما آذت المصادفة والإخبارية المتعلقة بالحرب البناء الروائي حتى عادت به إلى الزمن الخطي. ولئن كانت لعبة الاستذكار قد كسرتْ هذا الزمن فيما تقدم الحرب، وهو الغالب من الرواية، فإن ضغط الاستذكار قد تضافر مع هيمنة ضمير المخاطب في إيذاء البناء الروائي أيضاً. ولعل (سماء نائية) تندرج، فيما يتعلق منها بالحرب، في المعهود من الرواية العربية المتعلقة بالحرب. كما لعل (سماء نائية) تندرج بعامة في السلسلة الروائية التجريبية العربية التي عانت ولا تزال من ضغط الحداثي، والتي أخذ شطر منها في السنوات الأخيرة يروم ما دعوته وأتطلع إليه من (المنعطف الروائي الجديد).


1-2-طالب الرفاعي: ظل الشمس(3):
إذا كان ضمير المخاطب قد تفرد برواية (سماء نائية) فضمير المتكلم قد تفرد برواية طالب الرفاعي (ظل الشمس). غير أن الإيحاء السيري الملازم لضمير المتكلم، ينتقض في هذه الرواية، على الأقل بلعبة حضور الكاتب (طالب الرفاعي) في الرواية، وصدْع القارئ من حين إلى حين بما ينأى به عن السيرية، وبما يسائل التخييلي والوقائعي.
فالشاب المصري المدرس يقصد الكويت ليغرف من كنوزها الموعودة ما يكفيه الحاجة التي أنهكته في مصر. وفي الطائرة يجاوره طالب الرفاعي، ويقرأ الشاب في قصاصة للكاتب اسمه هو: حلمي، واسم معشوقته نعمة، والشخصيتين اللتين ستقلبان مصيره في الكويت: المهندس رجائي ومنال، كما يقرأ حلمي في القصاصة: "ظل الشمس مشروع رواية". وسيترجع في حلمي ما قرأ بعدما يبلوه الزمن الكويتي بالعيش في حي خيطان وبالبطالة وبتدمير الحلم بالكنز الموعود، سواء في ترتيبات الإقامة وشركة (أبو عجاج) أم في العمل مع المهندس رجائي الذي سيهرب بالرواتب، وخلال ذلك وبعده: في تدريس منال، ومضاجعتها، ومحاكمته – أخيراً - بتهمة الاعتداء على قاصر.
في هذه التعرية والهتك لعيش الوافدين إلى الكنز الكويتي الموعود، يرسم طالب الرفاعي برهافة شخصياته، ويكسّر الزمن بألمعية، فيأتي ماضي حلمي بخاصة، وأبو عجاج وأكرم شاه ومنال وسواهم، كسرةً فكسرةً، عبر الزمن الحاضر لحلمي.
وهكذا نرى علاقاته بأبيه المعارض لهجرته وبزوجته سنية وبمعشوقته نعمة وزوجها. وينظم هذا التكسير الإيقاع الذي تتوزعه عبارة الوالد من الماضي (لن تجني شيئاً من الكويت) وهذه العبارة - المتناص (ما الذي قد صنعت بنفسك؟).
ولعل الكاتب قد أفاد مما سبق روايته الأولى من تجربته القصصية. والإشارة هنا بخاصة هي إلى مجموعته (متتاليات قصصية- 1995) والتي تستدعي لعبة إدوار الخراط الروائية - القصصية في المتتاليات. وعلى أية حال، فلعل مما توفر لرواية (ظل الشمس) من التوازن الدقيق بين الوصف والسرد والحوار، ومن الاقتصاد اللغوي، ومن التوشية بالعامية، ومن التعمق في الشخصية، ومن النظر النقدي الجارح في تسعينيات القرن العشرين المصرية والكويتية؛ لعل كل ذلك قد جعل للرواية نسبها الحداثي بلا صخب. وحسبي أن أعدد هنا اللعب بضمير المخاطب (الإيقاع الثاني في مقاطع شتى) والغائب والمتكلم، وتداخل القصص الفرعية، والرسوم التي قدمت الأسرة المصرية (الحماة وكنتها: أم حلمي وسنية زوجته) والغبار والطوز والجوع الجنسي في كويت الأحلام وكويت الوجع ونقائض حي خيطان وحي النزهة ومشروع القرين وسوى ذلك مما يدمر حلمي وينتهي به - وهو في الثامنة والعشرين- إلى السجن خمس عشرة سنة، فإلى أي مآل تنتهي سلسلة الممنوعات التي تجبه حلمي خلف القضبان، وآخرها هذا الذي جأرت به الرواية: "ممنوع الكويت؟".
2.التقليدي:
2-1-حمد الحمد: زمن البوح:
على النقيض من الروايتين السابقتين، تعلن رواية حمد الحمد (زمن البوح)(4) تقليديتها، وبخاصة في زمنها التعاقبي، وفي هيمنة السارد بالضمير الغائب (هو).
فهذه الرواية المبنية في فقرات معنونة، تبتدئ بتقديم جلّ شخصياتها في حفل عيد الميلاد العاشر لجريدة (شروق) الكويتية. وتوالي الرواية توسل عين الكاميرا وتدخل السارد في لا وعي الشخصية، وتمعن في التقلبات العجولة وغير المقنعة للشخصية، كما جاء فيما بين تحريض عبد الهادي لوليد عبد الله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تهدئته، أو في أخذ وليد بأسلوب زميلته المتدربة مثله - منال مشاري بالحوار.
ولا يخفى امتصاص التقليدي في هذه الرواية للحداثي، عبر استثمار الحوار (الفقرات 6- 7- 8 على سبيل المثال). كما تتقد في (زمن البوح) لحظة أخرى من لحظات العيش الكويتي بعد الحرب، وحيث يترجع سؤال رواية (سماء نائية) عن البنية البشرية التحتية. لكن السؤال المعلق في (سماء نائية) يتحدد في (زمن البوح) بلحظة بروز التيار السياسي المتلفع بالإسلام، والرطانة المتداولة بالإرهاب والإرهابيين، وهي اللحظة التي تشتبك فيها علاقات الصحافيين في جريدة (شروق)، من الصحافي الكويتي إلى الصحافي العربي العامل في الصحافة الكويتية، ومن المؤهلة على الطريقة الغربية (منال) إلى المؤهل على الطريقة الإسلامية. ولقد خلصت الرواية من كل ذلك إلى تليين موقف وليد الإسلامي باتجاه العصرنة والغربنة والدمقرطة التي تنطوي عليها منال، وبالعكس، لترسل الرواية أطروحتها في المعادل العاطفي الإيجابي الذي آل إليه وليد ومنال، كتعبير عن مزاوجة الأسلمة بالغربنة في مشروع زواج الصحافيين الشابين المذكورين، كما هو مألوف في التراث الروائي التقليدي.
2-2-ليلى العثمان: المرأة والقطة(5):
مقابل الروايات الثلاث السابقة التي صدرت بين 1998-2000، ومن أجل تبين الحداثي والتقليدي في التجربة الروائية في الكويت، تأتي هذه العودة إلى رواية ليلى العثمان (المرأة والقطة) والصادرة عام 1985، وهي التي توسلت ضمير الغائب وضمير المخاطب في الزمن الروائي: زمن التجربة أو الحاضر، بينما توسلت ضمير المتكلم في الماضي، وبالطبع: بالاستذكار والاسترجاع اللذين رأينا طغيانهما في رواية (سماء نائية).
لقد توشى الحوار في رواية (المرأة والقطة) بالعامية - وكما في روايتي إسماعيل والرفاعي- بأقل مما كان في رواية (زمن البوح). ولئن كان ذلك في رواية حمد الحمد إشارة إلى امتصاص التقليدي للحداثي الذي يهجن اللغة الروائية، فهو في رواية ليلى العثمان يشي بالعكس، شأنه شأن الوصف.
وكما ينتأ العلمنفسي في رواية إسماعيل، ينتأ في رواية العثمان، ويتحدد فيها بما بين العمة وزوجة أخيها، كما يتحدد في رواية الرفاعي فيما بين الحماة والكنة. فسالم في رواية (المرأة والقطة) معتل بعقدة خنق عمته للقطة دانة، وبسطوة عمته على أبيه حد تفريقه عن أم سالم. وهذه العقدة تبلغ بسالم حد العجز عن التواصل الجنسي مع زوجته حصة، إلى أن تحمل هذه، وتتلبس الرواية بالبوليسية: ممن حملت حصة؟ ومن الذي قتلها جراء شبهة الحمل سفاحاً؟ هل هو سالم الذي يواجه حبل المشنقة بتهمة القتل؟ أم هو الأب الذي يُوسْوَس لسالم أنه من حملت حصة منه؟ أم القاتل هو العمة؟
يتفرد ضمير المتكلم بين صفحتي 15-46 بتذكّر سالم للقطة دانة، ولكره عمته لأمه التي أحبها أبوه، لكن العمة فرضت عليه تطليقها، كمن سبقنها. وتتناسل القصص هنا، لتقدم تعلق الطفل سالم بالمكان الذي واقع فيه الهر القطة دانة، أو لتقدم قتل العمة لدانة ومحاولة سالم إنقاذها... وبعد ست صفحات من العودة إلى ضمير الغائب الذي يرصد حال سالم في المستشفى بعد اتهامه بقتل زوجته وانهياره النفسي، يعود ضمير المتكلم والاستذكار في شطر كبير آخر من الرواية، ليرسم زواج سالم من حصة، وحيث ينتأ استبطان النظر الذكوري للجنس فيما ترسم الكاتبة: حصة قلعة محصنة وسالم هو الفارس، وحصة هي الأشرعة والريح وسالم هو البحار، وجسد حصة هو الأرض وسالم هو الفأس..
تنتأ البوليسية فيما يبدو من تدبير العمة لقتل حصة الحامل سفاحاً بحسبانها وحسبان الأب الخنوع. وهنا ينازع الضمير الغائب ضمير المتكلم، فينضاف عضد آخر للقول بتقليدية الرواية الحديثة - الحداثية في (المرأة والقطة). فلئن كان ضمير الغائب سيد الضمائر، بل حتى إن كان- بحسب بارت- هو الرواية نفسها، وهو زمنها ومحفز السرد فيها، ومن دونه يعتور الخور الرواية..، فإن توسل هذه الرواية له - وبتمثيليته مقابل شهادة ضمير المتكلم - وكذلك توسله في (زمن البوح) يعود بنا إلى بداية لعبة الضمائر التي مضت فيها التجربة الروائية العربية أبعد فأبعد، حتى بلغت ما رأينا من أحادية الضمير المخاطب في (سماء نائية).
خاتمة:
من المعلوم أن استخدام ضمير المتكلم والمخاطب قد جاء في سياق تطور السردانية منذ بروست وجيد وكافكا وهمنغواي. وفي تلك الآونة من القرن العشرين- إبان الحرب العالمية الأولى- كانت الرواية العربية بالكاد تعلن بداياتها. وها نحن، وبعدما دار القرن دورته، وبعد ما كان للرواية العربية ما كان من اللعب المقلد والمجتهد والمستخذي والمبدع، نرى بعض ما بلغنا، عبر ما يخص الشطر الكويتي منها، التقليدي والحداثي وما بينهما. ولئن كان ما تقدم، قد تابع بخاصة لعبة الضمائر من بين مفردات اللعب الحداثي، ولئن كانت العينة فيما تقدم محددة، فلعل قولاً آخر سيلي بالنظر إلى نصوص أخرى مما أبدعه آخرون، أو بعض أصحاب العينة أيضاً.



 الهوامش:
(1)-انظر: نبيل سليمان: حوارية الواقع والخطاب الروائي، دار الحوار، ط2 اللاذقية
1999.
(2)-دار المدى، دمشق، ط1، 2000.
(3)-ط1، 2000 (د.ن).
(4)-دار شرقيات، ط1، القاهرة 1998.
(5)-ط1، 1985 (د.ن).

تيتوف بارة 18-10-07 12:33 PM

القسم الثاني




الفصل السادس
التعبير الروائي في فلسطين
عن مقاومة الاحتلال


مقدمة
تُعقّد الجغرافيا السياسية النظر في الحركة الثقافية الفلسطينية، ابتداءً بما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى من تشظية الفضاء السوري أو الشامي، ووصولاً إلى ما أسفرت عنه حرب 1967 من أمر الضفتين.
باعتبار ذلك، وبتحديد النظر في الرواية الفلسطينية، يبدو أن ولادة هذه الرواية قد جاءت في اللحظة الفاصلة التي أهلّتْ بها ستينيات القرن الماضي على الرواية العربية، والتي باتت تعرف باللحظة الحداثية، وصنعها من باتوا يعرفون بجيل الستينيات: صنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم وهاني الراهب و.. وغسان كنفاني. ولكن القول بذلك لا ينبغي أن يبخس الرواد الفلسطينيين حقهم، مثل محمد العدناني وكامل نعمة وعارف العارف وسواهم، في أربعينيات القرن الماضي.
لقد بلغت المدونة الروائية الفلسطينية خمسين رواية بين 1960-1970. ونافت هذه المدونة خلال العقود الثلاثة الماضية على مئتي رواية. وتقدم عدد من كتابها إلى صدارة المشهد الروائي العربي في لحظته الحداثية، على رأسهم جبرا إبراهيم جبرا (صدرت روايته الأولى: "صراخ في تاريخ طويل" عام 1955) وغسان كنفاني (صدرت روايته الأولى: "رجال في الشمس" عام 1963).
عبر ذلك كله كان السؤال الأكبر هو سؤال المقاومة، أياً تكن تلك المقاومة. ولئن تعلق السؤال في روايات عديدة بالحدث أو التأرخة أو الشهادة أو- اختصاراً - بما يعني الموضوع مرة والمضمون مرة، فالأهم والأعم هو ما يتعلق من سؤال المقاومة في الرواية الفلسطينية بتحرير المعنى، في غمرة تضبيبه وأدلجته، وصولاً إلى الحديث عن أفوله، وهذا ما يعنيه تشكيل الرواية الفلسطينية للمعنى، ما يدفع بإشكاليات شتى، ليس أولها ولا آخرها ما بين السياسة والفن.
والفيصل هنا ليس أن يقال: المقاومة هي المعنى، أو: المعنى هو المقاومة. ففي مثل هذا القول قد تستوي- مثلاً- رواية (الطريد- 1966) لنواف أبو الهيجاء مع رواية (ما تبقى لكم- 1966) لغسان كنفاني. بل الفيصل هو التشكيل الروائي للمعنى، والذي غدت فيه المقاومة عملاً فدائياً أو حجراً أو وعيا نقدياً أو عملاً سياسياً أو كتابة أو تعليماً أو غرساً لزيتونة أو انتفاضة أو مفاوضة أو حباً أو خصوصية فنية أو مغامرة إبداعية. وعندما يؤخذ الأمر هذا المأخذ فستصغر المدونة. ومع ذلك، لا أطمح هنا إلى النظر إلا في أمثلة محدودة، مما يتوخى فيها سطوع الدلالة على ما تقدم.
إميل حبيبي: إخطية:
أما المثال الأول فهو رواية إميل حبيبي (اخطية)(1) التي تعمق ما كان الكاتب قد قدم في تجربته الثرة الفريدة من استثمار التراث السردي، ومن استثمار العيش الشعبي في القاع، ما أسفر عن بناء روائي، لعله نسيج وحده، ينهض على تشغيل خاص للغة وللسخرية، كما ينهض بالخبرة في الشأن الصهيوني والشأن الفلسطيني، وبالحس الإنساني العميق والدافق والفاجع.
عبر ما تسميه الرواية بالسكتة القلبية أو بجلطة المواصلات في شارع هحالوتس، تشتبك إشارات وعناصر المعنى، إذ يستعيد الراوي الواقعة التي خلخلت الكيان الصهيوني، بعد عشر سنوات من زمنها. فهل تسبب بالواقعة مخلوق من الفضاء الخارجي؟ أم هو من شاهدته سائقة السيارة العجوز بلومنتا: "شاهدتْ مخرباً فلسطينياً شاباً متلثماً بكوفية فلسطينية، يتأبط كلاشين ويمر مسرعاً بين السيارات المنجلطة"؟.
يتفتق الاحتمالان كما تشاء المخيلة الساخرة، فيتوالى جلاء واشتباك عناصر وإشارات المعنى- المقاومة. وأول ذلك هو: الزمن. فكما في لغز الأمير الفاضل الذي تبتدئ به الرواية، سيكتشف الراوي بعد عشر سنوات من جلطة هحالوتس أن (الزمن) هو مفتاح اللغز: إنه مفتاح المقاومة ورافعتها والفيصل في الجلطة - خلخلة الكيان الصهيوني، أي إنه الحاسم في الصراع الفلسطيني الصهيوني.
تأتي الرواية في ثلاثة دفاتر، (شخوص- اخطية- وادي عبقر). ويتوزع كل دفتر على فقرات معنونة. ويشتغل التناص فيها جميعاً مع الشعر التراثي العمودي، ومع التراث السردي، وبخاصة منه (مروج الذهب) للمسعودي، و(ألف ليلة وليلة)، حيث المناط هو الفانتاستيك الذي يفجر المخيلة فيما هو فوق الطبيعي أو غير الطبيعي، لتعود الرواية به إلى واقع محدد في زمن محدد: الفلسطيني في مواجهة الصهيوني. ومن العلامات الفارقة في هذا البناء ما يمكن تسميته بالصراع على الاسم. فإذا كان شكسبير قال في روميو وجولييت "ماذا يهم الاسم"، فالاسم هنا هو صراع الأرض والتاريخ مع العدو الصهيوني، هو صراع على الوجود. ذلك أن الدولة - إسرائيل لا تني تحل الأسماء العبرية محل الأسماء العربية، فيما السخرية - المقاومة الروائية، تعري ذلك. ويكفي أن نمثل بشارع الصهيونية الذي يوهم بالنسب الجديد للمكان الذي هو أطلال عائلة بيت صهيون الحيفاوية العريقة.
وإذْ يعدد الراوي ساخراً أسماء صناديق القمامة في هذا الشارع (الصهيونية 13- الصهيونية 1..) فكأنما يرمي في هذه الصناديق بوهم الاسم الجديد. وإذ يتابع الراوي ساخراً السوابق واللواحق- البدايات والنهايات المجتزأة من اسم أمريكا، وهي (أم)، في أسماء الشركات، فكأنما يشخص العلاقة العضوية بين أمريكا وإسرائيل. كذلك نقرأ: شركة (أم بال) أي: (أمريكا بالستاين) أو شركة (إسرام) أي: (إسرائيل- أمريكا). ولا توفر السخرية الفلسطيني والعربي، حيث من يفضل الاختصار والتصحيف في أسماء الحركات السياسية، فتغدو- في مصر- الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني: حدتو، كما تغدو في فلسطين: حمير شوارع فلسطين: ح.ش.ف. وتتدافر العبودية في عشرات أسماء العلم العربية المركبة، فكلنا "عبد وعبده"، والرواية تسرد من ذلك عشرات الأسماء الحسنى.
من جهة أخرى، وعلى مستوى الاسم الروائي، نرى إميل حبيبي في هذه الرواية كما في رواياته الأخرى، كثيراً ما يبدو أنه يعود إلى الزمن الذي كانت فيه أسماء الشخصيات غير معنية بالكينونة المنفردة. وكما هو معلوم، ففيما قبل الرواية كانت تؤثَر الأسماء اللاشخصية. أما مع الرواية فقد بات الاسم معيناً على تحقيق الفردانية، وليس على تنميط الشخصية. غير أن إميل حبيبي، وهو يسمي بعض شخصياته الروائية، يبدو كمن يقلّب في ارتباط الذاتية الفردانية بالمنزلة المعرفية التي تحتلها الأسماء، إذْ تستحضر- حسب تعبير هوبز- مدلولاً واحداً، في حين أن الكليات تستحضر مدلولاً من مدلولات. والمآل إذن في لعبة إميل حبيبي باسم الشخصية هو تركيب الفرداني بالمعرفي، والذاتي بالموضوعي، والشخصي بالعام. وغاية ذلك تأتي في عنوان هذه الرواية- وهو عنوان الدفتر الثاني منها - حيث تتراوح الكلمة العامية الفلسطينية العربية (إخطية) بين اسم لطفلة في عامها الأول، واسم للفتاة التي اعتُدي عليها فولدتْ كسيحاً، واسم للخطيئة التاريخية التي يعبر عنها قيام دولة إسرائيل، واسم لما اغتصبت الصهيونية من فلسطين، واسم لأي من الخطايا - الهزائم في الصراع العربي الإسرائيلي، واسم لأي من الخطايا المشابهة في تاريخ البشرية. هكذا نقرأ: "هل أنت إخطية الأولى أم الثانية أم الثالثة أم.. العاشرة"، ونقرأ: "خطيئة إخطية وقعت قبل نصف قرن"، وإذ نبلغ نهاية الرواية، نقرأ: "ذهب الذين أحبهم وبقيت إخطية".
وفي لحظة من اللحظات، في شارع من شوارع حيفا، المكتظة بالسابلة وبالسيارات، خرجت العفاريت من الصدور، والتقت في وادي عبقر في رابعة النهار: كلُّ يسأل عن إخطية: كيف تركها، ولماذا تركها، وكيف حالها
من بعده؟" اخطية الكسيح لولا سروة. أخطية الخرساء لولا.. لولا
عبد الرحمن".
في رواية سميح القاسم (إلى الجحيم أيها الليلك ـ 1978) تشع شخصية حسن الكسيح بالدلالة على الكساح الفلسطيني فيما اغتصبت الصهيونية من فلسطين. لكن هذا الكساح ليس مؤبداً، لا في رواية القاسم ولا في رواية حبيبي، حيث يزداد عبد الرحمن تعلقاً باخطية بعدما ولدت كسيحاً: لو لم يكن الجبل كسيحاً لكرهناه. ولو لم يكن البحر كسيحاً لأغرقناه. ولا تتألق اخطية إلا لمن يحبونها".
من تشغيل الذاكرة، إلى ملاعبة ضمير المخاطب (لعبد الكريم في الدفتر الثاني) إلى التوقيع بهذه العبارة في الدفتر الثالث (ذهب الذين نحبهم)، تشبك رواية (اخطية) عناصر المعنى ـ المقاومة، كما تشبكك السخرية بالفاجعة، والزمن الفلسطيني بالزمن الصهيوني وبالزمن العربي وبالزمن الكوني، وكما تشبك استثمار التراث السردي بوعي الرواية لذاتها، من بين عناصر اللعب الحداثي المعاصر، حيث نقرأ أخيراً مخاطبة الروائي لمحمود: "كذبتُ عليك، يا محمود، كذبة بيضاء، كما الذاكرة، حين أبلغتك بأنني انتهيت من كتابة هذه الرواية، وأتممت نقمتها عليكم، فإني أجدها الآن، ما إن تشرف على النهاية، حتى تشرف على حديقة جديدة أو شاطئ جديد، فلا تستعجلوا عسى أنْ
لا يتعجلنا البين.
إن حالي فيها كحال الوالدة حين كانت تفك الكنزة الصوفية العتيقة التي خلّفها لنا زوجها الراحل، والدنا، خيطاً خيطاً".
أحمد حرب: الجانب الآخر لأرض المعاد:
ليس المعنى الفلسطيني منذ قرن غير المقاومة للمعنى الصهيوني. ولئن كانت رواية (اخطية) حددت من عناصر المعنى الفلسطيني عنصر الملثم ـ مثلاً ـ أو عنصر الفضاء الحيفاوي، فالتخييل شبكهما وسواهما بعناصر الزمن العربي وأمريكا والمؤسسات الإسرائيلية، في كتابة تتطوح بين الفانتاستيك والسيرية، كما سيلي في رواية إميل حبيبي: (سرايا بنت الغول ـ 1992). أما في المثال التالي فسنرى رواية أحمد حرب (الجانب الآخر لأرض المعاد)(2) تشتغل على العناصر عينها، وعلى سواها، ولكن في لحظة فاصلة من لحظات الصراع، هي الانتفاضة الأولى التي انطلقت عام 1987.
هذه الرواية هي الجزء الثاني من رواية أحمد حرب (إسماعيل ـ 1987). وراويتها كاتب يحمل الدكتوراه من جامعة أمريكية ويدرّس الأدب الإنكليزي. وليست تلك بالشيات السيرية الوحيدة في الرواية التي يمتد زمنها منذ الحرب العالمية الثانية، ليرتكز في السنتين الأوليين من الانتفاضة الأولى.
حملت الرواية عنوان فصلها الثالث الذي ينأى عن التعبير التوراتي عن فلسطين (أرض الميعاد). وتقوم الرواية على شبك عدد من القصص الفرعية، ابتداءً بقصة أبي قيس التي ترسم صوراً من التاريخ الفلسطيني، وقصة المحامي يعقوب أبو تايه الذي يكتب القصة والرواية، ثم قصة اليهودية اليمنية أرنونا التي تتزوج من هادي، وتُسْلم وتتسمى بإيمان. وثمة أيضاً سيرى الراوي (وحيد) نفسه. ويأتي سرده هذه القصص وشبكها على إيقاع يوميات الانتفاضة. حيث تتفجر الأسئلة الحارقة، وأولها سؤال المثقف والالتزام في زمن الانتفاضة. فالراوي المثقف وحيد الذي لم يتعود على المواجهة، يواجه دعوة أبي قيس لـه إلى العمل، بالقول: "اتركني وشأني أكرس قلمي لخدمة هذا الشعب. أنا أكتب عن الحدث ولا أشارك في صنعه". وبينما يصدعه أبو قيس: "أنتم المثقفون هكذا. يقتلكم خوفكم وتقتلكم حساباتكم"، يقرع الراوي نفسه أيضاً: "أنا أعيش الآن على فتات التاريخ بعد أن جف قلمي وانكسر معولي وربط لساني". إنه يحيا ازدواجية قاتلة، سيتخفف منها بعد استشهاد شقيقته وديعة، وانتقاله إلى قريته (العين) وانخراطه في يوميات الانتفاضة في هذه القرية.
تمور الرواية بأسئلة المعنى الفلسطيني، وأولها سؤال الوطن. فإذا كان المحامي يقول لإسماعيل المبعد عن فلسطين: "لا شيء يعدل الوطن" فإسماعيل يتفجر في هذا الاشتباك الحواري: "ما فائدة العيش في وطن محتل؟ شبعت وأتخمت من هذا الكلام. اقتلوهم بأظافركم وأسنانكم وعصيكم.
أظافرنا مقلمة وأسناننا مثلمة وعصينا ليست عصا موسى. حجركم صار كلاشينكوف. حجارتنا قطع جيرية لا توجع. النار النار من غزة لجبال النار. نارنا صارت دخاناً ورماداً. اصمدوا، صمدنا وتعذبنا واكتوينا بنار الذل والهوان. أرجوك يا صديقي لا تنصحني نصيحة الأغنياء للفقراء. الوطن أحمله معي. في قلبي وعلى كتفي. أحمله في حقيبتي. أحمله وأنا مسافر، وأنا نائم، وأنا منصوب القامة، وأنا أمشي أنا لن أعود إلى هناك. قل لي، ما قيمة العيش في وطن محتل؟ ما قيمة العيش تحت سوط الجلاد؟ جلاد هنا وجلاد هناك. جلاد في الأرض وجلاد في السماء"؟
يتشكل سؤال الوطن هنا مما يرسم سمات كبرى لأسلوبية الرواية، فالحوارات تتدفق بلا فواصل بين الأصوات التي تشتبك وتتمايز بلغاتها ورطاناتها، مثل المتناصات مع الهتافات الشعبية والأشطار الشعرية المغناة وغير المغناة. وهذا ما ينضاف إليه في مواقع أخرى عديدة متناصات من الشعر العمودي والحديث والكتب المقدسة والأمثال الشعبية والأهزوجات والأغاني الشعبية في الأعراس والطهور وجنازات الشهداء. وستتعدد اللغات والأصوات أيضاً بالخطابة (خطاب أبي قيس مثلاً في تشييع شهداء قرية العين) وفي الحوار ـ الاشتباك بين الجنود الإسرائيليين وضباطهم وبين الراوي وسواه، على الحواجز ونقاط التفتيش وفي المظاهرات والصدامات والتحقيقات، حيث يأتي نطق العربية مشوهاً بعبرية لغة المحتل.
أما سؤال الوطن فيظل لإسماعيل لوعته الكبرى، لذلك يكرر على مسمع وحيد في عمان عندما أرسلته المنظمة (فتح) إلى هناك في مهمة، فنقرأ أيضاً: "قتلتني يا وطني المحتل، قتلتني، لم يبق لي الآن إلا أغنية". وبالمقابل، فسؤال الوطن بالنسبة للسياسي هو ما يسمع وحيد في مكتب المنظمة في عمان: "يجب أن يعرف أبو قيس والشباب أن الوطن ليس حجراً أو زجاجة مولوتوف. الوطن قضية سياسية". ولأن الوطن هو كذلك فالسياسي يخطط لهجوم سلمي على إسرائيل.
لا يقوم سؤال من أسئلة المعنى الفلسطيني بمفرده، لا في هذه الرواية ولا في سواها، بل بالاشتباك مع سؤال أو أكثر، إن لم يكن مع الأسئلة جميعاً. فسؤال الوطن يتشكل أيضاً عبر سؤال الانتفاضة أو سؤال الزمن أو سؤال السلام، وأولاً وأخيراً، تتشكل الأسئلة جميعاً بسؤال الفن.
فالزمن ـ مثلاً ـ كما يحدث المحامي: "كالكرة أينما تضع إصبعك تكون نقطة الارتكاز". وعندما يستعيد أبو قيس قول المحامي على مسمع من وحيد، يبدل كلمة الزمن بكلمة التاريخ، مضيفاً: "ونحن ضربنا كرتنا بيد حائرة جبانة، وارتدت عن حجر صوان، وطارت بعيداً كأنها باز تحرر من سيطرة صاحبه".
أما الانتفاضة فهي بالنسبة للراوي ثورة بيضاء، والنجاح في معياره هو في إجبار العدو على خوض المعركة بشروطنا. أما بالنسبة لهادي صاحب مكتب الجسر للصحافة والإعلام، والذي تزوج من اليهودية اليمنية أرنونا، فالانتفاضة ليست للقضاء على الطرف الآخر (الإسرائيلي)، بل وسيلة لتحقيق المساواة معه، وقوتها هي باحتفاظها بصورة جوليات أمام داود.
من الانتفاضة الأولى إلى الانتفاضة الثانية الآن، يتصادى السؤال، ليس في التعبيرين السابقين وحسب، بل فيما يمايز بين ماجد القائد الفتحاوي في العين، وبين الراوي وحيد. فبالنسبة للأول: " الانتفاضة حياتنا. إذا ماتت متنا وإذا نجحت نجحنا". أما وحيد فيقول: "عشنا قبل الانتفاضة، وسنعيش بعدها سواء نجحت أم فشلت"، ويضيف، ولكن ليس على طريقة هادي داعية الجسر بين الشعبين، أن الانتفاضة "ليست إلا مرحلة من مراحل النضال يمكن أن تفشل كغيرها، ولكنها ستبقى إضافة نوعية إلى المخزون الثوري الفلسطيني". وإذا كان سؤال السلام يتشظى فيما تقدم، ولم تكن أوسلو قد أسفرت بعد، فهو على الطرف الآخر من الجبهة المحقق الذي يمثله ضابط المخابرات الإسرائيلي (أبو النمر) كما هو الخديعة التي يمثلها يوسي في استمالته لوديعة وجهارة دعواه: "السلام كالحب، يجب أن ينبع من داخلنا ولا يفرض بالقوة من قبل السياسيين". لكن يوسي يتكشف عن عميل للمخابرات الإسرائيلية، توسل حب وديعة والزواج منها ليخرق التنظيم، ويؤدي دوره في إجهاض الانتفاضة.
تجلو الرواية ما تجلوه من الماضي وبخاصة من حاضر الانتفاضة، عبر حيوات شخصياتها، ولتتدفق أسئلة المعنى ـ المقاومة في الحياة اليومية، فأبو قيس يحمل من ماضيه العبارة التي صفعته بها المرأة الروسية في تشرنوبل، عندما كان يحارب في صفوف الألمان: "أنا لست ضحية ولن أقبل الاستسلام". والشيخ عبد الله ضد الانتفاضة لأنها ليست على طريقته الإسلامية، على العكس من الشيخ محمد الذي كان يحب وديعة مثل ماجد. وهنا نعود إلى واقعة يوسي التي أرادت أن تكرر زواج هادي من أرنونا. فإذا كانت المخابرات الإسرائيلية أو سواها قد أجهضت حمل إيمان المسلمة ـ أرنونا اليهودية السابقة - من هادي، ثلاث مرات، كيلا ينجب زواج السلام هذا، فماجد الذي لم تستجب لـه وديعة، بسبب خبرها مع يوسي، يرفع الخيار بين الخيانة وحكمها (الإعدام) وبين تنفيذ وديعة لعملية ستؤدي إلى استشهادها، وهنا تترجع عبارة هادي الذي استنكر عملية قرية العين ضد العدو: "ما أسهل أن نتهم أحداً بالخيانة في هذه الأجواء المشبعة بالدم والكراهية والغاز المسيل للدموع".
هل أرادت الرواية أن تقول إن المرأة تدفع الثمن دوماً، وفي الأرضين: أرض الميعاد وأرض المعاد: وديعة مثل أرنونا؟
تلك هي تعقيدات الانتفاضة، لأنها تعقيدات البشر. فالجاسوس محمد الوهدان يُقبل منه ما لا يُقبل من وديعة على الشبهة والاحتمال. أيكون ماجد ينتقم منها لرفضها لـه؟ وماذا إذن عن العلاقة الحرة بين أم إسماعيل الملقبة بـ(أم الشباب) وأبي قيس، على مرأى من قرية العين، وبخاصة الشيخ عبد الله؟
إذا كانت الانتفاضة تعيد تشكيل البشر، فهي بخاصة قد أعادت تشكيل شخصية الراوي وحيد. فهذا الذي كان يردد: "لا أقدر على الالتزام"، لا بالتنظيم ولا في الأدب، هذا الذي خرج من السجن وآب إلى حي الروازن من قريته، بعد استشهاد شقيقته، مردداً: "أنا سجين: انتقلت من سجن إلى آخر، من دهاليز ذاتيتي إلى دهاليز العين"، هذا المثقف سيستجيب لأبي قيس في تحويل رواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) إلى مسرحية. وستُعْرَض في المغارة، ووحيد ينخرط في تدبير الفخ ليوسي. وهو الذي يخطط لإفشال نسف الإسرائيليين للمغارة التي هي الماضي والحاضر ـ فلنتذكر مغارة يحيى يخلف في روايته (تفاح المجانين ـ 1982) ـ حيث يسفر المفصل في تحول وحيدة، بعدما تراكمت الخطى السابقة، وإذ بوحيد يعمل مع (فتح) مع أنه ليس منظماً فيها، ويأخذ بنظرية أبي قيس (الأدب في خدمة الثورة)، ويشارك ـ لأول مرة ـ في مظاهرة.
من قبل أهدى وحيد إلى أبي قيس لغته المكسرة، فهو كاتب يكسّر اللغة، كما يكسر أبو قيس الحقائق. يقول: "عربيتي ليست عربيتي. عربيتي تكسرت تحت جنازير الدبابات في عام الهزيمة". لكن الزمن فعل فعله فيما بين هزيمة 1967 وشباب وحيد، وبين الانتفاضة وكهولته. وها هو يعيد كتابة الإصحاحين الثالث والرابع من السفر التوارتي (راعوث)، ليتابع ما ابتدأه هادي بعدما أخفق جسره، وراح يكتب التوراة من جديد، مبتدئاً بالإصحاح الأول والثاني من ذلك السفر الذي يروي قصة إيمان التي تسمت هذه المرة بخديجة، فإذا بنا في زمن شارون ومكتب الجسر ولغة روائية أخرى، تنضاف إلى ما عددنا من لغات هذه الرواية التي تنكتب على مرأى من القراءة، ولا تخفي اللعب عنها. فمنذ البداية، يسجّل وحيد في مفكرته أنه وجد في قصة أبي قيس موضوعاً عظيماً لرواية عظيمة، وذلك في 1987/12/25 أي في مستهل الانتفاضة. أما تصور الرواية، فهو: "تبدأ الرواية من نقطة غامضة يجري استكشافها من خلال قصص حلزونية. دع صاحب النقطة واجلس أنت بعيداً، وقلّم أظافرك كإله جويس". وعلى وقع حكاية الأنفاق في قاع وادي قرية العين، يكتب وحيد في مفكرته أيضاً، عازماً على أن تكون الرواية أنفاقاً وجيوباً غامضة.
ولقد جاءت الرواية متصادية بقوة مع هذا التصور، سوى موقع الراوي، الذي لم يكن دائماً بعيداً كإله جويس، ولم يكن التصادي الذي جهر به الكاتب، مع رواية (لماذا نحن مباركون) لكوي آرمة، بأفضل حالة.
متابعة:
إذا كان المثالان السابقان يجلوان تشكيلين جماليين مختلفين للمعنى الفلسطيني، أي للمقاومة بما هي جسد وحجر وسلاح وسياسة وكتابة وأرض.. كما أسلفنا، ففي المشهد الروائي الفلسطيني تشكيلات أخرى، كثيرة متفاوتة، لعنصر ـ إشارة أو أكثر من عناصر ـ إشارات المعنى. ومن ذلك أذكر الشخصية الروائية: ابتداءً بالأم، من (أم سعد ـ 1969) في رواية غسان كنفاني التي تحمل هذا الاسم، إلى (أم الروبابيكيا) في (سداسية الأيام الستة ـ 1969 أيضاً) لإميل حبيبي، و(أم محمود) في رواية (العشاق ـ 1977) لرشاد أبو شاور، و(أم أمير) في رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم ـ 1980) لسميح القاسم، و(أم الشباب: الست زكية) التي هي أم الجميع ومستودع الأسرار في رواية (باب الساحة ـ 1990) لسحر خليفة ـ وللتو رأينا أم إسماعيل التي حملت هذا اللقب في رواية أحمد حرب ـ و(أم عارف) في رواية (البدد ـ 1999) لنعمة خالد...
وهذه أيضاً شخصية البغي التي تسمت بخضرة في رواية سحر خليفة (عباد الشمس ـ 1980) وبسنيورة في رواية يحيى خلف (نشيد الحياة ـ 1985). وهذه شخصية الشابة المثقفة الثورية التي تسمت بشهد الصمادي في رواية ليانة بدر (بوصلة من أجل عباد الشمس ـ 1979) وزينب في رواية رشاد أبو شاور (الرب لم يسترح في اليوم السابع ـ 1979) وندى في رواية (بوابة الجنة ـ 1998) لحسن سامي اليوسف.
في التشكيل الروائي لكل شخصية من هذه الشخصيات ينبض المعنى الفلسطيني ـ المقاومة، من رشق الجنود الصهاينة بالحجارة إلى هتك القيم الذكورية، من الحب إلى الجنس إلى زغرودة الشهيد الزوج أو الابن أو الأخ أو الحبيب، إلى الاستشهاد، كما رأينا مصير وديعة. وإذا كان التشكيل الروائي لشخصية الفدائي قد كابد من ضغط الأيديولوجي على الجمالي، فقد تبدل الأمر مع الانتفاضة الأولى بخاصة، ليتابع ما أبدع أميل حبيبي في شخصية الملثم في رواية (إخطية)، وحسبي أن أذكر هنا الملثم حسام في رواية (باب الساحة).
لقد تواتر اشتغال الرواية الفلسطينية على القرن العشرين الفلسطيني، وتمفصل ذلك الاشتغال على المفاصل الفلسطينية الحاسمة في هذا القرن: من ثورة القسام (رواية وليد أبو بكر: الحنونة ـ 1985) مثلاً، إلى حرب 1948 (رواية يحيى خلف: بحيرة وراء الريح ـ 1991، روايتا رشاد أبو شاور: أيام الحب والموت ـ 1983 والعشاق 1977، رواية حسن حميد: السواد ـ
1988، رواية محمود شاهين: الأرض الحرام ـ 1983) إلى حرب 1967 (بوصلة من أجل عباد الشمس والعشاق أيضاً، رواية أفنان القاسم: الكناري ـ 1993، ثلاثية نبيل خوري: حارة النصارى ـ 1969، رواية توفيق فياض التسجيلية: المجموعة 778 ـ د.ت)...
وما دام الغرض هنا ليس التدقيق في ذلك الاشتغال الروائي، فلنعجلْ إلى الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، إلى الانتفاضة التي أعطت لدعوى التخمر والمسافة عن الحدث في كتابة الرواية، معنى جديداً هو الامتلاء، فنجا أغلب ما جاء من الكتابة عنها روائياً مما وقع فيه أغلب ما جاء من الشعر، وكان ـ بالتالي ـ للرواية قول آخر في معنى الشهادة أو الكتابة عن زمن الكتابة والكاتب.
فبالإضافة إلى رواية أحمد حرب، تلك هي رواية عزت الغزاوي (الحواف ـ 1993) ورواية ادمون شحادة (الطريق إلى بيرزيت ـ 1989) بحدود ما توفر لي من الاطلاع على ما صدر في الداخل الفلسطيني ـ ورواية حسن سامي اليوسف (بوابة الجنة). ورواية يحيى يخلف: (نشيد الحياة)، وفي الصدارة: رواية (باب الساحة) لسحر خليفة التي رسمت منذ رواية (عباد الشمس ـ 1984) بنت أبو سالم وهي ترشق الحجر في المظاهرة، كما رسمت من يرى في ذلك عاراً وشناراً، ومن يقول "بعد شرف البلد والأرض لا قيمة لأي شرف".
في هذا الاشتغال على المفاصل التاريخية الحاسمة، قامت التعبيرات الروائية عن عناصر جمة، من اليهودي والصهيوني (رواية سميح القاسم: إلى الجحيم أيها الليلك، رواية حسن حميد: جسر بنات يعقوب ـ 1996، والمثالان اللذان فصلنا فيهما لإميل حبيبي وأحمد حرب) إلى استثمار العامية الفلسطينية (روايات سحر خليفة بعامة كمثل فاقع) إلى استثمار التقوقع الفلسطيني إزاء الفضاء العربي (طيور الحذر إبراهيم نصر الله مثل ثلاثية نبيل خوري) إلى المكان الذي هو كالعامية: وشم، وسواء أكان مخيماً في الداخل كما في الشتات، أم سواهما في الوطن.
خاتمة:
كل ذلك وسواه مما فاتنا، ومع التوكيد على محدودية التمثيل التي ضربنا، يؤشر بقوة إلى أن تحرير المعنى هو قوام الرواية الفلسطينية في فورتها الحداثية خلال العقود التي راد لها جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني، ليرفد الجمالية التي أبدعها المشهد الروائي العربي، ولاقى بها في مطلع القرن الحادي والعشرين، الرواية العالمية، أياً يكن شأن عقد الصغار والترجمة وسواهما من العقد التي تحكم مصيرنا كصراعٍ مع الصهيونية.


 الهوامش:
(1) منشورات بيسان برس، ط1، قبرص 1985.
(2) دار الأسوار، ط1، عكا 1990.

تيتوف بارة 18-10-07 12:34 PM

الفصل السابع:
التعبير الروائي في سورية
عن الحرب اللبنانية


مقدمة:
لعل الحرب، سواءً أكانت أهلية أم ضد عدو خارجي، تكاد أن تكون الهواء الذي يتنفسه واحدنا، ليس في بلاد العرب وحدها، بل في أرجاء العالم.
والحرب ـ كفعل سياسي ـ تستند على المتخيل الذي يرسم علائق الجماعة بالسلطة والدولة والمقدس، وبالمعايير الخارجة عن معايير المجتمع، وبالطبع: علائق الجماعة ببعضها. ولعل هذا وحده يوفر للرواية أن تلعب دوراً كبيراً في نقض ورسم القيم(1). بيد أن المزالق تحف هنا بالرواية، حيث ـ كما يعبر ارفنج هاو بصدد الرواية السياسية بعامة ـ يمكن أن يكون للأفكار السياسية دور غالب، فيما الرواية تكابد أن تكون شهادة، وحلبة أو معرضاً للأطروحات وللصراع الأيديولوجي. وقد لاحظت ذلك وسواه في الكثير من الروايات العربية التي اشتغلت على الحرب، مما صدر في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي(2). وفيما يعني التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية التي شبت في أواسط سبعينيات القرن الماضي، واضطرمت بخاصة حتى النصر في الجنوب اللبناني، يُلاحظ أن الصدى الروائي لهذه الحرب قد تردد فوراً في سورية، عبر ما كتبت غادة السمان وقمر كيلاني وياسين رفاعية. وقد تنبهت غادة السمان لما يثار في مثل هذه الحال عن حاجة الرواية بعامة إلى النأي عن حدث كالحرب. بدعوى التخمّر، ودرءاً للهاث خلف المرحلي، فقالت بصدد روايتها (كوابيس بيروت)(3): "إن ولادة هذه الرواية في لحظة الصخب والعنف، لا يعني بالضرورة أنها غير مختمرة، كما إن إصدارها ـ أو حتى كتابتها ـ بعد عشرات السنين، لا يعني بالضرورة أنها
اختمرت"(4).
غير أن صدى الحرب اللبنانية أخذ يندر في المشهد الروائي في سورية، فهل كان ذلك لانصراف الشطر الأهم من ذلك المشهد، خلال العقدين الماضيين، إلى الحفر في زمن أبعد من زمن الحرب اللبنانية، أم لأن هذه الحرب اشتبكت في صدر الكتابة الروائية بما تفجر به العقدان الماضيان، عربياً وكونياً، أم لماذا؟
غادة السمان: ليلة المليار
توالي رواية (ليلة المليار)(5) لغادة السمان الاشتغال على الحرب اللبنانية، عبر المفصل الحاسم في الصراع العربي الإسرائيلي صيف 1982. ولئن جاءت رواية (بيروت 75)، فجر الحرب، ورواية (كوابيس بيروت) صبيحة الحرب، فقد جاءت رواية (ليلة المليار) ظهيرة الحرب، بعد أربع سنوات من ذلك المفصل الذي جعلته الرواية زمنها: 1982. وكما فعلت الكاتبة في الرواية الأولى، تنكبت للسيري الذي آثرت في الرواية الثانية. وكما فعلت في الروايتين السابقتين، تابعت في الثالثة لعبة التداعي المنظم، إذ ميزت دخيلة الشخصية الروائية من تأملات ونجوى واسترجاع لقصص الماضي، بالحصر بين الأقواس وبسواد الخط. وقد بدا ذلك أقل إقناعاً وأكبر اصطناعاً كلما تعلق بالماضي، أو سرد قصة شخصية ما، فتطاول مذكراً بفعل القصة القصيرة في الرواية، على غير النحو الذي تبدى ـ غالباً ـ في رواية (كوابيس بيروت). وبما أن الفعل الأساس في الحاضر الروائي هو حفلٌ ما (ليلي غالباً) فقد صحّ في بناء (ليلة المليار) ما قاله رغيد الزهران: "لكل سهرة أقصوصة لطيفة.. والمسلسل لا ينتهي" (ص188). وقد ذيلت الكاتبة كثيراً من ذلك بعبارة تؤكد أن راوي الأقصوصة ـ المونولوج لم يقل شيئاً، كأنما تذكر القارئ بأن ما تقدم ليس غير تداعٍ.
تبدأ رواية (ليلة المليار) بمقتطف من التعاويذ السحرية التي ستتوالى منها مقتطفات أقصر وعديدة طوال الرواية. وقد أثبتت الكاتبة في خاتمة الرواية ما سمته بـ (إقرار بأسماء المراجع) مبينة أن سائر التعاويذ السحرية في الرواية منقولة حرفياً عن أصولها في المكتبة الشعبية العربية، وهي: (النور الرباني في العالم الروحاني ـ الجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجان في الوقت والساعة ـ تسخير الشياطين في وصال العاشقين ـ اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان ـ الكباريت في إخراج العفاريت).
أما المقتطف الأول والأطول (ص7 ـ 8) فقد جاء كفاتحة للرواية، سرعان ما سيتبيّن غرضها، في تقديم العالم الروائي اللامعقول، كمرجعه، بينما اقترنت المقتطفات التالية بشخصية الفلكي والساحر والمنجم (وطفان). وتبدو (ليلة المليار) في هذه الممارسة للعبة التناص ـ وفي سواها المحدود بشعر البياتي وأغنية ومثلين شعبيين ـ متواضعة، شأنها في لعبة التداعي، مرجّعةً بدايات الرواية الحداثية، حيث ينتأ النظام في التداعي، وتظل المتناصات ناتئة، فلا تندغم في النسيج الروائي.
إثر المقتطف التعاويذي ـ الفاتحة، ترسم الرواية مشهد هرب خليل الدرع وزوجته كفى البيتموني وولديهما من بيروت، في السابع من حزيران 1982. وتوقّع للمشهد لازمة (إنهم يطاردونه)، كما ستوقّع لـه فيما بعد لازمة أخرى، ولسواه لازمة جديدة، فالكاتبة حريصة في رواياتها جميعاً على توفير هذا الإيقاع.
لقد رفض خليل الدرع الفرار عند نشوب الحرب اللبنانية عام 1975. لكنه منذ نجا من مجزرة المقبرة، ركبه الإحساس بالمطاردة، حتى إذا جاء الغزو الإسرائيلي للبنان (1982), وتفاقم إلحاح زوجته على الهرب، اندفع إلى المطار متسائلاً عما إن كانت ستقتله قذيفة العدو أم رصاصة الصديق، وممتلئاً بوحدة الجميع، الصديق والعدو، في مؤسسة واحدة ذات فروع. وحين ينتهي تعذيب المطار بين إغلاق وانتظار وطيران، يصادف في الطائرة نديم الغفير، وهكذا نتعرف على ثلاث من شخصيات الرواية الكثيرة، والتي ستبدأ بالظهور فور الوصول إلى جنيف، وتشتبك حيواتها خلال صيف الحرب، وهو زمن الرواية الذي سيبطئه السرد حتى تقارب الرواية نهايتها، فتشرع تلاعبه برشاقة، عبر رحلات خليل من مدينة إلى مدينة، ومنذ فجر ليلة المليار إلى صبيحتها، إلى نهايتها.
والحق أن رسم تلك الشخصيات يبدو إنجاز الرواية الأكبر. فنديم الغفير ثري مغترب يبيع كل شيء: الأسلحة والشعوب والطائرات والنفط.. وهو ذراع رغيد الزهران، ابن التاجر الشامي سامي الزهران الذي صعد في سماء المال والأعمال، منذ التأميمات التي شهدتها سورية خلال الوحدة مع مصر (1958 – 1961).
يعيش رغيد الزهران تحت وطأة التوهم بسعي أحد لقلته. وفي قصره الذهبي (الرحم الذهبي ـ قلعة الذهب..) في ضاحية جنيف تقوم الأحداث الروائية الكبرى، من حفلات ومؤامرات. ولئن كانت الرواية قد قدمت الكثيرين من الأثرياء العرب المهاجرين، فقد جاء رغيد الزهران كشخصية رئيسة، يدور حولـه الآخرون في ذلك العالم الفاسد المفسد، وتتعلق مصائرهم به كمصالحهم، مما عرته الرواية في تصويرها لخبايا النفوس ولعلاقات أولاء فيما بينهم، ومع سواهم، وفي بلدانهم وسواها.
جنى رغيد مليونه الأول من شرائه تمثالاً لجمال عبد الناصر، صنعه الفنان السوري مفيد النيلي، وجاء رغيد بمن صنع نسخاً منه، وباع النسخ إلى كبار التجار، ثم قتل الصانع والبائع، وانطلق إلى ملياره الأول الذي تحقق مع بداية الرواية نحو ليلة الاحتفال.
بهذا الإنجاز تمضي الرواية موازية بين خط الإعداد لليلة الموعودة، وخط الحرب ـ الحاضر، وخط الحرب وغير الحرب ـ الماضي. هكذا نتعرف على دنيا ثابت التي كانت دارسة للفن ورسامة ترسم أجساد الرجال العارية، فيتصدى النقاد لها، ويناصرها أمير النيلي. لكنها بزواجها من نديم الغفير، تدير ظهرها لذلك كله ثمانية عشر عاماً، قبل أن تصحو على إدمانها لماء النار ـ الكحول ـ وفقدانها للجوهر ـ الحوار، وغربة ولدها وابنتها عنها، وتعلقها بتعويذات وطفان، فتحاول في الحاضر الروائي أن تنقذ ما أمكن من نفسها وأسرتها.
وهكذا نتعرف على ليلى السباك التي تزوجت من فرنسي وطلقته كما طلقت ماضيها الثوري وحبها لأمير النيلي، لتغدو (للي سبوك) المتفرغة لرغيد الزهران، والمنظمة لحفلة ليلة المليار الأول. وكما برعت الرواية في تصوير تعقيدات وثراء شخصية ليلة السباك ودنيا ثابت، ستوالي في تصوير شخصية كفى التي تتحول في فضاء رغيد الزهران إلى كوكو، وهي تجري خلف نداء المال ونداء الجسد، وتتطوح من حضن شاب إيطالي عابر، إلى حضن نديم الغفير فالثري الآخر عادل فالشيخ صقر، فيما يتواصل العجز الجنسي لزوجها خليل، منذ أذاقه الأصدقاء الثوريون في الوطن ما أذاقوه.
بالبراعة نفسها جاء تصوير الشخصيات الأخرى من الرجال. فالشيخ صقر يجدد شباب رغيد في هوسه بالذهب وفي إذلال الآخرين، كما يجدد شباب أبيه الشيخ صخر في جنون اللذة وهدر الثروة. وعلى النقيض منهما يبدو الشيخ هلال ـ شقيق صخر. أما أمير النيلي الذي باع أبوه التمثال لرغيد، كي يمكن الابن من مواصلة التعليم، فهو المفكر الوحدوي الذي تربى خليل الدرع على مؤلفاته، والذي رفض أن يعمل لدى رغيد في المجلة التي كان يعتزم إصدارها لتدجين المثقفين والتحلّي بزينتهم. وأمير النيلي ينظم في جنيف تظاهرة عربية احتجاجاً على غزو إسرائيل للبنان، وعلى الصمت العربي، وستشارك في التظاهرة دنيا ونسيم، بينما ترفض ليلى ذلك، فيكتمل يأس أمير منها.
تجعل الرواية من أمير قطباً معارضاً لرغيد، فهما يتنازعان العديد من شخصيات الرواية. وإذا كان طموح ليلى في أن تكون رجل أعمال ـ لا امرأة أعمال ـ ينجز ارتدادها عن ماضيها وعن أمير بالانتماء إلى رغيد، فإن فعل أمير يجعل دنيا تتراجع عن طريق رغيد في تحولات عسيرة ترصدها الرواية بدقة، وبخاصة في محاورات ـ نجوى دنيا وفتاة اللوحة التي رسمت فيها نفسها عندما كانت الفنانة الشابة النقيضة لعالم رغيد ولعالم زوجها نديم.
وكذا نرى أمير يستقطب نسيم الذي يعمل في خدمة رغيد، ويواصل دراسته الجامعية بعون من أمير، ويتوعد في سره رغيداً بالقتل. ولأن أمير كان نقيضاً لأمثال رغيد في الوطن، فقد حاول أولاء اغتياله في سويسرا، لكنه نجا، فحاول رغيد من بعد اغتياله، ونجا ثانية، بينما قضى بسام دمعة بدلاً منه، وهو المحامي الذي جرّ عليه الأذى في الوطن ما كتب بعد هزيمة 1967 (كتابه: نقد العقل السلفي) وفرّ في بداية الحرب عام 1975، مسكوناً بهاجس الموت، فعطله الهاجس عن تحضير الدكتوراه، ثم ظفر به في جنيف.
أما خليل الدرع فهو القطب الروائي الآخر الذي تقدمه الرواية بامتياز، منذ كان (مبدع قراءة) يعمل في مكتبة، ويرفض دفع الخوّة لعصابات الأصدقاء والأعداء، متمسكاً بالوطن والاستقلالية وأولوية الديمقراطية، فيناله من شر الجميع نصيب، ثم يتلوث بمستنقع رغيد، ويعمل سكرتيراً للشيخ صقر، ويرافقه من مدينة أوروبية إلى مدينة، حتى تأزف ليلة المليار، ويأتي نبأ مصرع ابن الشيخ صخر في انهيار المدرسة التي شيدها رغيد في بلد الشيخ، عندئذ يطلب رغيد من خليل أن يحل محل نديم الذي سيكون عليه أن يتحمل عبء انهيار المدرسة، لكن خليل يرفض، كما يرفض أن يمد يده إلى يد رغيد الذي أصابته الذبحة القلبية، فارتمى في مسبحه الذهبي، وقضى. أما خليل فلن يلبث أن يعود إلى بيروت مع ولديه، تاركاً زوجته التي ترفض أن تعود "قبل أن تعود بيروت إلى نفسها". وسوف يرى خليل وولداه قرب شاطئ بيروت باخرة تقل مهاجرين آخرين فيقول: "أين المفر؟ هربت مثلهم وانتهى الأمر. ركبت ذلك الاتجاه، وهرولت صوب الشاطئ الآخر للدنيا، ولم أغادر حلقة الكوابيس.. كنت كمن يتأرجح في المسافة بين كابوس وآخر" (ص489). وفي بيروت، وإذ يصادف خليل خيط الحاجز الإسرائيلي، يرى نفسه بين مئة وسبعين مليون عربي أمام الحاجز، ويتساءل عما إن كان ذلك الخيط الرفيع ـ الحاجز سيتابع نموه عبر شوارع مدن أخرى، ويستحيل شبكة عنكبوتية.
عبر شخصية خليل تواصل (ليلة المليار) إبداع صورة الحرب في (كوابيس بيروت) ككابوس. فخليل يسمي العيش اللبناني في الحرب بكرنفال من الكوابيس، وبالكرنفال المتوحش، ومنذ البداية يقول: "سقطنا في الحلقة المفرغة، وعاد الحلم ليلد كابوساً فكوابيس جديدة.. لقد صادروا الحلم وزوجوه القمع، فكانت الكوابيس نسلهما الأكيد"(94). وبيروت كما يرسمها خليل رقعة شطرنج، مقبرة، سويسرا الشرق التي تحترق، وهي، كالفضاء العربي، مسرح اللامعقول، ولا فكاك لأحد فيه من الجنون.
بين نشوب الحرب والحاضر الروائي سبع سنوات فصلت بين عامي 1975 – 1982، وصنعت، بحسب الرواية، مجتمعاً يبدو من الخارج مثل قطيع من النمل يدوسه عملاق، ومن لا تصيبه الضربة القاتلة يتابع دربه ضاحكاً، لكنه يستمر. وسنرى خليل في نهاية الرواية يضفر بين قوسين كلمة (الأهلية) كصفة للحرب، وهذه هي المرة الوحيدة التي تظهر فيها هذه الصفة، وعلى هيئة متشككة في كونها (أهلية) ومؤكدة ما تواصل طوال الرواية من عبارة (الحرب اللبنانية)، حيث تستبطن الإشارة إلى عروبة الحرب، وهو ما ستقلّب الرواية فيه القول كما في الحرب نفسها، على ألسنة الشخصيات جميعاً، وباختلاف مواقفها، ليصفع السؤال الأكبر من يتحدثون أعواماً عن عروبة لبنان، فماذا عن عروبة بقية العرب؟.
إن بيروت هي الجحيم بالنسبة لكفى. والفلسطينيون في لبنان هم العدو الأول لرغيد. وبحسب الشيخ صقر، فالكل مخدر. وبحسب السيرك العربي الذي ترسمه الرواية في المدينة الخامسة من المحطات السياحية للشيخ صقر وخليل، فالمثقفون والمثقفات الذين يصدحون لنصرة فلسطين ولبنان (الشاعر أرشيد النعيماقي والمفكر الوحدوي منير النوادمي) يتمرغون في ركاب المخدرات والملذات التي يوفرها لهم المال العربي في المهاجر الأوروبية. وباختصار لا تبدو الغربة أهون شراً من عيش الحرب في الوطن. وإذا كانت هذه الحرب سوق السلاح لرغيد وأمثاله من أثرياء العرب المهاجرين، وسبب غربة الجميع، فهي تلاحق الجميع في ملجئهم السويسري. وكما تعري الرواية الأثرياء والزعماء المتقاعدين ونجوم الثقافة، من عرب المهاجر، تعري الآخرين. وسيأتي ذلك بخاصة عبر شخصية الشابة بحرية الزهران التي أودى القصف الإسرائيلي بذويها، وجاء بها نديم إلى جنيف، توهماً بقرابتها لرغيد. فمجيء بحرية سيخضّ الجميع، من دنيا التي يذكرها فيها شيء ما بشبابها وبفتاة اللوحة، فتسعى لحمايتها، إلى رغيد الذي لا يرد لها طلباً، وقد شعر معها بأميته الإنسانية وبحاجته إلى لغة مختلفة، لكنه كلما غمرها بالذهب ذعرت وأمعنت في خرسها... إلى الفلكي وطفان الذي يخشاها ويحاول حرقها، فيقضي في النار وتنجو. وليس نسيم الذي يتعلق ببحرية آخر من ستشغله من شخصيات الرواية، وهي التي فرضت بحضورها أخبار بيروت، مما كان نسيم وخليل وأمير يتنسمون، بينما كانت كفى ـ مثل ليلى ودنيا ـ تتهرب منها، لكن حضور بحرية جعل بيروت حاضرة، من أخبار التلفزيون ـ هل نتذكر الإذاعة في رواية كوابيس بيروت؟ـ إلى انصعاق سهرة رغيد بالشابة التي تلفع عريها بجراحها، والتي سيقايض رغيد عليها أخيراً الشيخ صخر مقابل صفقة إنشاء المطار، لكن تضافر نسيم ودنيا وأمير ينجو ببحرية، لتتلامح لخليل في نهاية الرواية، وهي تركض بين خرائب بيروت مثل الطائرة الورقية.
لقد جعلت الرواية من شخصية بحرية رمزاً مشعاً، كما جعلت من تمثال جمال عبد الناصر الذي سيفلح نسيم أخيراً في سرقته وردّه إلى أمير النيلي. والمهم هنا أن بحرية جاءت كياناً حياً بخرسه وجراحه وسلبيته، بقدر ما جاءت رمزاً يفعل فعله العجائبي في الآخرين، وعلى رأسهم الفلكي وطفان، والذي تقدم الرواية قصصه (شقيقة الفدائي غيلان وأمه المجنونة وحبيبته عنبرة وشقيقاه كنعان وبرقان اللذان صرعتهما الحرب...)، وتُلْبس الرواية غيرته من بحرية بالحب، والقتل بالانتحار، متوجة البوليسية التي تنتأ، كما ينتأ الحرص على إرسال القول في دوائر الحرب، مما تكرر نعته ليلة وكفى ودنيا بالكلامولوجيا. ولعل هذه الكلامولوجيا هي ما جعلت خليل بخاصة يخطب مرة بعد مرة، ففي عشاء (الأنتيم) يصرخ بالمحتفلين: "لقد ساهمتم في تدمير بيروت لخلق نموذج تخوفون به شعوبكم" ثم يبلبلهم بإنشاده (يا ظلام السجن خيّم). وفي هذياناته تحت وطأة الكوكائين كما في صحواته الصامتة الصاخبة، يعلل الحرب بالخطة المحكمة لتكفير الناس بمقدساتهم تمهيداً لمرحلة الاستسلام، حيث يهرب واحد إلى السحر وآخر إلى المال وثالث إلى المخدرات ورابع إلى الغربة، فثمة قناص في غير بيروت، يترصد قلب كل عربي منتظراً لحظة ضعف تسلل عبرها رصاصة لا مرئية. ولا يفوت خليل أن يرسل القول في العالم الذي يتابع هذيانه العصري والعصر ـ وسطوي، ولا يبالي بالقيم الإنسانية التي يتشدق بها.
وقد يكون نتوء هذه الكلامولوجيا جاء أقسى فيما تكرر من ابتداء عباراتها بأدوات التوكيد (إنّ: مفردة أو مشفوعة بالضمائر: إني، إنه ـ لقد)، وبخاصة في حوارات الشخصيات، لكن التعويل الكبير على الحوار الدقيق والرشيق، خفف من وطأة الكلامولوجيا ومن وطأة السرد بعامة، وإن كان إقناعه ظل يتخلخل كلما طال في تداعيات الشخصيات. ويبقى أن نشير إلى أن (ليلة المليار) بفضائها السويسري، تنضاف إلى الروايات العربية التي اشتغلت على وعي الذات والعالم في فضاء الآخر الأوربي. واللافت هنا ما جاء على لسان دنيا من أمر عقمها وزوجها بعد الهجرة من الوطن، ومن أمر عقم معظم المهاجرين. ولنتذكر ـ بالمقابل ـ إصابة خليل بالعجز الجنسي في الوطن، واستمرار العجز في سويسرا. وخليل نفسه يقول عن سويسرا "هذه جنة مستعارة لا نستحقها لمجرد أننا ندفع ثمنها من نقود بقية فقراء الشعب العربي"(ص132).
واللافت هنا أيضاً أن بديع وندى، صديقي خليل وكفى، وفي رحلة الأسرتين إلى (أنسي)، سيكشفان عن نموذج آخر من فعل فضاء الآخر في الذات. فبديع قرر مقاطعة الوطن، ولن يعود إليه، بينما ترى ندى سويسرا جحيماً ـ كما ترى كفى بيروت ـ وتفضل عليها العيش في أي مكان. وإلى ذلك، نرى أمير النيلي، إذ يفتق في سوءات الغربة في سويسرا، يخاطب نفسه: "لا تكن جاحداً. لا تفتش عن العيوب في كل مكان غير وطنك (...) لولا أمنها لذبحك الجلاد الجوال". وفي المحصلة، تبدو (ليلة المليار) أهجية وتعرية بامتياز لمآل ذلك الشطر من الذات (الأثرياء والمثقفون) في فضاء الآخر الذي لم ينج هو نفسه من الأهجية والتعرية، شأنه شأن الذات والوطن.
ياسين رفاعية: الممر
كنقلة غادة السمان من القصة القصيرة إلى الرواية، تأتي نقلة ياسين رفاعية في رواية (الممر)(6). ومثل روايات غادة السمان، تتوسل (الممر) الأقواس والسواد لتمييز التداعي. وقد استبد السرد بهذه الرواية، فشكّل فصليها الأول والثالث عشر، وغالب فصولها الخامس والتاسع والثاني عشر والسابع عشر، وعلى نحوٍ نحا بالرواية صوب التقليدية، كلما أضاء الوصف ـ وهو الغالب ـ ولم يكد يدع عتمة في النص.
يتحدد فضاء الرواية بالممر من بيت محمود شرف، مدرس اللغة العربية المسلم العازب، والذي يسمي الحرب بالجنون، كما فعلت (كوابيس بيروت)، وكما ستفعل روايتا مروان طه مدور (جنون البقر) وأحمد يوسف داوود (فردوس الجنون). وبالنسبة لمحمود، فطرفا القتال مغرر بهما من جهات خارجية معادية، والحرب بالتالي هي "حرب لا غالب ولا مغلوب، وهي أتعس الحروب وأشدها انتحاراً، إذ لا ينتصر أحد الفريقين على الآخر، ولا يخسر إلا الأبرياء مثلنا" (ص56).
تلجأ إلى بيت محمود مضطرة (رنا) الشابة المسيحية المتزوجة من مديرها السابق (ميشيل)، حيث يُقتل السائق الذي يقلها، فتقودها المصادفة إلى ذلك البيت الذي يقع في منطقة الوسط، كبيت رواية (كوابيس بيروت). وكرواية (كوابيس بيروت) ستكون الأذن وسيلة الاتصال بالخارج، وليس العين. وسيفعل الحصار بهاتين الشخصيتين فعله عبر الزمن الروائي الذي تباطأ به السرد، فجعل لثلاثة أيام ثلاثة أرباع الرواية، وترك الربع للأيام الباقية.
أما محمود فيتحول من الموقف الحيادي والسلبية تجاه الحرب قائلاً: "إنني نادم الآن لأني عاملت الوطن بحياد تام، لم أنتسب إلى حزب، لم أحاول أن يكون لي رأي ما. كنت أحب الوطن حباً عذرياً كما يقولون. أحبه هكذا دون أن أسهم ولو بنذر يسير في واجب حمايتي لـه. لو أننا نحن الذين نعاني عشقاً مع الوطن نظمنا أنفسنا لما حدث كل ما حدث. لكن مصيبتنا نحن الأكثرية الصامتة أننا على الحياد (...) لو أتيح لي أن أخرج حياً هذه المرة، لكان هذا الممر سهماً للتغيير، للثورة الحقيقية على الطائفية، وحكم الست والجارية"(ص 108 – 109).
وأما رنا المعجبة بنفسها، والتي تنشد إعجاب الآخرين، ولا يشغلها في بداية لجوئها إلا زوجها وابنتاها، فلن يلبث الحصار أن يوحّد جسدها بجسد محمود، فينجلي ذلك الترميز للممر بالسهم، حيث معادلة الحب والجنس بين المختلفين طائفياً، والتي لعبتها من قبل رواية قمر كيلاني (بستان الكرز) وسواها.
لقد قُصف البيت أخيراً، فاضطر محمود ورنا إلى الخروج، وسرعان ما صُرع محمود، ليختم التعبير المتواضع لهذه الرواية عن الحرب اللبنانية، وبخاصة فيما جربت أن تلعب من التناص، إذ خصّت الفصل الحادي عشر للمقاطع المنقولة من رواية باربوس (الجحيم)، وفيما يعادل عشر الرواية تقريباً. وقد يكون في ذلك، وفي غلبة قصر الجملة وتدافعها، ما يومئ إلى محاولة الرواية في أن تملص من التقليدي، لتنحو منحى الحداثي، لكن جملة اللعبة الروائية في السرد والزمن والخطاب، غلَّبت على الرواية التواضع.
ياسين رفاعية: رأس بيروت(7)
تتعنون هذه الرواية باسم واحد من أحياء مدينة بيروت. ومنذ البداية إلى النهاية ستؤكد ما يومئ إليه عنوانها من انتساب إلى تلك الفئة من الروايات التي تشتغل على الحي أو الحارة، وهو ما كان العلامة الفارقة في الهرم الروائي الذي شاده نجيب محفوظ، فضلاً عن أن رواية ياسين رفاعية (رأس بيروت) كثيراً ما تتركز في البناية التي يقيم فيها الراوي ـ البطل، من ذلك الحي.
وبضفر ما هو متوفر من سيرة الكاتب، إلى ما سنرى في الرواية، تبدو بامتياز كرواية سيرية، مثلما هي رواية حي، وهذا ما تؤكده كلمة الغلاف الأخير للرواية، فيما تذكر من عيش الكاتب السوري ياسين رفاعية للحرب اللبنانية في بيروت التي قطن منها حي رأس بيروت منذ عام 1970.
قسم الكاتب روايته إلى ثلاثة أقسام هي: ماذا فعلت بنا الحرب؟ ـ سرداب أبو الجماجم ـ الحصار. ولم تأت القسمة متوازنة، فالأول يقارب نصف الرواية. ولعل القسمة لم تكن تعني الكثير للكاتب في تنظيم الرواية، فساق الفصول متسلسلة دون اعتبار للأقسام. وإذا كانت البنية العامة للرواية قد قامت على السيري وعلى الفضاء (الحي والبناية)، فقد غلب على البنى الجزئية للفصول تعلقها بحدث محدد. وقد يستغرق حدث أكثر من فصل، كما تتناثر أحداث ثانوية في بعض الفصول على هامش الحدث المركزي، لترسم جملة الفصول في الأقسام حيوات الشخصيات الكثيرة، الأساسي منها والثانوي، في زمن الحرب، ودوماً تحت مظلة الراوي بضمير المتكلم.
تبدأ الرواية بالتذكر الذي يستدعي السيرية كما تستدعيه، ويحرض عليها كما تحرض عليه، فنقرأ: "ما زلت أذكر ذلك الحزن الذي انتابنا يوم اختفى ذلك الطفل"(ص13). وإذا كان حدث اختفاء الطفل عبد القادر الذي يوزع الصحف على سكان البناية، سيشغل الفصل الأول، فالذاكرة ستبدأ بالاشتغال منذ هذه البداية، مرسلة الحنين إلى الماضي في شعبتيه: شعبة ما كانته بيروت عندما اختارها الراوي وطناً بعد سورية، وعندما كانت اليوتوبيا التي يحلم بها الفنانون، وشعبة طفولة الراوي عندما كان يأتي من دمشق إلى بيروت ليبيع فيها الكعك، ولم يكن من حدود بين البلدين. أما الوصل بين فعل التذكر والفعل السيري في الرواية فيبدأ أيضاً من هنا، فبائع الكعك صار كاتباً من غير أن يقصد، والآن هو يتفجع على تعاسة الكاتب، العامل ابن العامل. والآن أيضاً يرسل الراوي الكاتب نبوءته، فمنذ بدأ يقرأ ويفهم صار يرى المستقبل مظلماً، وها هو الإنسان قد صار خرقة معصورة، وغصناً مكسوراً ورقماً هامشياً بيد السلطة.
في الفصل الرابع عشر تأتي نهزة الراوي ليسرد قصة حياته عبر الحوار الذي استغرق الفصل، بينه وبين المحقق أبي الجماجم الذي يبادر الراوي في بداية الفصل: "قصّ لي قصة حياتك". وقد استطاعت مكْنة الكاتب من صياغة الحوار وإدارته، أن تنأى بالفصل عن بعض ما آذى مواطن الاستذكار الأخرى، سواء في المباغتة التي تغدو استطراداً، أو في طغيان النوستالجيا والتقريرية السردية، كما بدا في استعادة بداية الحرب في بيروت، وبما خُص به حي رأس بيروت من ذلك، أو في استعادة صورة بيروت قبل الحرب في الفصل الثامن، بالمقارنة مع ما آلت إليه، ومن ذلك مشهد القمامة في حاضر الحرب. وكما سنرى، كان المرحوم مروان طه المدور، الكاتب السوري، قد أبدع في استثمار (القمامة) في روايته عن الحرب اللبنانية أيضاً (جنون البقر) والتي صدرت عام 1990، قبل رواية رأس بيروت بسنتين.
في هذا التعالق بين السيرة والذاكرة، يأتي من الحاضر دوماً ما يستدعي الماضي، فميل الراوي أثناء اختطافه وسجنه إلى البدوية عايدة ـ التي تطهو طعام السجناء، ويحرم عليها الخروج من السجن كيلا يفتضح أمره، وهي أيضاً إذن سجينة ـ هذا الميل يستدعي قصة حب الراوي لابتسام في عهده الشامي ثم لقاؤه بأمنية التي ستغدو زوجته: "راحت الذاكرة تمد أمامي شريطها الطويل، تذكرت ما لم يخطر على بالي من قبل"(ص228). وحاضر السجن، كلحظات شتى من حاضر الحرب، يتطلب النوستالجيا: "هل كنا نحلم؟ كانت بيروت القديمة جوهرة، تذكرت أيام عزها.. تذكرت ممارستنا الكاملة للحرية التي افتقدناها.."(ص244)، وكذلك: "كانت بيروت واحة ديمقراطية حقيقية في تلك الصحراء الشاسعة.. أين هي بيروت؟ هل كنا نحلم"(ص245). ومن الطريف أن الراوي نفسه، عندما يُفرج عنه ويمضي مع الرائد الفلسطيني زكريا، يندهش للأحياء الفقيرة التي يرى، والتي لم يكن يعرف أن في بيروت مثلها، على الرغم من إقامته الطويلة فيها وعشقه المشبوب لها. والراوي كالرواية، يكرر بذلك معزوفة التأسي على البهاء والديمقراطية في بيروت الماضي كما شاعت في مبدعات جمّة، ولكن ثمة بالمقابل ما مضى إلى نقضها بتقشير السطح والحفر في الأعماق، كما فعلت روايات غادة السمان وأحمد يوسف داوود ومروان طه المدور من الكتاب السوريين، وسواهم من الكتاب اللبنانيين.
ليس فعل التذكر في رواية (رأس بيروت) وقفاً على بطلها (أبي بسّام) الذي ضنّ باسمه واكتفى باللقب. فالدكتور أسعد يتذكر ما عاش منذ الطفولة مع الجار المسيحي أبي جميل، ويتذكر نشأة بنت هذا الجار (سوزان) مع وليد، ابن الجار المسلم أبي إبراهيم. والحاضر هو الذي يستدعي تلك الذكريات، إذ يهدد مجهولون أبا جميل بالرحيل عن الحي المسلم، ويخطفون بكره ويقتلونه عندما يتريث في الرحيل. ووليد وسوزان الجامعيان عاشقان بمعرفة الجميع، يهدد الرحيل خروجهما على سكاكين الطائفية. والملحوظ هنا أن سلطة الراوي ترمي بوطأتها على الدكتور أسعد إذ يتذكر، بخلاف ما يبدو مع ذكريات شخصية أخرى هي أبو زهير. ولعل السر أن يكون في طبيعة هذه الشخصية، كما سنرى.
لقد حفلت الرواية بعشرات الشخصيات الثانوية العابرة التي ندر أن كان لحضورها جدوى، إلا أن تشتت السرد وتوقعه في الاستطراد وتثقل عليه. وعلى عكس ذلك كان حضور وتميز أغلب الشخصيات الأساسية، على الرغم من تفاوت أدوارها ومن تظللها جميعاً بمظلة (أبي بسام).
وأول ذلك يأتي في شخصية ابن العاشرة عبد القادر الذي يبدو في غيابه أكبر حضوراً من سواه في حضوره العابر أو غير العابر. فالرواية تبدأ باختفاء هذا الطفل الذي بات ينوب عن والده في توزيع الصحف على سكان البناية التي يقطنها الراوي. ويقوم الفصل الأول من الرواية على وقع اختفاء ـ اختطاف الطفل على الآخرين. وعبر ذلك تترامى أشتات الحرب في الخاص والعام من العيش. فاليوم تمضي به طاولة الزهر، والجريدة صارت كل شيء في حياة سكان بيروت. على العكس من عصبوية إذاعات الميليشيات المتكاثرة ـ وبالمناسبة: يلعب المذياع والإذاعة دوراً حاسماً في رواية مروان طه المدور: جنون البقر ـ. أما القتال المتبادل فمستمر "وليس في هذا النفق الأسود أي أمل"(15). إنها ـ بحسب الراوي ـ حرب غير مبررة، وعبث وموت ودمار، ولا من رادع، وقد تسللت إلى الطفولة، ليس باختطاف عبد القادر وحسب، بل بلعبة الحرب التي يلعبها ابن الراوي (بسام) مع أقرانه، فالحرب تملأ حاضر هذا الطفل وترسم مستقبله: "عندما سأكبر سأذهب إلى الحرب".
بقدر ما ينظم هذا الفصل الأول من الرواية حدث اختطاف عبد القادر، بقدر ما يشتته تقديم الجميع ونثار الذكريات: من محي الدين صديق الطفولة والبدايات في دمشق والذي أعد الدكتوراه في بيروت (هل هو الناقد المعروف محي الدين صبحي؟) إلى أبي إبراهيم المؤمن المحبوب والدكتور أسعد ولوريس ومنير وأبي زهير و.. ولن يكون لحضور الحرب في استهداف مركز الأبحاث – رغم الدلالة هنا على وحشية الحرب المستهدفة للثقافة – أو اكتشاف الناس لخبرة التمييز بين الأسلحة من أصواتها، من فعل غير التشويش على الحدث المركزي: اختطاف الطفل. وإذا كان زمن هذا الفصل (يوم واحد هو يوم الاختطاف) قد ساعد على ضبط أفعال التشتيت، فهو سيعينها في فصول كثيرة تالية، كلما تقافز أو انبهم وغدا: ذات ليلة، ذات يوم، في صباح أحد الأيام، شهور عديدة، ذلك اليوم.. وسيبدأ هذا الأمر منذ الفصل الثاني الذي يتابع ذيول اختطاف الطفل عبد القادر إلى الحدث المركزي التالي، وهو محاولة اختطاف طفل الراوي (بسام) نفسه، ولأن الخطف سمة كبرى لهذه الحرب العمياء، فسيعاود في الفصل الثالث عبر اختفاء الجار (أبو المجد)، إبان دخول القوات السورية إلى لبنان وتوقف الحرب لفترة عادت بعدها أكبر شراسة.
يظل حضور التدخل السوري عابراً في هذا الفصل وفيما يليه، على العكس مما نرى في روايتي قمر كيلاني (بستان الكرز) وأحمد يوسف داوود (فردوس الجنون). بالمقابل ينشغل الفصل الثالث بتنظيم سكان الحي لحراستهم له، ولسكنى أسرة مهجرة مطرح أبي المجد الذي يظهر فجأة، ولكن في أحسن حال. وسنرى بين فصل وآخر كيف سيتردد على بيته، وكيف تثور شكوك الحي حول عمله الجديد وثرائه، وحول علاقته بالمهجّرة (أم خالد) التي شغلت البيت، وصولاً إلى زواجهما، ثم اختطافه واختفائه مرة أخرى. وفي هذا الخط الفرعي من خطوط الرواية يرتسم بقوة ملمح من ملامح تطور الشخصيات بفعل الحرب التي أشاعت التهجير وتجارة المخدرات وأمر المافيات والعصابات. وفيما يخص (أبو المجد وأم خالد) يأتي ذلك بأقل قدر من الكلام، تعويلاً على الإشارات والأفعال، ولعل في ذلك سر الرسم البارع لتطور الشخصيتين بفعل الحرب.
أما أبو زهير الذي يتلبسه أخوته من الجن والعفاريت، فيبدو أكثر شخصيات الرواية تميزاً. فمن حكاية ربحه لورقة اليانصيب إلى حكاية سيارته إلى دوره في حاضر الحيّ، تنهض شخصية دينامية، كان قميناً بالرواية أن تستثمرها لتفجير السرد وإطلاق المخيلة، كي تعيد تركيب الواقع ـ الحياة اليومية في الحرب، بدلاً من الانجرار إلى التقريرية والشرح في غير موضع. ولقد قال الراوي نفسه في أبي زهير إنه كان "في كل مرة يروي حكايا يسرح فيها خياله كما يشاء، وفي كل مرة يتذكر ويضيف أحداثاً أخرى. كان بارعاً في الرواية".
حين ينشب القتال بين منظمتين في حي رأس بيروت، ويُقتل من أبنائه خضر الشاب، يأتي بجثته أبو زهير مردداً من لغة الجن والعفاريت ما يحفظ، ومذكراً بالمتناصّات الطويلة العديدة من هذه اللغة في رواية غادة السمان (ليلة المليار). لكن هذا المؤاخي للجن والعفاريت يتقدم إلى نهايته التراجيدية في الفصل الأخير من الرواية ـ بعدما اقتحم الإسرائيليون بيروت ووقعت مجازر صبرا وشاتيلا ـ معتلياً صخرة الروشة الشهيرة قبالة الشاطئ، مردداً على من اجتمع حولـه يقينه بفناء البشر وخلود الصخرة، ثم ينقذف إلى البحر منتحراً، فينقذ خاتمة الرواية من لهاثها خلف أحداث الحرب عام 1982، كما أنقذ الفصل الرابع بنقله لجثة خضر، والفصل السادس بذكرياته. وكأن الراوي لم يستطع الخلاص من سطوة أبي زهير، فكانت آخر عبارة في الرواية ترجيعاً ناتئاً لما قال في الصخرة، في محاولة زائدة للترميز الذي أجهضه الشرح، إذ نقرأ وقد عادت الحرب للاشتعال: "إلا أن صخرة الروشة ظلت في أعماقنا رمزاً بأن الحياة أبقى وأقوى"(ص345).
مثل هذا الأذى الذي تسببه سلطة الراوي يبدو بخاصة مع شخصية الدكتور أسعد. فعندما يدفع أحد طفلي القصاب (الجزار) الشاب أبي علي شقيقه من الشرفة العالية، وتهز الفاجعة الأبوين وجيرانهم، تنطلق محاضرة الدكتور أسعد حول النسيان. ولا يخفف الحوار من وطأة المحاضرة، كما لا تخفف من وطأة الراوي قصة موسى والخضر والتناص الطويل مع القرآن.
وهنا يلتمع في الرواية مثل ما كان مع شخصية أبي زهير. فالخبل يظهر على أبي علي، والرواية تقنع بالقليل مما يفتحه ذلك لها من إمكانية تطور هذه الشخصية. وإذا كان الأمر عينه يظهر مع شخصية المسيحية الشابة (ريتا)، فقد ظل حظها أكبر.
في الفصل الثامن، وقد توقف القتال وعاد الراوي إلى عمله في المجلة في الحي المسيحي (الأشرفية)، تدعو الجارة إيفون إلى عشاء يحضره صديقا الراوي: الضابط الفلسطيني أبو محمد والكاتب الفلسطيني (أبو الطيب) وآخرون من الجيران بينهم سكرتيرة في شركة سياحية، تومض بينها وبين المسلم أبي الطيب شرارة الحب، على وقع المدافع التي عادت تقصف أثناء العشاء.
في الفصل الحادي عشر، وقد أغلقت المجلة وانتقل الراوي إلى العمل في معهد أكاديمي لأحد معارفه، يلتقي أبو محمد مصادفة مع أبي الطيب وريتا. ومن المطعم إلى البار ـ حيث متنفس الشباب والرقص لكأنه ليس في البلد حرب ـ ترتسم شخصية ريتا كما يرتسم الحب، على الرغم من أن أمها لا تريد لها أن تهوى رجلاً من غير دينها. لكن ريتا الفلسطينية الجذور، كما ترسمها الرواية، مستقلة وشجاعة، لذلك يحسبها الحي لعوباً. وريتا ترى أن الذين يذبحون البلد منقادون إلى مؤامرة خفية، وأن الجميع متورطون. ولأن أبا الطيب اصطحبها إلى الخطوط الأمامية، ولغرابتها، فحص أبو محمد شكه بجاسوسيتها حتى نقضه. وسيظل العاشقان يمضيان نحو الزواج، على الرغم من التناقض الطائفي، حتى تبدأ حرب 1982، وتستشهد ريتا في المستشفى الذي قصفه الإسرائيليون، فينطوي أبو الطيب على الفقد، وهو الذي كان في بداية تلك الحرب يصيح بالراوي في مقر الإذاعة المتنقلة: "هذه حربنا الأولى معهم. في كل مرة يحارب العرب نيابة عنا ويهزمون"، فإذا به بعد فقد ريتا، ينيخ للهزيمة التي أعلنها أخيراً رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت.
تصرّ الرواية على مناجزة الطائفية، فوليد وسوزان يتزوجان ويبحران إلى قبرص، وتندحر الطائفية التي انتصرت برحيل أبي جميل المسيحي من الحي، بعد تهديده باختطاف ابنه وقتله. وتنتصر الطائفية مرة أخرى عندما يصطحب الراوي بسيارته جاره المسيحي جوزيف في العودة إلى الحي، فيعترضهما حاجز مسلم وقد جن جنون القتل على الهوية، ويقتل شاب ذلك المسيحي، لأن أحداً مسيحياً قد قتل أبا الشاب وأخاه، فَحُقَّ في هذه الحرب قول الدكتور أسعد للراوي إنها ليست من صنع الله "إنها حرب الشيطان لأنها حرب لا عدالة فيها، وحرب لا إنسانية، واستمرارها استمرار للعبة الشيطان".
هذه النقدية للحرب بعامة، وللطائفية من عناصرها، تغدو أكبر حضوراً في القسم الثاني من الرواية، والذي يبدأ بسفر زوجة الراوي الشاعرة إلى لندن وعودتها، وبالاستطراد إلى قصة والدها وقصة الجارة الأرمنية.. ثم يكون اختطاف الراوي، حيث تتألق الرواية في رصد دخيلته وهو يكابد الخوف، ويقلب أسباب اختطافه ما دام لا يتعاطى السياسة، وعمله الصحافي فقط في الشؤون الثقافية، وما دام لم يعلن رأياً بالحرب، وشأنه شأن عامة المحسوبين على (الأكثرية الصامتة). وحين يبدأ التحقيق ترتسم بخصوصية وحذق شخصية المحقق (أبو الجماجم) الذي ينتفض: "هؤلاء الذين يشكلون الخطر.. الكتّاب والشعراء.. هل تعتقد أن العمال وكناسي الشوارع وبائعي البرتقال يشكلون خطراً.. هؤلاء الناس مساكين.. الخطرون هم المثقفون"(ص166).
ليس أبو الجماجم سوى محقق فلسطيني كما سينجلي بعد نقل الراوي إلى سجن أبي أكرم، تحت الأرض. أما التهمة فهي الخيانة والعمالة، لأنهم ضبطوا تسجيلات للراوي مع مثقفين كان حاورهم بمقتضى عمله. لكن السر الذي سيطلق سراح الراوي حين ينجلي، هو ما دس به على الراوي لدى المنظمة الفلسطينية، جاره أبو توفيق الذي يعمل مخبراً للمنظمة. ولذا سيردد الراوي على الرائد زكريا الذي يعتذر لـه أن الثورة مثلها مثل بقية الأنظمة.
وقد رسمت الرواية في سجن أبي أكرم صورة أي من سجون أي نظام عربي عتيد، وحققت الصورة خصوصيتها بما مر من أمر البدوية الطباخة عايدة مع الراوي.
لقد داهم الراوي في زنزانته كابوس الدم: "بدأ بحر الدم يمشي إلى أن بلغ صخرة الروشة. رأس بيروت الصخري المشدود كالعملاق وسط البحر.. غمر بحر الدماء البحر الأزرق، وسرعان ما اصطبغ بلون الدم. لكن الصخرة ظلت مشرئبة بعنقها مشدودة إلى أعلى.. وكذلك ظللت أنا طافياً، أرى هذا المشهد ولم أمت، فصرت أبكي (...) الدم.. الدم. هذه مدينة ستغرق بدماء أبنائها.. فكن شاهد هذا العصر أيها الشهيد.. كن شاهد هذا العصر"(ص215). ولئن كانت الحرب قد توقفت في الداخل لتتواصل على الحدود في الجنوب اللبناني حتى التحرير، فالراوي الذي لم يصر شهيداً، قدم شهادته على ما عاش من الحرب منذ بدايتها حتى ذروتها عام 1982، فكانت رواية (رأس بيروت) تجاوزاً كبيراً لما سبق للكاتب أن كتب عن الحرب اللبنانية في رواية (الممر)، وإضافة هامة إلى المدونة الروائية للحرب اللبنانية بخاصة وللحرب بعامة.
أحمد يوسف داوود: فردوس الجنون:
جاءت رواية أحمد يوسف داوود (فردوس الجنون)(8) بعد سنوات من توقف الحرب اللبنانية، لتشتغل عليها، كما على مقدماتها وملحقاتها، في لبنان وفي سورية، ولتترك علامة فارقة في كتابة صاحبها الروائية وغير الروائية ـ فالكاتب أيضاً شاعر ومسرحي وناقد ـ ولعلها أيضاً علامة فارقة فيما تنعطف به الرواية العربية منذ عقد على الأقل، نحو أفق آخر.
تعلن (فردوس الجنون) منذ البداية عن مغامرتها الفنية، عبر فصلها الأول (بيان الأبطال)، حيث مشاركة القارئ في اللعبة، ولعبة السارد الجماعي، ولعبة استئجار كاتب لتدوين الرواية، وسوى ذلك الكثير من اللعب الذي ينشط في حالة ـ حالات الجنون، ويرمي بطرف خيط أغلب عناصر الرواية التي ستشتبك فصلاً بعد فصل، قبل أن يبلغ الجنون تمام العيش السوري اللبناني، على تخوم قرن جديد وألفية جديدة.
ومنذ هذه البداية تشتغل الميتا رواية، فترى الرواة يعتذرون منا ـ من القراء ـ عما يسمونه (الحذلقة) التي قد نجدها في الرواية، وفي حواراتهم على وجه الخصوص، يرد الرواة هذه (الحذلقة) إلى الكاتب (المستأجر). وفي موقع آخر يخاطبنا الرواة موضحين أن إحدى سقطات هذه الرواية هي أن الجنون فيها يبدو لأبطالها سخيفاً إلى درجة محزنة، لهول الجنون الواقعي. وفي موقع ثالث نرى الرواة يبحثون عن ربط منسق، يحكم أوهامهم كي تجيء روايتهم مسلية، لكنهم يعترفون لنا ـ نحن القراء ـ أنهم لم يصلوا إلا إلى تفكيك خاسر، وهنا يدفعون بالسؤال الحاسم: "تفكيك أي شيء؟" و"أي تفكيك؟".
هل هو زمن الحرب وفضاء الحرب المنداح من لبنان إلى سورية ومن سورية إلى لبنان، ومنهما إلى العالم في نهاية القرن العشرين؟
هل هو أيضاً تفكيك البنية الروائية التقليدية، وتوسل تعددية الأصوات واللغات والتهجين والذاكرة والعجائبية والشهرزادية، من أجل بنية روائية جديدة بالغة التفكك وبالغة التماسك، تسخر من الفلتان النقدي ـ تيمّناً بالفلتان الأمني إبان الحرب ـ وتستدعي رعب المؤسسة الكافكاوية بقدر ما تستدعي رعب المؤسسة الغيطانية (في رواية جمال الغيطاني: حكايات المؤسسة) وسواهما من الأعمال البالغة الواقعية والبالغة التخييل، وكيف جاء ذلك كله؟
يقرر الرواة في بيانهم الافتتاحي أن تكون الرواية رواية (بليغ) تقريباً. وهذه الشخصية الروائية (بليغ حمود) ستتولى أمر الرواية ـ تقريباً ـ ولكن من دون أن تكون (البطولة الروائية) لها أو لسواها، فالحرب اللبنانية هي البطل الذي ينازعه البطولة العيش السوري، فبليغ حمود سوري ريفي، يفرض عليه الشبح الذي يقبض على الخناق السوري أن يعمل في ركابه، في قوافل التهريب، فيفرّ بليغ من هذا الذي تكتفي الرواية بلقبه (الأستاذ) وبلقب من صاهر: (البابا) الذي يتربع على رأس السيبة، كما تنقل الرواية من المسرحية الرحبانية الشهيرة.
لقد هرب بليغ من جنون ليقع في مصيدة جنون آخر. منذ أن تولى اللبناني (سرحان) تهريبه، فَغَدَوَا مطاردين في الجرود، حيث يحرص سرحان في واحدة من إشاراته الساخرة للقوات السورية، على "أن نتجنب شرطتكم وعسكركم ورصاص رشاشاتنا ومدافعنا وبقية ألعابنا المضادة".
في حمأة الحرب، حيث القوات السورية وجميع الأطراف اللبنانية، والفلسطينيون، يقود سرحان بليغاً إلى ضيعته. وعبر ذلك يقص سرحان قصته، منذ دراسته الفلسفة وتخصصه في ديوجين الكلبي، إلى أن نشبت الحرب وجاءه الإسكندر المكدوني معجباً به، بعدما تخلى عن معلمه أرسطو، وقال له: اطلب، فطلب: "أريد أن تحل عن خلقتي أنت والميليشيا التي معك".
تكاثُرُ (السكندرات) جعل سرحان يعود إلى ضيعته متسائلاً عما يفعل بالفلسفة في عالم صار فيه العقل عار صاحبه. لكن الضيعة أنكرته، إذ سلّحه اسكندر الضيعة، وأمرهُ أن يطلق، فالطوائف اختلفت، والأوامر "تقتضي بالإطلاق على ثلاث طوائف في ثلاث قرى مجاورة، ولكن بكل الحنان الأخوي اللازم، يعني إلى القلب مباشرة". ثم تعقدت أوامر الإطلاق واتسعت فشملت الفلسطينيين والجيش السوري والجار القريب والآخر البعيد، وخصوصاً خصوصاً: "سائر الكائنات التي لا تطلق معنا، أو تقصر بواجب الإطلاق في جبهتنا التي صارت وطناً لا ينقصه إلا نشيد ليدخل في الجامعة العربية".
رفض سرحان الحرب وصاح" "هذه قذارة سياسية"، ولبى نداء جميلة التي رملتها الحرب. كان سرحان مختفياً في شجرته، فلجأ إلى بيت جميلة، وباتا امرأة ورجلاً وحيدين في حضرة الموت، كأنهما الشاهدان الأخيران على العالم "يدفعان الموت عنهما بالإمتاع والمؤانسة، فيما هما يرتجفان.. ثم ينتهيان صديقين، مهمتهما تجديد الحياة، حسبما فعل آدم وحواء في بداية الخلق".
كانت جميلة تطبطب على عضو سرحان قائلة في إشارة إلى أطراف الحرب: "أليس أهم من كل انتصاراتهم؟". لكن مجزرة البلطة تقع وتودي بكثيرين، فيدرك سرحان أن شايلوك وحده من يسكن قلوب وضمائر الاسكندرات وأزلامهم، ويتساءل "أي رب محارب هذا؟ رب غريب محارب لم أجده إلا في كتب اليهود": ويطلق النار.
يوم المجزرة حملت جميلة من سرحان. لكن فرحته التي أطلقت رصاصته، قتلت جميلة، وعصف الجنون بسرحان، فطرد (القشة) مجنون الضيعة، لأن الضيعة لا تتسع لمجنونين. ونقرأ: "ولأن الرب المحارب هو الذي قام بقص الأشرطة الحريرية على سائر الجبهات، إيذاناً بحرية انطلاق كل ميليشيا في مستنقع الدم الذي تختاره بحثاً عن التعايش الأخوي الديمقراطي: من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أدنى "تحت" إلى أعلى "فوق" مرسوم في أغنية وديع الصافي (لبنان يا قطعة سما)، فقد تهيأ لي أن القشة ربما كان مبعوثاً سماوياً لتقصي مدى الإخلاص في مجرى الحقائق الملعونة".
قرر سرحان أن يفتح جبهته الخاصة: جبهة عشق، فوجّه بارودته إلى جميع الجبهات، لكن الجبهات وضعته مرغماً في الحياد، وبات معروفاً، يتنقل بينها، حتى كانت حرب 1982، فيشكر سرحان اليهود على اجتياحهم، لأنهم منحوه أفقاً صالحاً لجبهته "وإلا لما عرفت بتاتاً ـ وسط العرير الأخوي ـ إلى أين يجب أن أوجه رصاصي، دون أن يقتلني تأنيب الضمير".
جاء اسكندرات اليهود، كما يروي سرحان لبليغ، لاغتيال مطارات هذه الأرواح، بحجة أنها أرض ميعادهم، وقد قضوا ثلاثة آلاف عام وهم "يظبطون الأسس الفلسفية لأصولية الحروب". وبمقتضى فلسفة الأرض المحروقة التفوا حول الضيعة إلى بيروت، فأخليت الضيعة، وتمترس سرحان في مطار الروح ـ بيت جميلة، يقاتل وحيداً. منتصراً بهزيمته، وضد نظام عالمي برمته، وظل صامداً على الطريقة العربية الفولكلورية.
قبل خروج سرحان من الضيعة شرّفها (الأخوة) باعتبارها نقطة قنص "وكادوا يديرونها حرباً عالمية لبنانية حول من السبّاق إلى تحرير الضيعة، ثم اُتفق على إبقائها منطقة محايدة، حتى لا يعرقل أهلها عمليات القنص الأخوي في الأماكن الأخرى".
صراع الأخوة على الضيعة أخّر سرحان عن اليهود، فركب بارودته كجواد دونكيشوت، وكالقصبة التي تركبها أية شخصية في رواية (فردوس الجنون) في جنونها. وفيما تحول عم سرحان من محمود إلى الشيخ محمود، وصار يدعو الله كطرف محايد في الحرب، بجنونه الخاص، انطلق سرحان ليقذف اليهود في البحر "على طريقة أحمد الشقيري، وما حدا أحسن من حدا". إلا أن عصابة مهربين سوريّين اعتقلته، وأقنعه كبيرهم أن "التعاون العربي هو طريق النصر من الوجهة الاستراتيجية". وطلب منه أن يعمل كشافاً لهم في مسيرتهم إلى الحدود، ففر منهم مصمماً على أن يقتل بخاصة "أولئك الذي سيعترضون طريقي في اللحاق باليهود إلى بيروت".
في هذه الطريق يلتقي سرحان بزهرة عند النبع. وزهرة التي هرب زوجها إلى الحرب، وتخشى أن تكون هزمت إلى النهاية، تخترع الأعراس لتبقى متماسكة، فالحرب حاضرة دائماً في كل بيت، وبعض الناس شاخ دون أن يتجاوز الثلاثين، وبعضهم هلهله الحصار، لكنهم ليلة العرس قرروا أن يخرقوا الجدار ـ الكابوس.
يقول سرحان لزهرة: "أنا لست مرتزقاً فأعمل لحساب أحد، ثم إنني مستقل عن الحرب الأهلية"، ويقول: "أنا بصراحة أحارب الغزاة اليهود الآن"، فتقول زهرة: "وماذا لو قلت لك إن الغزاة جاؤوا من ضمائرنا الآن؟". وإذ يؤكد لها أن هناك من سيقف مع اليهود ضد لبنان، تقول ساخرة: "نصف من هذا الطرف ونصف من ذاك، ومجد الخراب الأخير للبنان، من واشنطن إلى المحيط فالخليج!.. لبنان صار "قطعة سما" فعلاً، ولكن بلا مخلص". وبدلاً من بيروت، تدفع زهرة بسرحان إلى سليمان، فمن هو هذا الراهب؟
إنه الأستاذ الجامعي للفلسفة، والذي جعلته الحرب يعتزل، ويكاد يكون التعبير الأكبر للفعل الفكري والصوفي في الرواية. فمنذ البداية، في (بيان الأبطال)، وجواباً على ما آلت إليه الحياة في هذا العصر "كمجمع قاذورات وفظاظات شيطانية" يقول سليمان: "فكر في قشرة الموز الأولى". ولئن كان الأبطال جميعاً في بيانهم، وبعضهم من بعد في بعض مواطن الرواية، لن يفتأ يبدي ويعيد في قشرة الموز والورطة الحتمية الأولى التي تذكّر بالوجودية العتيدة، فإن سليمان يظل "بطلاً" مثقفاً آخر، وهو الذي كان قبل الترهب والحرب مشغولاً بإيضاح أفكاره عن (فلسفة الخساسة العالمية) أو ما كان يسميه: (التصفية الفلسفية لارتقاء القذارة). لكنه مضى، أو مضت به الحرب، إلى معتزلـه، ليؤسس رهبانية جديدة مستقلة عن سائر الأديان والمذاهب والكنائس، معاتباً الرب ومعللاً صنيعه بقوله: "في أوطان لا تنتج غير أصناف العلكة الرديئة والزعامات ومحارم التمسيح، كيف يمكن حتى لأرسطو أن يتفلسف؟". ويرسم سليمان بانوراما للراهن العربي والكوني، معبراً بقوة وجلاء عن رؤية الرواية، في قوله: "أنا أرى الكائنات والأشياء كلها قد صارت مجرد نسخ بالفوتوكوبي عن أصول قليلة مخيبة.. العواصم.. البلدان.. النياشين.. المافيات.. الميليشيات.. الزعامات.. السجون.. أمجـاد المهربين.. ابتسامات الجلادين.. تقنين التصفيق.. مدائح الخصيان.. شوارب أشباه الرجال.. بيانات الرفاه.. طرق التنقيب في المزابل.. حنان الخيانة.. العار الذي لا تزيله إلا محارم نينكس.. قبور الحرية.. بطولة اللصوص.. جرائد الأحزاب.. بيانات الحكومات.. المثل العليا والسفلى.. الحريم والحريم المضاد.. أوسمة الجنرالات.. مثلجات التكتيك.. حرائق الاستراتيجية.. سفالات المواعظ.. المسيرات المظفرة حتى الجحيم".
وإذا كان ما تقدم يعني العرب اليوم وأشباههم، فليس الكون كله أحسن حالاً، حيث بات الإيدز موحداً ومجانياً وبالأقمار الصناعية، وحيث باتت الأمراض الخبيثة عميلة، وتخصصت بقتل من بقي في رأسه ذرة عقل، أو في روحه ذرة شرف. وكل ذلك يجعل سليمان يتساءل: "أية فلسفة في الدنيا يمكن أن تبرهن أن الذباب الذي يطن في خطب الرفيق ريغان هو ذاته الذي يغني في برامج القديس غورباتشوف، ويدندن في تراتيل أحبار السلام أو تسابيح ملائكة الحروب التحريرية التي يجب أن تبدأ بالتحرر من المواطنين؟! فظاعة يا..".
تواصل الرواية بثها على لسان الراهب الدكتور سليمان أثناء لقائه بسرحان. فعندما يقرر الأخير أننا من يشعل حرائقنا، ويسأل سليمان عن سبب رغبته في تشغيل الرب عامل إطفاء عندنا، يجيب سليمان: " من الذي خلق النار؟"، ويدفع بسرحان إلى تلك المجدلية من طراز هذا الزمان، والتي لم يؤلف لها أحد بعد أسطورتها: زهرة، إحدى التعبيرات الغامضة عن قوة الحياة. ولأن جمعية (الإصلاح العام للأخلاق والدين والمجتمع) تقتل لوريس (لولو) التي تخدم الراهب وتعيش معه، يحمل سليمان رشاشه، بينما يبلغ الأمر بسرحان أن يقفل جبهته، وينهي ما يقص على بليغ، في إشارة ساخرة أخرى إلى التدخل السوري، وإلى طول ما استبد بالسرد، فيقول: "حكاية مملة؟ احتملتك كل تلك الأيام وأنت لا تحتملني نصف ساعة (..) كم صار مزاجكم رهيفاً، أنتم هناك، أشقاؤنا وراء الحدود". وسيقول فيما بعد في واحدة من غمزاته من السوريين: "أنتم هناك لديكم حشرية غريبة. من تظنون أنه ينصب أحدكم قيماً على أقدار جيرانه، أو على أقدار المخلوقات؟".
إثر ذلك يتولى بليغ أمر الرواية ـ تقريباً ـ فيسرد قصة طفولته ونشأته ومطاردته مع سرحان، ويبدأ الالتباس المتعمد بين سرحان وبليغ والشيطان، كما سيلي مع زهرة وهالة عبر لعبة العجائبي والتقمص.
ومن شطر مما يسرد بليغ لسليمان، ومن شطر مما يسرد لزهرة، ومن أشطار يرويها لنا، تقوم قصة طفولته، وبخاصة بذرة الجنون في أسرته، ووفاة أمه، وتسجيله على اسم الأم الثانية ـ زوجة أبيه التي ستتحفه بالشقيق عادل. ومن الضيعة إلى المدينة البحرية التي لا تسميها الرواية، تغدو بيروت الشيطان الخفي الذي يركض دائماً في دخيلة بليغ، ليس فقط لأن عمال الضيعة الذين يعملون في بيروت، يصفونها كما لو أنها الجنة، بل لأن والده رهن شقيقتيه لدى خواجا بيروتي، فعادت واحدة هاربة وملتاثة، واختفت الأخرى. وسيغدو هذا الاختفاء العقدة – المهماز التي تدفع بليغ في مهاوي بيروت.
أثناء لقاء بليغ وسرحان بزهرة وسليمان، يقطع الأول سرد قصته ليصور حضور رجلين وهالة التي تتلبس بشقيقته المختفية وبزهرة. وفي هذا العبور يأتي حديث الحشيش والقتل، ويقول أحد الرجلين: "بصراحة يا مدام، إذا كنا ننقل الحشيش أو ننصب الحواجز الطيارة، فليس من الضروري أن نصير أثرياء.. المسألة في كل جوانبها عملية وطنية.. نعم..!.. من يستحق الموت يجب أن يموت، ومن يجب إفساده لا بد من إفساده"، فتصيح هالة: "طز في وطنيتكم السافلة من لجان الأخوة وحواجز الخوّة إلى جبهات التحشيش".
تترك هالة والرجلان وسرحان بليغاً، مأخوذاً بزهرة التي اشترت شيطانه، وشيطانه هو تاريخ شخصي وعام، كشيطان الحرب المجنونة. وهنا يضيء السرد في اضطرابه حد (الجنون) شخصية ورمزية زهرة التي درست التاريخ في الجامعة، وتروي حكاية زوجها الشاعر وولديها الذين قتلتهم الحرب، وبعدما خسرت كل شيء فجرت مقر المارينز، وفرت لأن أمريكا تريد رأسها، وقررت أن تنسى كي تعيش. وزهرة ترى بليغاً بطلاً من هذا الزمان، مستعيرة من الشاعر الروسي ليرمانتوف عنوان رواية له، فيما يراها بليغ ساحرة أو كذابة، وينشغل بها عن غبطته (أهو البطرك الماروني؟) وعن الجنرال (أهو عون؟)، ويجزم: "ليست غريبة عني بتاتاً.. لقد عرفتها جيداً في زمن ما.. في
مكان ما..".
يروم بليغ المسلم وزهرة المسيحية الزواج، ويقلبان القول في الزواج والدين، ثم تغيب تاركة لـه أقلاماً وأوراقاً لتتفقد المعابر على "خطوط التماس التي تملأ الأرض كلها". وإذ تعود تحكم باستمرارية الحرب، فلبنان كالعالم، يختنق الآن بالغصص من سفرجلة الكذب. وكما ترسم زهرة الراهن "أنا لبنانية وأنت سوري، وكلانا يغص الآن بالسفرجل الذي استعجلنا في قضمه" ترسم أيضاً المستقبل "سنعيد إنتاج كذبتنا القديمة بكل أدواتها"، وتخاطب بليغاً:
"تعرف حضرتك أي انفجار اجتماعي سينجزه التعمير على الأسس القديمة وكذبة سوا ربينا".
يواصل بليغ فراره: "أريد جهتي" إلى بيروت، حيث يواصل بحثه عن أخته المختفية - عقدته. ويتردى سنوات قبل أن يعود إلى ضيعته، فيدفن أباه، ويحتفي الناس نفاقاً بعودته، ويكون شقيقه قد غدا ضابطاً. وعندما يؤوب إلى بيروت يعمل حارساً لكاباريه (تامارا)، حيث يلتقي ببقية شخصيات الرواية من قمة الهرم ومن القاع الاجتماعي: الصديق القديم صاحب هذه البطاقة: "أبو الشبك وشركاه. قبضايات للإيجار. خدمات سريعة للمنازل. دقة وإتقان. تخفيضات للمشتركين"، وشندور سفير (السعدان) المفوض والسائق الخاص عند قاض كبير، القاضي نفسه وزوجته ميرنا التي تطرز خيطان القضايا الملوثة، ليغسلها الزوج الذي يتهم زوجته بالشيوعية والانحلال، ويمنعها من الإنجاب ولا يطلقها.. وكما ستقوم بين بليغ وميرنا علاقة، ستقوم مع زيزي العاملة في الكاباريه، ومع روز عشيقة الوزير (دال) التي يعمل بليغ سائقاً عندها، ويستدعيه السعدان (أرسين لوبين البيروتي) للعمل معه، ومثله القائد الفلسطيني الشهير (أبو الزعيم)، فيما منطق بليغ يغدو (أنا عليّ أن أعيش)، والأحداث تتلاحق به وبتلك الشخصيات الروائية، فالوزير يتعرض للاغتيال وينجو، لكنه يصير مقعداً، وروز تبيع ممتلكاتها وتسافر، وميرنا تهجر زوجها تاركة لبليغ شيكاً بعشرين ألف دولار، ويُقتل شندور، ويضيع أبو الشبك، والحزب الذي انتمى إليه بليغ يوماً يطلبه الآن، وهكذا ينتهي المطاف بصاحبنا إلى ضيعته: "إن وقت رحيلي قد حان، وإنه يجب عليّ أن أغادر بسرعة هذه الـ "بيروت" الجميلة المضيعة قبل أن يبدأ الجميع بمعاملتي- كل من موقعه- على أنني ممثل سري أو ميداني للردع.. أنا الذي لا مكان لي في أي مكان".
غير أن غربة بليغ في ضيعته ستكون أكبر، فالشقيقة الملتاثة ماتت، والشقيق الضابط لهط ما لشقيقه العائد، و "الأستاذ" يريد بليغاً في ركبه، وسورية تغيرت بسرعة تثير الدوار، وليس أمام بليغ إذن إلا أن يعود إلى بيروت، ليلتقي شقيقته الضائعة وزوجها وولديها في احتفال ختامي يضيق بالبوليسية والميلود درامية.
عبر هذا التخييل (المجنون) لجنون الحرب، ترتسم صورة بيروت، فبليغ يرسمها كواحدة من لوحات فسيفساء الموت المكثف والمتشابه في سائر المدن والعواصم. وإذا كان الرواة منذ البداية سيشككون في أن بليغ هرب البتة إلى لبنان، وقضى فيه نصف عمره مطارداً، وهو الذي لم ير بيروت إلا على الخريطة، فإن بليغ الذي يتظلل به الكاتب، يتساءل: "وهل يجب أن أكون خبيراً في الجغرافيا كي يحق لي أن أتخيل؟"، كما يرد على روز التي تتساءل عن جهله ببيروت: "اتركيني الآن أخترع ما يناسبني، وإن لم تقتنعي بأن "بيروتنا" هي كل بيروت ممكنة في الدنيا، فافصليني من الرواية".
وبمثل هذه الميتا رواية يخاطب الرواة: "سأستمر في خلق ما أحب من تخيلات، وسأرش بعضاً من بهار الحقائق عليه.. وسنرى إلى أين سنصل أخيراً مع هذه الـ "بيروت" التي تطلبون مني اختراعها، والتي لن أجعلها أقل من تلخيص محكم لكل هذا "الشرق الأوسط" أو الأدنى الذي طالما انخدعت بعظمته". فلبنان بحسب بليغ لا يختلف عن أي بلد من بلدان عالم الجنوب، بلدان الفخاخ المصلية لاصطياد الإنسان.
على النحو نفسه، كما على نحو آخر، ترسم الشخصيات الأخرى بيروت، فزهرة تراها مسيرة ما لا تستطيع حسابه من الكمائن والألغام والأعلام والأناشيد والخيبات والشعارات والمؤتمرات والمذابح والمدائح والأوسمة والخطب والأكاذيب والآباء: "يا لطيف، كم صارت بعيدة هذه الـ.. بيروت!!". وزهرة ترى بيروت أيضاً كذبة حرية، بالوناً، واحة، مستنقعاً من وحول الهجانات، مخبأ لصعاليك "ملفلفين بأحجبة الوطنجية وبخور العروبية وبوهيمية التقدم والأنترناسيونالية" ممن عادوا إلى أوطانهم ليكرروا لعبة اضطهادهم. أما الشاعر زوج زهرة فيرسم بيروت طاحونة لا تناسبه، وعاهرة لا يريد أن يثبت رجولته معها، لذلك يعود إلى الضيعة، وحين تعصف الحرب يشبه بيروت بسدوم العاهرة - أين فرح الدوماني في رواية غادة السمان: بيروت 75؟ - التي دمرت نفسها بعدما أنهكتها الملذات، ثم التحق بالحرب قائلاً: "فأنا مثل كل هذه الحرب، بلا قضية".
من مقدمات الحرب – حيث يرى الراهب سليمان أن اليهود لم يكونوا ليبلغوا بيروت لولا أنها مهزومة منذ دهور – إلى لجة الحرب، ترسم الرواية تلك الرسوم (المجنونة) لبيروت ولبنان وسورية والعالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ولعل السخرية الكاوية قد تبدت من خلال العرض المفصل السابق، فالرواية لا تفتأ ترسل سخريتها الهجائية المريرة بالمفارقات والمبالغات وبالتكبير والتصغير، ملاعبةً الشهرزادية - فسرحان يقتل الدجالة شهرزاد مائة مرة كل يوم – والفاوستية - سرحان وبليغ والشيطان –والدنكيشوتية - من القصبة لكل مجنون إلى لوحة دونكيشوت الآن في فيللا سليمان – والصوفية - كان سليمان في أستذة العقل المصنوع فمضى إلى تلمذة الروح الحرة - والتقمص، وصولاً إلى التهجين بالمفردات والصيغ العامية، وبأغاني فيروز والأمثال الشعبية، وإلى توسّل الحوار المسرحي بخاصة، والتناص مع التراث السردي، كما هو الأمر في عنونة أغلب الفصول (الزوابع والتوابع في بدء استراحة اليوم السابع- طوق الحمامة- الفصول والغايات في إعمار العواصم بالقبضايات...)، ومن ذلك كله، ومن سواه، قامت (فردوس الجنون) كعلامة فارقة في كتابة صاحبها، ولعلها قامت، كذلك أيضاً، في المنعطف الروائي العربي الجديد.
مروان طه المدوّر: جنون البقر
لم يكن ينقص روعة ذلك الصباح الدمشقي الصيفي إلا أن تصادف زكريا تامر على ذلك الرصيف. كنا – وليد إخلاصي وأنا - نمضي إلى المعهد الفرنسي، غير مصدقين أن عاقلاً سيأتي إلى ندوة عن الرواية أو سواها، في التاسعة من صباح العطلة الأسبوعية (الجمعة 26/5/2000).
في المساء غافلني وليد وانفرد بزكريا. وفي الصباح التالي نقل لي وصية زكريا بقراءة رواية مروان طه المدوّر (جنون البقر) التي كانت تقبع منذ صدورها عام 1992(9) في رف ما من مكتبتي، ولم أقرأها. لكن قراءتها جعلتني أدرك فداحة التقصير، وبخاصة أنني كنت قد حاولت للتوّ تقصي وتقري التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، عبر مساهمتي في المؤتمر الثاني حول الأدب العربي المعاصر، والمنعقد في الجامعة اللبنانية الأميركية –بيروت، حول الرواية والحرب اللبنانية (2 و 3 من شهر أيار- 2000). ولعل غفلتي عن رواية (جنون البقر) كانت مبعث وصية زكريا تامر الذي نقل وليد إخلاصي عنه أن كاتب الرواية كان موظفاً ومات. وقد تابعت السعي خلف أثر للكاتب المجهول، وسألت عدداً من الكتاب المسنين أو المقيمين في دمشق (ميخائيل عيد- ناديا خوست - غازي أبو عقل- خيري الذهبي- محمد كامل الخطيب..) لكن أحداً منهم لم يكن قد سمع بالكاتب ولا بالرواية، إلى أن أفادني عبد الرحمن الحلبي أنه كان قد قرأ للرجل كتاب (الأرمن عبر التاريخ) الذي صدر في طبعة لبنانية وأخرى سورية، في سبعماية وعشرين صفحة من القطع الكبير. وإثر قراءته للكتاب، زار الحلبي مروان طه المدور في غرفة متهالكة على سطح مبنى يرجح أنه لوزارة التموين، وأقرأه المدور فيما بعد مخطوطة رواية تحفل بالفانتازيا، و (جنون البقر) هي كذلك، وشكا المدور الأبواب المغلقة في وجه مخطوطاته، ثم انقطع تواصلهما، حتى باغت الحلبيَّ سؤالي. وهكذا إذن، ضنّت حياتنا وذاكرتنا الثقافية بمطرح على من ترك بصمته برواية، ليس فقط لإهمال أو تقصير، بل لقلة وفاء أيضاً، كما كان نصيب المرحوم صباح محي الدين (حلب) الذي يكفيه أنه قدم رواية (الغائب) قبل أربعة عقود، وليت الأمر كان وقفاً على هذا أو ذاك، في الرواية وفي سواها، فلندع ذلك عالقاً، ولنمض إلى رواية (جنون البقر).
***
لقد كتب مروان المدوّر في هذه الرواية سيرة الحرب بالتعشيق مع السيرة الشخصية لبطله (رؤوف يمّوت)، فكانت السيرتان السيرة اللبنانية، وبخاصة خلال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي. وكما يليق بالسيرية، تولى السرد رؤوف بضمير المتكلم، ابتداءً بالقبر وانتهاء به، متوجهاً منذ السطر الأول إلى المتلقي بالنداء الذي سيتكرر: (يا سيدي)، وسيغدو أحياناً الخطاب الذي يتكرر (لكم). وبذلك وبسواه (سأحكي لك..- سأحكي لكم..) يبرم الحلف السردي المكين، وهو يلاعب الكتابة والقراءة بالعناصر جميعاً. وقد يكون من الأولى لتبيّن ذلك أن نفكك البناء السردي الذي قام على شبك الحاضر بالماضي من تلك الحفرة – البؤرة التي رمت الحرب فيها رؤوف يمّوت صريعاً، قبل أن ينقل إلى القبر.
هذا الميت يتوسل فعل التذكر، ويسوق الماضي فيما بعده (خواطر وهواجس وكوابيس وأحلاماً وأحلام يقظة) وينثر ذلك بفوضى تكسر الزمن مستبطنة في الآن نفسه نظاماً دقيقاً، فنرى رؤوف يتذكر إصابته للتو، أو شجرة الجميز التي ظللت نشأته وشهدت قراره بمن سيكون، أو رحلته مع سلمى في بوادبست، وسير علاقته بسلمى وفشله الجنسي معها وابتزاز أنيس لـه بسبب هذه العلاقة، أو قتله لأنيس وحلول عامر محله، وعلاقته المثلية بهما... ومن حين إلى آخر ينثر رؤوف اسم شخصية أو بداية حادثة أو نهايتها، ثم يعود إلى ما سبق نثره، ثم يقطعه ليتابع نثرة أخرى أو يبدأ بنثرة جديدة، متنبهاً - منبهاً إلى استطراد الذكريات، ومذكراً بعنواناتها، كأنما يتحوط لتيه القارئ ويحفزه في آن على موالاة اللعب. وبذا تشتبك ذكريات عنف الأب وسكره، وعمل رؤوف كحارس للاعب الدحاحل الأرمني اسكندر، وعمله في بيع أوراق اليانصيب، وإعانته لأسرته، وعشقه لكوثر ثم زواجه منها، وتهريبه للمخدرات إلى الأردن، ووشاية شريكه وصديقه عدنان، والرشوة التي أفرجت عنه، واستيلائه على ثروة كوثر ومصرعها، وإدارته لأعمال سلمى التي ترملت لرجل أعمال في الخليج، وإدخاله لأخوته في المدارس الرفيعة، ونقله لأسرته إلى الفيلا... ومن ذكرى الفلفل الحار المنشط للباه، إلى ذكرى مشاهدة المباريات في دارته وممارسة الجنس الشاذ والجماعي أثناء ذلك، إلى تشغيل اسكندر كوكيل لأعماله، إلى التدرب في نادي الوثبة الرياضي على يد صديق الوالد: خضر، إلى العمل بالصيد في البحر، إلى تجارة الأسلحة قبيل وأثناء الحرب اللبنانية، إلى التجارة بالمياه المعدنية في نيجيريا وتهريب المخدرات داخل حيوانات السيرك إلى عاصمة دولة أميركية لاتينية، إلى الزواج الثاني من نجوى وشكه في أبوته لوحيده غانم، وعلاقة نجوى بعشيقها أدهم واعتقال الإسرائيليين لرؤوف أثناء اجتياح الجنوب اللبناني صيف 1982، وتبرعه بالسلاح للحركة الوطنية اللبنانية، وانتساب ابنه إلى تنظيم ديني ثم مصرعه، وفضائح أخيه مجد في السرقة واللواط ومصرعه..، هكذا تقوم حياة رؤوف، وصولاً إلى ذروتها وقد غدا صاحب شركات متعددة الجنسية، وأقام مستشفيات ومستوصفات ودور عجزة، وأوفد طلاباً للدراسة في الخارج، وأسس جمعية الرقي بشباب لبنان، كل ذلك ليغطي أعماله الأخرى. وكما يليق بهذا النجم الصاعد أسس حزباً، وبات صوتاً مسموعاً في الأزمة – الحرب، وصار وزيراً للعدل ثم للشؤون الاجتماعية، وطمح بالرئاسة، لكن القيود جعلته يكتفي بنائب رئيس مجلس النواب.
بالاشتباك مع ما تقدم، وليس بالتوازي، يسرد رؤوف دقائق الحاضر الذي استغرق ما بين مصرعه وسقوطه في الحفرة إلى دفنه في القبر الجماعي مع الجثث التي نقلتها سيارة البلدية. ويتوسل هذا الميت هنا زوايا الرؤية التي تتقلب مع تقلب جثته جراء رفسة أو انفجار، كما يتوسل المذياع الصغير الذي استقر بجانبه، وظل ملازماً لـه بين انقطاع الإرسال وعودته. هكذا ترى الجثة من يفرغ جيوبها، والجرذ الذي ينهشها، وقَتْلَ قذيفة للفتى الذي كان يحمل المذياع، وتوالي القصف، وتضاجع عصبة من متعاطي الأفيون، ومضاجعة آخر لجثة رؤوف، وسقوط الثلج ودفق المطر، وانتحار حمار من الطابق الرابع، وعبور نعش يتبادل الميت الدور فيه مع الحيّ، وانتفاخَ جثة رؤوف وارتفاعها عن الأرض، ونزع الألغام من الساحة التي غدت نقطة ازدلاف لتجميع الجثث، وانفجار قذيفة بفريق وكالة ماغنوم الأميركية للتصوير الفوتوغرافي، أثناء تصويره للحرب في ساحة جثة رؤوف...
بعد العين والرؤية، تتابع الأذن والسمع سرد الحاضر عبر المذياع. وتبرز الوثيقة من بين مفردات اللعب، عبر أخبار الصراع بين طرفين: القوات اللبنانية وقوات العماد عون. وتشظّي لغةُ الوثيقة الإذاعية رسائل التطمين من حي لحي في المدينة المقسومة على بعضها. ومن لغة برنامج الأبراج وفقرة ظواهر النحس وأسبابه – التدميرية الذاتية أم الخارجية؟ - إلى لغة المقابلة الإذاعية بين اثنين من أبطال طرفي الحرب، أو لغة وصف طبخة الكوسا والرز، أو لغة المسابقة الثقافية بين ذكور وإناث من خريجي الجامعات اللبنانية حول أول قاتل في التاريخ، وحول من قال: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم، وما المقصود؟ من ذلك كله إلى سواه، سوف نرى كيف تتعدد اللغات والأصوات بلغة نداءات نجوى واسكندر لرؤوف المفقود، قبل العثور على جثته، ثم فقدانها في غمرة الجثث التي عبئت في أكياس القمامة وحشرت في القبر الجماعي، بينما يهدر المذيع بنبأ استشهاد المناضل رؤوف يمّوت، رئيس حزب الديمقراطية الجديدة ونائب رئيس الوزراء، بينما تتوالى برقيات التعزية من الرؤساء الهراوي والحص والحسيني وسمير جعجع والبطريرك صفير و... وإلى هؤلاء سمّت الوثيقة كثيرين من المواطنين الفارين من الشرقية إلى الغربية، وكثيرين من الأطفال الذين تفجر بهم الباص، فتبادلت القوات اللبنانية والجنرال عون تهمة الجاني. وكما في هذا الشطر من البناء الروائي، الخاص بالحاضر، عددت الوثيقة واللغة أيضاً في الشطر الخاص بالماضي. وكالوثيقة عددت الأمثال الشعبية اللغة الروائية، مثلها مثل وصف رائحة الطحين أو رائحة المني أو وصف الطعام (السحلب- الفول- الفلافل- كعك التماري..)، أو وصف مباراة كرة القدم بين البرازيل وفرنسا، أو وصف الأثاث والبناء وأفلام السينما والطبيعة وتفسخ الجثث والفعل الجنسي وفعل الدفن ونزع الألغام أو استخدام اللغة الإنكليزية في غير موضع... حتى ليمكن القول إن الوصف جعل من كل قصة فرعية أو فعل روائي صورة، لتبني الصور المشهد، بأسلوبيات متعددة ولغات متعددة، مما جعل (جنون البقر) رواية أصوات بامتياز، على الرغم من أن السارد هو صوت رؤوف وحده، وعلى الرغم من ندرة الحوار بين الشخصيات.
وسط ذلك كله تأتي المصادفة كعقل للعالم الروائي. ورواية (جنون البقر) تستثمر ذلك بالفانتازيا أيما استثمار، فمياه المحيطات تهرب باتجاه السماء، والحرب مثلها مثل الانفجار الكوني، وجثة رؤوف تسابق عضوها لتضاجع تلك الجارة البعيدة، و... حسبنا من ذلك كله تلك اللعبة الأساس: الميت رؤوف يتذكر ويعاين.
ولأنها المصادفة، ولأنها الحرب، يغدو العقل جنوناً، والعالم عبثاً، ويتساءل رؤوف في ملاعبة القارئ بدلالات الرواية عن "معنى هذه الهويات"، ولا يفتأ من البداية إلى النهاية يرمي بالجنون نفسه والبشر والحيوانات والأيام السالفة: مقدمات الحرب، والراهنة: الحرب، فنقرأ: "جنون! نعم! قلت لنفسي: هذا جنون، ثم أردفت أحادث نفسي: وإذا لم يكن هذا هو الجنون بعينه فماذا يكون ذلك الذي سيكون؟". ولعل الكفاية أن تكون في صورة ذلك الحمار الذي ينتحر جراء العبث الذي يلف حياته والحرب التي تمنعه من أن يكون كما يريد: حماراً لـه الحرية فيما يريد، فمع هذا الجنون العاصف جن مدركاً أن الحياة في محيطه مثل كل شيء في الحياة: "ذات جنون". ورواية "جنون البقر" تتقاطع في ذلك مع الجنون الصاخب فيما سبقها (روايات غادة السمان مثلاً) وفيما تلاها (رواية فردوس الجنون لأحمد يوسف داوود مثلاً).
لقد بنى مروان طه المدوّر شخصيات روائية بالغة التعقيد في عالم روائي بالغ التعقيد، ليقوم ذلك الشعور القاسي بالعدم، وذلك السؤال الذي يعقب غبّ رؤوف لكل لذة: ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد الحرب والجنون والبقرية؟ ولئن كانت الحرب قد مضت، ومروان طه المدوّر قد مات، فروايته ستظل تصفع قارئاً بذلك السؤال، وبسواه.
خاتمة:
سوى الروايات السابقة، يبدو صدى الحرب اللبنانية في الرواية في سورية نادراً ومحدوداً، ومنه ما جاء في رواية (الوطن في العينين)(10) لحميدة نعنع، حيث سمت بيروت (عنتاب)، ورسمت صوراً لها مما قبل الحرب، وبخاصة عبر وجود المقاومة الفلسطينية فيها، ثم جعلتها مآب بطلتها (نادية) بعد المقام في باريس، لتخلق ثورتها أو تموت.
ومن ذلك الصدى أيضاً ما جاء في رواية فيصل خرتش (موجز تاريخ الباشا الصغير)(11) حيث ينطلق بطلها الباشا باسم عثمان العايدي متدرعاً في جنونه السوري- في جملة ما يتدرع به - بعلاقته بتاجر السلاح بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية (أبو درويش). ونذكر أخيراً رواية حيدر حيدر (شموس الغجر)(12)، والتي يشكل فضاؤها البيروتي من شخصياتها (بدر الدين النبهاني وابنته راوية وحبيبها الفلسطيني ماجد زهوان) ما يشكل، قبل أن تتوزع بين الفضاء السوري والقبرصي، وارتداد الثوري (الأب بدر الدين) واستشهاد الفلسطيني في عملية انتحارية، وكل ذلك عبر خطاب روائي يضيق بالرطانة الثورية التي ضاقت بها التجربة الروائية العربية، وبما يذكر برطانة الخطاب الذي ضاقت به بخاصة رواية قمر كيلاني: (بستان الكرز).
ولعل للمرء أخيراً أن يلاحظ في التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، حضور المرأة المثقفة، وفاعلية الحب والجنس، وامتياز التجريبي على النمطي، والحداثي على التقليدي، وغلبة النقدية في المعالجة والأطروحة. وإلى ذلك يُلحظ بقوة ما بين توسل الأذن (كوابيس بيروت- الممر- جنون البقر) والعين (باقي الروايات) في وصف الحرب، وإشكالية الحياد بين أطراف الحرب، والانتماء إلى الوطن، وبخاصة في وجه الغزو الإسرائيلي. وهذه الإشكالية ستعبر عن نفسها في الحرص على تعبير (الحرب اللبنانية) مقابل مداولة تعبير (الحرب الأهلية).
وبذلك وبسواه، قد يكون التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، جاء محدوداً، بيد أنه، بما كتبت غادة السمان وأحمد يوسف داوود ومروان طه المدوّر، بخاصة، استطاع أن يقدم للمشهد الروائي العربي، إضافة روائية ثمينة.


 الهوامش:
(1) انظر: تقديم محمد برادة لكتاب: لقاء الرواية المصرية المغربية، الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 1998، ص 4.
(2) انظر كتابنا: الرواية والحرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى 1999.
(3) دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1977. انظر دراستنا لهذه الرواية في: الرواية والحرب، مذكور، وفي: حوارية الواقع والخطاب الروائي، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الثانية 1999.
(4) جريدة السفير 23/4/1977، بيروت.
(5) منشورات غادة السمان، بيروت الطبعة الأولى 1986.
(6) اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 1977.
(7) دار المتنبي، بيروت-باريس 1992.
(8) مذكور.
(9) عن منشورات رياض الريس، ط1، لندن.
(10) دار الآداب، ط1، بيروت 1979، وانظر دراستنا في وعي الذات والعالم، مذكور.
(11) رياض الريس، ط1، لندن 1991، وانظر دراستنا لها في: الرواية العربية رسوم وقراءات، مذكور.
(12) مذكور.

تيتوف بارة 18-10-07 12:56 PM

الفصل الثامن:
نحن والآخر في الخطاب الروائي:
سويسرا أنموذجاً


مقدمة
اقترنت سيرورة الرواية العربية منذ البداية بالاشتغال على ما سميته منذ عام 1985 بوعي الذات والعالم(1)، أي – بحسب كثيرين- وعي النحن والآخر. وإذا كانت الرحلة والسيرة هما الحامل الأكبر لتلك السيرورة، فالعلامة الكبرى كانت ولا زالت كما شخصها للتو معجب الزهراني: غياب أو ضعف الخطاب الحواري الروائي، والمتصل بهشاشة وهامشية الفكر الحواري في ثقافتنا، هذا الفكر الذي يجمله الزهراني بأشكال وعيٍ يوجه الأفراد أو الجماعات لمعاينة الاختلافات فيما بينهم، أو بينهم وبين الآخر، من منظور إيجابي يساعد على التفاعل(2).
ولقد شخّصتُ في تلك السيرورة الروائية، حتى منتصف العقد الثامن من القرن الماضي، تنوع الآخر الذي ظل لعقود فرنسياً أو إنكليزياً، فبات يشتمل على ما كان يعرف بالغرب الاشتراكي (روايات صنع الله إبراهيم: نجمة أغسطس، حنا مينة: الربيع والخريف، سميح القاسم: إلى الجحيم أيها الليلك- مثلاً) أو حلقات أخرى في السلسلة الأوروبية كألمانيا (رواية محمد عيد: المتميز) وسويسرا (رواية عبد الحكيم قاسم: محاولة للخروج). كما شخصتُ الفضاء الروائيَ الجديدَ لإشكالية وعي الذات والعالم، أي اللقاء في مركز النحن، كما في رواية عبد الحكيم قاسم المذكورة، ورواية سليمان فياض: (أصوات). ومن المهم في هذا السياق أن بطل الرحلة أو صاحب السيرة صار بخاصة المثقف المهمش في وطنه، أو المنفي إلى أوطان الآخر، وأن الكاتبة دخلت على الخط (سميرة المانع- حميدة نعنع).
وفيما تابعتُ من بعد، أخذ تنوعُ الآخر يتواتر ما بين أمريكا (رواية طائر الحوم لحليم بركات مثلاً) والصين (رواية المغامرة الأخيرة لحنا مينة)، كما توطدَ انتسابُ هذه السيرورة الروائية للتجربة الحداثية الروائية العربية، بعجرها وبجرها.
على ضوء ما تقدم، وفي غمرة الصخب المتعلق بحوار الحضارات وصراعها، ستنظر هذه المحاولة في النصوص الروائية التالية التي تتعلق بالآخر الأوروبي المتميز في الأنموذج السويسري(3).
1.بهاء طاهر: الحب في المنفى
تكتفي رواية بهاء طاهر (الحب في المنفى)(4) من تعيين فضائها بما يؤكد أنه بقعة أوروبية. وعلى المرء أن يعول على سيرة الكاتب الذي أقام في جنيف طويلاً، وعلى تأويل ملامح مدينة (ن) التي ترسمها الرواية، ليصح القول بالفضاء السويسري، مع التشديد على أن لا علّة بادية لذلك إلا أن تكون تقية استدعتها السيرية.
وكما يليق بالرواية السيرية، تتمحور (الحب في المنفى) حول راويها بضمير المتكلم، وهو المصري المسنّ الذي يراسل صحفية مصرية، بعدما طردته القاهرة إلى الغربة في (الشمال)، أي: الغرب.
وتبدأ الرواية بالمؤتمر الصحفي الذي تعقده لجنة الأطباء الدولية لحقوق الإنسان حول انتهاكات حقوق الإنسان في شيلي، حيث نتعرف على الشخصيات الأساسية في الرواية: الدكتور مولر الذي تهمه مدينة (ن) لأنها ملتقى دولي، والذي شارك مع الجمهوريين في الحرب الإسبانية، وبريجيت شيفر المترجمة (عن الإسبانية) النمساوية الشابة، والتي كان الدكتور مولر صديق والدها وعشيق أمها، والصحفي المصري الماركسي الحالم المبعد إلى بيروت والقادم منها إلى المؤتمر: إبراهيم المحلاوي، والصحفي السويسري، المناصر للقضية العربية: برنار.
حمل المحلاوي إلى المؤتمر ملفاً عن خطف إسرائيل – بمساعدة جيش سعد حداد- لفلسطينيين ولبنانيين، وتعذيبهم واختفاء بعضهم. والمحلاوي يرى أن أوروبا هي – رغم كل شيء - الأمل، ولا يعني بذلك العلم أو الحضارة، بل الإنسانية. كما يرى المحلاوي مكتب الحزب الشيوعي أوروبا الحقيقية. ومثل صديقه (بطل الرواية) يقع في حب بريجيت، لكن جسده يعجز عنها، وسنراها تحب بطل الرواية الذي لا يرى فرقاً بين يمين ويسار في هذه المدينة - البلاد، كما يرى أن الناس فيها لا يحبون الأجانب ولا يختلطون بهم.
إلى السيرية، تقوم هذه الرواية أيضاً على الوثائقي. فشهادة التشيلي بيدرو إيبانيز (ضحية التعذيب) في المؤتمر الذي تبتدئ به الرواية، هي وقائع بتصرف، وإن يكن اسم بيدرو وشقيقه فريدي حقيقين، كما سيوضح بهاء طاهر في ذيل الرواية. وشهادة الممرضة النرويجية عن مخيم عين الحلوة هي مزيج من أقوال منشورة لها، ومن حوار معها. أما المقال المنسوب للشخصية الروائية برنار فهو وثيقة، بالإضافة إلى شهادة الأمريكي اليهودي الصحفي رالف، الذي كان أول من دخل مخيم صبرا بعد المجزرة.
غير أن التخييلي عجن السيري بالوثائقي، لتقوم رواية (الحب في المنفى) على إيقاع حرب 1982 في لبنان، معرية الذات الفردية والجماعية في وطن الآخر وفي حضوره، وليس كما رأينا في رواية غادة السمان (ليلة المليار): في غيابه. وتأتي تلك التعرية – من جهة أولى - باستعادة الماضي الناصري والساداتي للراوي وللمحلاوي، وبعلاقة الراوي بزوجته الصحفية منار، وبابنه الذي تأخذه الأسلمة إليها، ومن جهة ثانية، تأتي التعرية في حب إبراهيم والراوي لبريجيت، وعبر شخصيتي يوسف والأمير حامد بن.. واللتين تستدعيان رواية (ليلة المليار)، حيث يبدو أن المرجعية تصل بينها وبين رواية (الحب في المنفى). فمقابل مشروع رغيد في مجلة تدجّن المثقفين، ها هو الأمير حامد بن.. – مثل الشيخ صقر في رواية السمّان- يحاول استقطاب الراوي ليصدر جريدة لصفوة الأقلام القومية التقدمية. وتكفي إشارة الأمير إلى موقف بلاده من زيارة الأضرحة (تحريمها الوهابي) ليدرك المرء أن الأمير سعودي.
أما سبيل الأمير إلى استقطاب الراوي فهو يوسف الشاب المصري المتزوج من الخمسينية إيلين. وبينما ينجز يوسف تردده ويلتحق بركب الأمير، فإن الراوي يرفض الشيك السخي، ويدفعه حدسه إلى التحري عن الأمير، فيعلم بما بين ذلك الشقيق الأصغر للحاكم، والمتعلم، وبين المليونير اليهودي اسحاق دافيديان، والذي هاجر من مصر بعد حرب 1956، وحمل جنسية البلد الأوروبي المعنيّ (سويسرا) وبات أكبر تاجر للخيول العربية في أوروبا. أما شريك هذا الذي تبرع بمئة ألف دولار للجيش الإسرائيلي بعد حرب لبنان، فهو الأمير الذي يرى نفسه أولى بولاية العهد في بلاده، و يريد الصحيفة العتيدة لتكون سلاحه في محاربة ذلك المنافس.
بالتوازي مع علاقة الحب بين بريجيت والراوي يأتي ما تقدم بينه وبين الأمير الذي يجدد محاولة الاستقطاب عن طريق بريجيت، بالترغيب وبالابتزاز، إذ سيبلغ الأمر به حد فرض طردها من العمل على رب عملها، فتغادر إلى بلدها (النمسا) في نهاية الرواية، ولكن بعد أن تشارك في المظاهرة التي ينظمها الراوي وآخرون ضد جرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، وهي المظاهرة التي يحاول يوسف تخريبها، بينما يقود برنار في جريدته (التقدم) حملة على انتهاك إسرائيل لقوانين الحرب الدولية، ويخطب رالف في المظاهرة.
بالمقارنة بين رواية (الحب في المنفى) ورواية (ليلة المليار) سيبدو بجلاء لعب كل منهما بالمادة الخام: الأمير والمجلة والمظاهرة... كما سيبدو حضور الآخر في رواية بهاء طاهر، وفعل حرب 1982 فيه، مقابل غيابه عن رواية غادة السمان، واكتفائها بفعل تلك الحرب في (النحن). وعلى الرغم مما تعري رواية بهاء طاهر في الآخر من العنصرية ومن الصهينة، فإنها ترسم بحساسية بالغة الوجه الإنساني لذلك الآخر، والذي تتوجه رغبة بريجيت بطفل من الراوي "نعلمه الحب قبل كل شيء، وسينجو بالحب مثلما نجونا".
2-عائدة الخالدي: وقد يأتي الربيع خريفاً(5):
كما هو الأمر مع بهاء طاهر في روايته (الحب في المنفى)، يبدو مع عائدة الخالدي في روايتها "وقد يأتي الربيع خريفاً" إذ تكتفي بتعيين فضائها بما يؤكد أنه بقعة أوروبية، وبإشارة إلى أن الراوية – البطلة قد تسلقت الجبال المكللة بالثلج في سويسرا ذات مرة. وعلى المرء أن يعول على سيرة الكاتبة التي أقامت في سويسرا عشرين عاماً – كبطلتها كارمن - وعلى السيرية في الرواية، كي يصح القول بالفضاء السويسري، مع التشديد على أن لا علة بادية لذلك إلا أن تكون تقية استدعتها السيرية.
تكاد (وقد يأتي الربيع خريفاً) أن تكون مونولوجاً طويلاً تبثه كارمن السورية للطبيب السوري الذي أحبته، وعبر المونولوج تسرد قصة حياتها، وفي الصلب قصة ذلك الحب. وتبدأ الرواية بسفر كارمن إلى ذلك (البلد) مصطحبة كتاباً لأحلام مستغانمي، يصدمها فيه أن مستغانمي تتحدث بلسان – ضمير رجل، لا امرأة. وكما ستلعب كارمن بضمير المتكلم والمخاطب والغائب، تخاطب حبيبها منذ هذه البداية: "هل أخاطبك بضمير المخاطب أم بضمير الغائب؟ فأنت دائماً غائب عندما تكون حاضراً، وحاضر عندما تكون غائباً". وفي هذه البداية ترمي كارمن بـ (خطة) روايتها مستلهمة قول أحلام مستغانمي: "إن امرأة تكتب هي امرأة فوق كل الشبهات"، فتعلن أنها ستروي التفاصيل دون رابط زمني، بل وستضيف إليها ما لا يزال في رحم الغيب.
هاربة من حبها الأول، تزوجت كارمن من السويسري بيتر، بعدما التقيا في لندن. وكان بيتر غريباً عن عالم الجنس والمادة والمخدرات "مأسوراً بروح الشرق الذي درسه وأحبه"، وأفكاره تتعارض مع أفكار والديه، لذلك أدار ظهره لشركة العائلة التي يديرها أخواه، وأقنع كارمن بالرحيل صوب بلاد الشرق. وإذا كانت كارمن قد غبطت نفسها على الزواج من أجنبي لا يريد إثبات فحولته ليلة الدخلة، كأغلب الشرقيين، فقد ظلت بعد سبع سنوات من زواجها نصف عذراء. وسرعان ما اكتشف بيتر أن زواجه لا يمنحه حق الاستمرار في البلد الذي أحبه: سورية، كما اكتشفت كارمن أنها تصبح (شيئاً) إن تزوجت سوريّاً، و (لا شيء) إن تزوجت أجنبياً. وهكذا أقام الزوجان في سويسرا "تسعة عشر عاماً من حرب باردة مستمرة" مع والدي بيتر اللذين لم يريا في كارمن سوى امرأة غريبة.
بعد سبع سنوات من الزواج، وخمس من المعالجة تنجب كارمن، وقد حيرت علتها الطبيب، فلم يشخصها إلا بـ "عدم انسجام فيزيولوجي". لكن علة نادرة ومبهمة أكبر، ستبتلى بها ابنتهما ليلى، لكأن اللقاء المرموز لـه بالحب والزواج والإنجاب بين كارمن وبيتر، محكوم عليه بالاعتلال الذي ليس إلا تعبيراً عن الاستحالة، وهذا ما سيتأثث فيما تروي كارمن من حياتها مع بيتر، في متاعبه دوماً مع أمه التي يراها أفعى تنفث السم، ولا يفتأ يشكو والديه وكارمن تمل من الإنصات. والزوجان في سفر متواصل، وبيتر لا يريدها حبيبة، بل رفيقة سفر، ولا يريد الإنجاب، ولا يفتقدها في غيابها كما يفتقد رجل امرأة. وإذ يأويان إلى النوم، يتبادلان قبلة ثم يدير كل منهما ظهره للآخر، وهي تحاول ترويض جسدها، فبيتر ليس كازانوفا "يحترمك ولا يكبلكِ" لكنها تشعر بالاشمئزاز من نشوة لا يمكنه بلوغه معها، فيجرح أنوثتها، وبعد هذا كله يأتي الطبيب السوري الذي تعشقه ويعشقها.
هذا المعشوق المطلّق الذي يتابع حالة ابنة كارمن قبل إعادتها إلى سويسرا، سرعان ما يدير ظهره للعاشقة التي لا تفتأ تلاحقه وهو يتهرب.
ولأنها نشأت على الصدق، تصارح بيتر بعشقها منذ البداية، فيحضها على أن تذهب إلى من عشقت وتتأكد من عواطفها، وشرطه الوحيد "أن نبقى أصدقاء".
ترى كارمن أن بيتر يتنازل عنها بكل سهولة: "منتهى النبل أو منتهى النذالة؟". وعندما تحدث حبيبها عن زوجها الذي يحكم "هكذا هم هؤلاء الأجانب"، يحيرها أنه يمتدح بيتر وبيتر يمتدحه، ويفجعها تهرّب الحبيب: "حصلت علي وانتهت لعبة المطاردة.. لعبة شرقية سخيفة لم أستطع أن أفهمها ولا أريد أن ألعبها". أما العاشق فيعلل موقفه "أنا لم أشأ سوى صداقة.. صداقة فقط.. إن النساء العربيات فعلاً معقدات".
ترغب كارمن ببعض غيرة من بيتر. والرجولة بحسبانها موقف تفتقده في بيتر، أما المساواة فموضوع آخر. وهكذا ترى نفسها قد هربت من الشرق إلى الغرب، ثم من الغرب إلى الشرق، فلم تجد ما كانت تبحث عنه. وستتتوج الرواية برضوخ بيتر لوالديه، واقتراحه الطلاق وبقاء ليلى معه في سويسرا لمتابعة علاجها. وكانت الطبيبة النفسية في مركز معالجة ليلى قد شخصت في والدي بيتر أنموذجاً مثالياً للوالدين المتسلطين، كما شخصت فيه أنموذجاً مثالياً للابن الواقع تحت تأثير سلطة والديه.
عبر المونولوج الطويل – الرواية- الذي تسرد فيه كارمن ذكريات نشأتها وأسرتها وزواجها وعشقها وعلاج ابنتها، ترسل قولها في الآخر، سواء عبر علاقتها مع بيتر أم مع سواه. فذلك البلد الذي صارت مواطنة فيه منذ عشرين سنة، وإن يكن غربة، أحبت فيه النظام والتزام الناس بالعمل والمواعيد وسهر الدولة على راحة مواطنيها واحترامها لهم. لكنها كرهت هناك برودة العواطف وتعجرف الناس وضيق أفقهم أحياناً، وملت من أسئلتهم التقليدية: "المرأة والحجاب، المرأة والرجل، الإسلام ومحرماته.. إسرائيل المسكينة والعرب المتربصون بها". وقد تنبق مفاخرة كارمن للآخر، فالمسواك فرشاة أسنان أجدادنا أيام كان أجدادهم لم يكتشفوا الفرشاة بعد. وإزاء هذا الحب للآخر وهذا الانتقاد، لا تفتأ كارمن ترسل ما يشخصها متميزة. فالخيانة بالنسبة لها ليس في أن تكون للرجل صديقة، بل أن يكذب على شريكة حياته. وهي تخاطب حبيبها "لم تتعود – أيها الشرقي- على امرأة مثلي تعتبر الكذب أكبر الخطايا". وعلى لسان إحدى شخصيات الرواية ترتسم كارمن: امرأة شرقية "فريدة من نوعها، فهدفك في الحياة ليس أن تتزوجي وحسب وتصبحي مجرد زوجة فلان، بل أن تكوني وتبقي أنت أنت". وكارمن نفسها تخاطب شخصية أخرى في الرواية: "غريب أمر الرجل الشرقي.. إنه معظم الأحيان، حتى وإن كان مثقفاً، يخاف من المرأة المثقفة التي تحاوره وتناقشه.. يحترمها لكنه لا يريدها لأنها تسبب لـه أو يتوهم أنها تسبب لـه صداعاً، ولذا يفضل عليها أية امرأة أخرى.. امرأة لعوب تجامله وتحذره ولو كانت تسخر منه.. أو يريدها امرأة (خام) يشكلها كيفما يشاء".
ومع الحبيب، وبخاصة بعدما يقترح عليها الأخوّة بدلاً من الحب، نرى العاشقة تميز بين حب الرجل وحب المرأة: "إنها تحب بقلبها، والرجل يحب بشهوته، فحبها باق، وحبه متحول"، ولذلك، ورغم أنها متزوجة، ترمي بالسؤال الاستنكاري: لماذا نتزوج؟.
لقد قدمت رواية (وقد يأتي الربيع خريفاً) شخصية روائية نسائية متميزة بحق، رغم لفعة النرجسية المتبدية آنفاً. ويتحدد هذا التميز في العشق وفي المؤسسة الزوجية وفي الأمومة التي تواجه اعتلال ليلى. وثمة في الرواية شخصية سناء التي تعبت من الحب وتتوق للاستقرار، وهي في الخامسة والثلاثين، والتي تكتشف ما بين الطبيب وكارمن كما تكتشف كارمن مشروع زواج الطبيب لها، ومع ذلك تظل على تعلقها به وتتمتن علاقتها بتلك التي تحبه: سناء. وهذه الشخصية مثل كثيرات من شخصيات الرواية من سويسرا أو إيطاليا أو سورية، تنطوي على عناصر ثرة للتميز، لكنها تبدو مجهضة بفعل الكتابة العابرة عنها، و/ أو بفعل تدافرها كتدافر الأحداث الثانوية المشتتة والمشتتة (بالكسر فالفتح)، وهو ما نال من شخصية كارمن نفسها، ومن شخصية بيتر والطبيب العاشق – الشخصيات الرئيسية - مما ساعدت عليه سذاجة لعبة الزمن الذي تنظمه الفصول والأيام مرقمة أو مسماة، بدون السنة دوماً. أما الوطأة الكبرى التي تشكو منها هذه الرواية فهي الأخطاء الإملائية والنحوية التي لا تكاد تخلو منها صفحة. وبرغم ذلك كله يظل للرواية ما تُدِلّ به، مما جسدته كارمن من صورة الآخر ووعيه، ومن صورة الذات ووعيها، وما تطرحه من اعتلال العلاقة – استحالتها - سواء في الزواج من بيتر أو في مرض ليلى.
3-سليم مطر: امرأة القارورة:
على إيقاع حربين أخريين هما حرب الخليج الأولى والثانية، يأتي
اللقاء بالآخر السويسري في موطنه، على يد سليم مطر في روايتيه (امرأة القارورة)(6) و (التوأم المفقود)(7) الأشبه بثنائية، تتصل أولاهما بهرب الراوي عام 1988 من الحرب العراقية الإيرانية (1980) إلى أوروبا التي صارت "مخلصي المنتظر وأرضي الموعودة، حتى عذاباتها كنت أراها مختلفة عن عذابات الشرق".
يزدوج الراوي في الروايتين، فهو في (امرأة القارورة) أيضاً (آدم). وهذا الثنائي المعبر عن الثنائية المعهودة (الفكر والشهوة) يبلغ جنيف عام 1981 – من منهما إذن قضى سبع سنوات يحاول الفرار؟ - حيث يتزوج آدم من مارلين، منجذباً إلى حنان الأم فيها، وإلى ما فيها من ملامح حبيبة المراهقة (إيمان) السجينة في العراق. ومثل أصنائه في الرواية العربية الحضارية، تستغرب السويسريات تأثيره الخفي فيهن، وهو المتصوف الثوري، لكن أوربا تمانع صاحبنا الجنس حتى يلتقي مارلين التي سيخونها مع هاجر بعدما تطلع من القارورة.
في أوربا حلت مارلين بالنسبة لصاحبنا محل الحزب، وحل الحاسوب محل القضية "وما فتئ يداوي آلام حاضره في جنيف بآلام أفظع من ذكرى الوطن". ومع اطراد الحرب يغرق الراوي وآدم - الاثنان واحد - في الحاسوب والعربدة حتى يتوحدا مع ظهور امرأة القارورة، حيث تشرع الرواية في قراءتها للتاريخ والأسطورة والدين، وصولاً إلى حفل الخلاص في جنيف. ولكن أية نهاية هذه وليس لهاجر إقامة شرعية، ولا ينفع المحامي في تدبير لجوء سياسي لها؟
عبر ذلك ستكون مارلين قد حملت. وفي النهاية يشرب الراوي وآدم ومارلين نخب الوليد القادم، نخب الشرق والغرب في هذا الذي يدعون لـه وهو يطفو مع قارورته فوق الماء: "فليغمرك سلام أبدي". إلا أن الحكومة السويسرية مصرة على ترحيل هاجر، لأن الحرب ليست سبباً كافياً لمنحها حق اللجوء، وبخاصة أنها امرأة، وأن سويسرا مكتظة بالأجانب. والحكومة متيقنة من أن هاجر لن تضطهد في بلادها، ولن تجدي وساطة الصليب الأحمر ولا سواه، فهل كان موقف الآخر هذا ما جعل آدم لا يأبه بمارلين ولا بحاسوبه ولا بعمله، بل يعود – كالراوي - إلى حيوانيته، من حانة إلى حانة، ويصير لـه ذيل، والجمهور السويسري الثمل يتفرج عليه، وهو يشكو لإلهه وحدته؟
لقد تحول آدم أخيراً إلى ثور حقيقي في القاعة، والمرأة أمامه، تطعنه بالسيف، ويعثر عليه الراوي صريعاً في شارع كاروج.
4-سليم مطر: التوأم المفقود:
ها هنا تقف (امرأة القارورة)، لتبدأ بعدها (التوأم المفقود) ماضيةً إلى العرفانية بصريح الدعوة.
لقد تسمى الراوي هنا بـ (غريب) وستدفعه إلى شوارع جنيف استغاثة توأمه ليلة اندلاع حرب الخليج الثانية، فإذا بالشوارع تفجؤه بصخبها بكلمات الحرب- العراق- الكويت- أمريكا)، وإذا بالكون كله يرجّع استغاثة التوأم العراق.
وغريب هارب من الحرب العراقية الإيرانية، وحامل للجنسية السويسرية، ومتزوج من مارلين، وقد ظل حتى صرخة توأمه يتحاشى أية صلة مع أي من العراقيين أو العرب المنفيين، وديدنه هجاء النحن (شرق الكوابيس- بلادي اللعينة) وهجاء الآخر. فهذا الموظف في مكتبة متحف التاريخ، والذي تعلم الفرنسية وبدل جلده – ما عدا الاسم - جعله تصديقه الطفولي لأحلام الحداثة يتقبل مظالم جنيف. وأدرك بعد سنوات أن الحضارة ليست جنة الخلد. وهو يشخص في الآخر سلوكه الاستعلائي الانعزالي الذي يحصر الأجنبي بين الهرب أو الرضوخ للتدجين اليومي "إنها بحق ماكينة جهنمية جبارة من الانمساح المؤدب والمغلف بورق الألمونيوم الملطخ بشعارات الحب والشفقة والتضامن".
لقد انبثقت لغريب من بحيرة جنيف التي تبدع الرواية في وصفها، تلك الحورية الغامضة، حاملة القارورة. ولئن كان ذلك وسواه يستدعي رواية سليم مطر السابقة، فإن غريب في هذه الرواية – بخلاف آدم في الرواية السابقة - حاقد على أوروبا منذ المراهقة، لأن الحبيبة إيمان تمضي إليها مع ذويها الأثرياء كل صيف. وبعد عودة غريب إلى بغداد ملبياً نداء توأمه، يودع في قصر عبد القادر الذي تحول إلى سجن، فتدوي صرخته الأولى: "لماذا هكذا يا أوروبا تتعاضدين مع أعدائي وتخطفين مع أعدائي مني معبودتي؟ لتذهب إلى الجحيم باريسك ولندنك وجنيفك".
في الفصل الأخير من الرواية (الهبوط) يطرد غريب من بغداد، ويحط في مطار جنيف، فيتحول الحاجز في المطار إلى جبهة حرب عابثة، وتسعر أجهزة الإنذار والكلاب والحراس، لكن غريب لا يحمل ممنوعات، وهي بالتالي حالة عجيبة يفترض لها الأستاذ الأمريكي أن هذا العراقي القادم من الحرب، هذا الشرق أوسطي، جسمه ملوث ومشبع بذرات مجهولة تبعث إشعاعات تؤثر على حساسية الكلاب والآلات.
يأخذ السويسريون بالفرضية الأمريكية التي تنصح بقبول الحالة العجيبة لدرسها. وتحضر منظمة إنسانية لرعاية طالبي اللجوء، فينفجر بكاء غريب أمام المرأة – الكائن الأسطوري من الأنوثة والأمومة. وتكتشف المرأة كم ظلت تشتهي في أعماقها من الرجل فحولة الجسد وأنوثة الروح. ومع هذا الهارب من جهنم الشرق تستعيد المرأة المطلقة حياتها، وتشكو الصمت واللا جدوى والخيبة، بينما يشكو غريب الفقر والحرب والتشرد، ويعاد إثر هذا اللقاء بغريب إلى الحاجز، فإذا بكل شيء طبيعي، ويضحك مع المرأة، فيغمر الضحك العالم، ويعود إلى مارلين التي تلد في المستشفى، فيهتف للوليد: "أهلاً بك يا توأمي الحبيب".
5-غازي القصيبي: العصفورية
فيما تستأثر أمريكا بحضور الآخر في رواية غازي القصيبي (العصفورية)(8)، يبقى لسويسرا نصيب. فراوي الرواية وبطلها البروفيسور بشار الغول، وفي بعض تقلبات حياته التي لا حد فيها لواقع أو لخيال، ولا لجد أو هزل، يمضي إلى زيوريخ سعياً خلف وكالة سكاكين الجيش السويسري، ويلتقي الكولونيل موفنجيك وزير العلاقات العامة في الجيش الفيدرالي السويسري متمنطقاً بسكين. ويخيب سعي البروفيسور لأن القانون السويسري يحرم على الأجانب ممارسة التجارة، كما يشرح الكولونيل، فيعقب البورفيسور: "ما هذا بكرم ضيافة" فيضيف الكولونيل: "ويحرم القانون السويسري على الأجانب تملّك مربط عنز في جنيف وضواحيها، ويحرم عليهم شراء مصانع الساعات. ويحرم عليهم الإقامة في البلاد أكثر من ثلث ساعة. ويحرم عليهم رمي قشور الفصفص(...) ويحرم اصطحاب المربيات الشرقصيات إلى منتجعات التزلج". والشرقصيات هن القادمات من الشرق الأقصى، واللواتي راج استخدامهن في دول الخليج العربي.
على ذلك يعقب البروفيسور متسائلاً: "ألا يحرم القانون على الأجانب وضع مصاريهم في بنوككم؟". ولأن الكولونيل ضحك ولم يجب، تابع البروفيسور: "لو علم الله فيكم خيراً يا أهل سويسراء ما حرمكم المنافذ البحرية، ولا جعل حرس البابا منكم، ولا ابتلاكم بالحياد السلبي، ولا بلبل ألسنتكم بعدة لغات رسمية، ولا جعلكم من سكنة الكانتونات، ولا جعل رزقكم في أبرد ما عندكم". وفي مقام آخر من الرواية سنرى البروفيسور في مصحة جنيف القائمة قرب جنيف، والتي تقدم خدمات تجميلية وعلاجية من كل نوع "أغرب مصحة في العالم، وأغلى مصحة" والكلفة اليومية تبلغ عشرة آلاف دولار.
هنا، وحيث يُعطى التقرير للزبون بالاسم الذي يفضل، يلتقي البروفيسور بالدكتور مونتيسيكيه: "سويسري بوذي مجنون خالص يؤمن بالتنويم المغناطيسي وتناسخ الأرواح. كان ينومني مغناطيسياً كل يوم، ويرسلني في رحلة عبر القرون بحثاً عن تناسخاتي السابقة، حتى كاد يصيبني بالجنون".
ولم ينقذ البروفيسور من مونتيسيكيه فيما يروي سوى شيرلي ماكلين التي كانت تُعالج من عضة في المكسيك أثناء بحثها عن تناسخاتها السابقة، فمصحة جنيف وحدها في العالم تعالج عضات الوطاويط مصاصة الدماء. وقد عوفي مونتيسيكيه، وركَّب عقاراً لمنع الملل، عندما انتهى البروفيسور من تناسخاته السابقة.
وفي المصحة التقى البروفيسور أيضاً بالدكتاتور صلاح الدين المنصور مع معشوقته المثقفة (ضمائر)، ورأى إليزابيت تايلور تُعالج من إدمان الكحول والأزواج والمخدرات والعمليات التجميلية، ورأى مايكل جاكسون، والأهم أنه رأى الجنرال موشيه بن غرودين عادياء – رئيس الموساد سابقاً – الذي يعمل مستشاراً لمصحة علاجية، وصديق ديكتاتور عربستان 48 وديكتاتور
عربستان 49.
بعد خروجه من المصحة، وعلى شاطئ بحر جنيف، يلتقي البروفيسور أيضاً بفضيلة الدكتور ضياء المهتدي، مشروع الديكتاتور الإسلامي القادم، والذي يعمل في سويسرا، ويشرف على الجهاد، ويبشر البروفيسور بالنصر القريب. لكن البروفيسور يخشى اعتقال السلطات السويسرية بتهمة النقاش العلني، ويلتقي مجدداً برئيس الموساد السابق الذي يسعده مشروع الديكتاتور الإسلامي، فما يخشاه فقط في أي عربستان هو الديمقراطية.
عبر ذلك سيقول البروفيسور "بغضاءٌ أهل سويسرا وثقلاء" وسيتساءل: "هل رأيت في حياتك كلها سويسرياً دمه خفيف؟". وهكذا، بالسخرية الهاتكة والنقدية الجارحة للذات وللآخر، وبجنون المخيلة واللغة والسرد، مما تقوم به رواية (العصفورية)، ترتسم صورة الآخر السويسري في موطنه، متقاطعةً مع الكثير من صورته (الجدية) في الروايات التي رأيناها من قبل.
6-جميل عطية إبراهيم: 1981
رواية جميل عطية إبراهيم (1981)(9) هي الجزء الأخير من ثلاثيته التي تعنون جزؤها الأول بـ (1952) وجزؤها الثاني بـ (1954). وجنيف هي فضاء الجزء الثالث – حيث أقام الكاتب ردحاً مثل بهاء طاهر- ومقام المستشار كرامة سرحان السقا مع زوجته الأميرة جويدان وابنتهما أبسنت.
يعمل كرامة في البعثة الديبلوماسية المصرية. وستبني الرواية المزاوجة بين ذكرياته المصرية والحاضر السويسري، مثله في ذلك مثل خال عباس أبو حميدة، الشيوعي الذي فرّ إلى براغ وأقام فيها، ومثل شخصيات الرواية الأخرى، بدرجة أقل فأقل.
من عزبة عويس انطلق الفلاح كرامة، وعشق زهية الغجرية - أو زهية عاملة الترحيلة أو زهية الفاجرة.. – وتزوج منها وحملت منه، لكنهما افترقا عندما أصرّ على إجهاضها. ومنذ فتح عبد الناصر أبواب (الخارجية) لأبناء الفلاحين، التحق كرامة بالديبلوماسية، إلى أن بات في عهد السادات – وكانت جنيف قد صارت مقامه - يبرم الصفقات البترولية السرية مع الإسرائيليين، من خلف ظهر السفارة، رافضاً العمولة.
أما زهية فستتابع دراستها مع ابنها من كرامة الذي سمته محمد نجيب، بعدما تبنتها وابنها الشيوعية أوديت التي ستقضي في المعتقل، تاركةً مذكراتها عن الحركة الشيوعية المصرية التي يحملها إلى جنيف والدها أحمد السيد باشا، ليعهد بنشرها إلى رفيقها خال عباس الذي يشارك في جنيف في مؤتمر عمالي دولي. وقد تزوج الباشا من زهية وربّى ابنها، وهو كما سينجلي في نهاية الرواية على علم بسرّ زهية وكرامة.

بعد ثلاثين سنة من الانقطاع، وبحضور زهية إلى جنيف لإجراء فحوصات طبية، مع زوجها الباشا وابنها، تلتقي بكرامة الذي يعد هذا اللقاء في جنيف الجحيم بعينه. وفيما ترصد الرواية تعقيدات لقاء الزوجين السابقين، ولقاء الأب بابنه الذي يجهل أباه، تشتبك في الفضاء السويسري خطوط الرواية الأخرى من ترتيبات التحكيم حول طابا، إلى متابعة كرامة لدورة من المفاوضات حول نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، إلى عمل الأميرة جلبهار مترجمة في مباحثات نزع السلاح بين السوفيات والأمريكان، إلى مصرع ديبلوماسي سعودي في أحضان عاهرتين، إلى مصرع ديبلوماسي شرقي في الكراج، إلى توتر علاقة كرامة بزوجته الأميرة جويدان..
من مبنى الأمم المتحدة في جنيف، حيث البيروقراطية - يقول الصحفي أنور سلامة - هي محصلة البيروقراطيات في العالم، إلى الفنادق والبحيرة والمستشفى وبيت كرامة والمكاتب الديبلوماسية، تدور أحداث الحاضر الروائي، على خلفية الذكريات المصرية دوماً. وستوقّع لكرامة أغنية (يا بهية وخبريني) منذ البداية، كما ستوقع لزهية. ولكن لا ينبغي إغفال ذكريات أحمد السيد باشا في جنيف نفسها، والتي تقوده إلى المقهى الذي كان لينين يجلس فيه، وحيث يردد الطرفة "جنيف ترحب بلينين حياً وترفضه ميتاً"، إذْ رفضت الحكومة السويسرية إقامة متحف للينين، بينما السلطات السياحية تحيط مقهاه بالدعاية. وإلى قاعة اللوحات الفنية الأصلية يمضي الباشا أيضاً بصحبة خال عباس، مهيئاً لكشف سر زهية وكرامة، ولشراء قصر عويس والد الأميرة جويدان. وبحضور المحامي اليهودي المصري بن هارون لإبرام عقد الشراء، تطلع هذه الشخصية التي طردت من مصر عام 1958 بدعوى اليسارية، دون أن تسقط الجنسية عنها. وطوال ثلاثين سنة ظل بن هارون في جنيف معادياً للصهيونية ومسكوناً بذكرياته المصرية، وهو الذي وصل جنيف يردد قولة الكاتب السويسري ماكس فيشر أثناء هجرته القصيرة إلى الولايات المتحدة: "الوطن هو الذكريات". وها هو بن هرون يردد الآن "عذاب الغربة أقسى من الضرب".
في موطن الآخر السويسري إذن، وفي غيابه، تقوم رواية هذه الشخصيات المصرية، فحتى الباشا نفسه، منذ وصوله إلى جنيف "يعيش أحوال الوطن على نحو لم يعشه من قبل، فماذا جرى؟". وإذا كان السؤال هو المضمر المعلن الذي يحرك الرواية، فليس الفضاء السويسري، ولا الآخر السويسري، سوى محطة عابرة ومعزولة، مهما يطل المقام فيها.
خاتمة:
في الجزء الرابع (الشقائق)(10) من روايتي (مدارات الشرق)، ثمة لحظة حاسمة في تكوين شخصية عدي البسمة، تتصل بالآخر السويسري. فهذا الشاب الدمشقي الذي قصد باريس ليدرس الفن، يقذفه سقوط باريس في الحرب العالمية الثانية إلى سويسرا. وعلى إيقاع الحرب، وبحدب أستاذته العجوز غولدنكله تلهبه الحمى، فيرسم جائساً في شآمه، وأستاذته تهتف به: "ها قد بدأت. لا تتوقف". وحين يرسم إكليلاً للعروس تتلمس غولدنكله رأسها، وتتذكر عرسها أو شبابها أو زوجها الذي قضى في الحرب العالمية الأولى، أو ابنها الذي تجهل مقامه منذ بدأت الحرب العالمية الثانية، وتشك في أن هذا الطالب الشرقي قد بدأ يغازلها وهي التي تكبر أمه بسنين. أما عدي الذي كان يهدي أساتذته وزملاءه ما يرسم من أشياء الشام، فقد بدأ يرسم شوهات الحرب، فترتد عنه غولدنكله وأساتذته وزملاؤه، ولم يكن قادراً على سماع سؤال غودنلكه: "ماذا جرى لك"، حتى ترفع يدها عنه في الأكاديمية، وتعلن خيبتها فيه، فيمضي إلى فم الضبع: إلى برلين، مخلفاً - أو مستقبلاً في أوبته التي ستفضي به إلى روما فالشام – جسد غولدنكله الشائخ وصخب جسده كصخب ربيع بحيرة ليمان. وفي النهاية التي تحمله إلى الشام، يكتشف أنه لا يحمل سوى كذبة في الدراسة "وربما كذبة أكبر في الفن والروح". وهي خيبة أخرى إذن، بفعل صدمة الحرب، ما وسم الذات (عدي البسمة) في تجربته مع الآخر السويسري – وغير السويسري- وإن يكن الزمن أبعد فأبعد عنه في الروايات التي رأينا.
وبمعزل عما يتعلق بي، فتلك المدونة على محدوديتها (ست روايات) تسهم في تبديل جغرافية مسألة النحن والآخر/ الذات والعالم، من مألوفها: شرق- غرب، إلى: شمال- جنوب، وهو ما تعضده روايات أخرى، عُنِيتْ بالآخر الإيطالي - على سبيل المثال- كرواية (التوأم المفقود) نفسها ورواية (قالت ضحى) لبهاء طاهر نفسه، ورواية (النخاس) لصلاح الدين بوجاه.
وتسهم المدونة الروائية التي رأينا – بتفاوت بادٍ - في الانفتاح على مرجعيات ثقافية - حضارية أخرى، تتجاوز المركزية الفرنسية الإنكليزية، وتتجاوز مركزية الذات.
لقد رأينا فعل الحرب في تلك الروايات، وصورة الآخر المشبوحة بين الجحيم والنعيم، وصورة الذات الموقوفة على الجحيم، وفعل السيرية في بناء الرواية، وسبب التواجد في موطن الآخر (العمل و/ أو الفرار من الحرب والقمع) وتواجد الآخر في موطن الذات.
ولعله من الممكن القول بعد ذلك، إن الروايات المعنية هنا، تقدم – غالباً- إضافتها الخاصة، سواء في بنائها الحداثي، أم في الوعي الذي عبرت عنه، وإن يكن قد ظل يترجّع فيه من الرواية العربية الحضارية، صدى ما، ليبدو – في المحصلة - الخطاب الروائي الحواري يتجاوز النمطية المعهودة، دون أن يبرأ منها، ما يجعلنا ننتظر وعود الرواية العربية، وبخاصة على إيقاع المتغيرات الفادحة يوماً فيوماً.


 الهوامش:
(1) الطبعة الأولى، دار الحوار 1985، والطبعة الثانية، دار الحوار 2000.
(2) أخبار الأدب، القاهرة 23/6/2002..
(3) من هذه النصوص رواية غادة السمان (ليلة المليار) التي دُرست في الفصل السابق.
(4) صدرت طبعتها الأولى في روايات الهلال، القاهرة 1995.
(5) اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 2000.
(6) مذكور.
(7) مذكور، وانظر الفصل الأول من الكتاب.
(8) دار الساقي، لندن، ط1، 1999.
(9) دار الهلال، القاهرة، ط1، 2000.
(10) دار الحوار، ط1، اللاذقية 1993.

تيتوف بارة 18-10-07 01:11 PM

الفصل التاسع:
سيرة روائية للنهضة والسقوط


مقدمة
ينطوي القرن العشرون كما انطوى القرن التاسع عشر، ويطل القرن الحادي والعشرون ولا تزال أسئلة النهضة مفتوحة، ابتداءً من سؤال البداية: هل كانت في العهد العثماني على يد السلطان أحمد الثالث أم السلطان محمود الأول أم السلطان سليم الثالث؟ هل ابتدأت النهضة مع بيان قصر الكلخانة أم مع لجنة النظام الجديد والبعثات العثمانية إلى فرنسا وأصداء الثورة الفرنسية في السلطنة العثمانية؟ أم إن البداية كانت على يد الأمير بشير الثاني (لبنان) وأحمد باشا باي تونس والوهابية، أم إنها لم تكن عربية ولا عثمانية، بل فرنسية حملها نابليون؟
وماذا إذن عن تلك العلامة النهضوية الكبرى في مصر لذلك الخديوي الألباني الأصل محمد علي؟
1-الغائب الحاضر أو النهضة. الحداثة على عتبة قرن جديد:
سندع التخوم تتراوح وتهوّم فوق ما يصنعها من التفاصيل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، لتقيم إهاباً سرعان ما يضيق بالصدى الأوروبي، عصر النهضة أو عصر الأنوار أو عصر التنوير، وصولاً إلى الحداثة.
وها هو فيصل دراج يقول: "شكلت الحداثة قوام الفكر التنويري العربي في أطيافه المختلفة، منذ بداياته الأولى في منتصف القرن الماضي إلى نهاياته المأساوية بعد حرب 1967. ومع أن الحداثة كانت قائمة كمعنى ومنظور، فإنها لم تكن حاضرة ككلمة(1).


بذا ينتقل السؤال إلى مفصل جديد من الهزيمة أو السقوط كما تتعدد الأسماء. ومن جديد تتراوح التخوم وتهوّم فوق ما يصنعها، فيتكاثر المآل كما تكاثرت البداية، أو تبقى السلسلة مفتوحة في متواليات النهضة والسقوط، وفي كلّ حال تنشب أسئلة الغائب الحاضر: النهضة التي تسمّت بالحداثة أو الحداثة التي كانت النهضة.
في عام 1934 أصدر سلامة موسى كتابه (النهضة الأوروبية). وفي عام 1962 جعل عنوان الكتاب في طبعته الجديدة: (ما هي النهضة) مجدداً ما صدع به مجايليه وأسلافه: إننا نحن الأمة العربية نسمع ونقرأ كثيراً عن النهضة، ولكن هل ندري دلالتها أو هل ندري شروطها؟ هل نحيا حياتنا العربية في نهضة أم في قرون وسطى؟.
من عام 1934 إلى عام 1962 ظل سلامة موسى يردد الجواب: نحن نحيا في قرون وسطى، لكنه يرى (نور الفجر قد بزغ)، وسيردف عام 1963 في كتابه: (مقالات ممنوعة) أن النهضة لم تعن في الماضي ولا تعني الآن سوى البشرية، أي إن البشر أو الإنسان يجب أن يشتغل ويعتمد على نفسه في هذا العالم، ويعمل لحضارته وسعادته في جراءة وفهم.
وفي تحديد آخر يرى سلامة موسى النهضة تحريراً للشخصية البشرية من التقاليد والغيبيات، وإقبالاً على العلم التجريبي، وفصلاً للدين عن الدولة، ودعوة للإنسان كي يأخذ مصيره في يده ويتسلط على القدر بدلاً من أن يخضع للقدر، وانتزاعاً للخير من الطبيعة، وليس الانتظار كي تسدي إليه الطبيعة فضلها وبرها.
أما الانحطاط – السقوط؟ - فهو عند سلامة موسى، الآن كما في القرون الوسطى، في الشرق وفي الغرب، ليس سوى قصر الذهن البشري على خدمة ما وراء الطبيعة ونشدان السعادة والهناء في غير هذه الأرض، والاقتصار في العلوم والفنون على خدمة الآراء والعقائد الدينية.
والآن، وكما في أمس الأطياف النهضوية جميعاً، ودارسيهم جميعاً، يقوم من يذهب أبعد من سلامة موسى، ومن ينقضه، ومن يوازيه إلى حين، ومن يتقاطع معه قليلاً أو كثيراً. وإذْ يتفرع سؤال النهضة، سنرى مفكراً مثل زكي نجيب محمود يصدر مثل هذا الحكم القاطع: هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته. وسنرى مفكراً مثل برهان غليون يأخذ بالنهضة كمحاولة لعقلنة الحداثة الداخلة يومياً وحتماً إلى الحياة اليومية، وسيميز بين الحداثة كممارسة وبين النهضة كمشروع تاريخي اجتماعي.
أما فيصل دراج فيقلّب القول بين الحداثة العربية التنويرية والحداثة العربية المتأخرة التي تتبدى قطعاً وانتقاماً متأخراً من الأولى المهزومة.
وعلى العكس من محمد عابد الجابري ومن غالي شكري، ومن برهان غليون إلى حد ما، يرى فيصل دارج أن النهضة (الحداثة العربية التنويرية) رأت في الثقافة دائماً شأناً جماعياً واجتماعياً، بخلاف الحداثة العربية المتأخرة (الراهنة) التي تدور حول ذاتها، تحاكي مصدراً منفصلاً عنها، وتنفصل في محاكاتها عن الواقع، لتلبي أغراض نخبة ثقافية جديدة، مضخمة العنصر اللغوي.
ينتسب هذا القول إلى درس العقد السابع من القرن العشرين فصاعداً لأطياف النهضة جميعاً. ويتابع ويعمق هذا القول ما أخذ يتواتر من نقد الحداثة من داخلها، وأقربه من سورية ما كتب سعد الله ونوس وبرهان غليون ومحمد جمال باروت وعبد الرزاق عيد ومحيي الدين اللاذقاني ومصطفى خضر. ولعل من المفيد هنا المتابعة إلى ما تحدد من ذلك لدى فيصل دراج بمهاجمة بعض المثقفين العرب لمفهوم التقدم والتنوير ودلالة المثقف وزمن الأيديولوجيات، وبرطانة هذا الشطر الحداثي وما بعد الحداثي بالكوكبية وصلح الحضارات ـ أم صراعها؟ ـ وتحول مثقف هذا الشطر إلى تقني نظيف، يشيد ويوطد الجدار السميك الفاصل دون الوقائع العربية، لتقوم حداثة شكلانية تلفيقية ومتلفحة ـ أحياناً ـ بالرومانسية المتشائمة المستعارة من الشقوق الأوروبية، وهكذا تستأنف الحداثة العربية المتأخرة ـ الراهنة ـ الشكلانية البلاغية العربية القديمة، وتغدو على يد بعضهم رثاثة حداثية، تخلط بين التملك المعرفي والموضة الفكرية، وينفلت فيها المعنى من عالمه إلى صحراء اللا معنى، فيعثر العمل الفني على الأشكال ويضيع مضامينها، ويطرد الحداثي التنوير ليأخذ بواقع الحال، ويصرف العقل ليكتفي بالحدس وبخديعة الأفكار الكبرى: إنها الحداثة التابعة، الحداثة السلطوية التي تعتاش من اعتقال المضامين وتعويم الكلام، فيما ترتسم الحداثة، (النهضة) العربية المرجوة ضد المحاكاة الصماء، تحايث بين الوعي التاريخي والقول الحداثي، تشتغل بالأسباب التي عوقتها محلياً، وتستلهم من فرانتز فانون الاحتفاظ بالإيجابي الأوروبي فتتخلى عن أن تكون ممارسة بلاغية. ولعل مداخلة دراج هذه من أدق وألمع ما أرسل الجميع في هذا الصدد حتى الآن.
***
لقد طال العهد حتى أطلّ َالقرن الحادي والعشرون. وعلى الرغم من تواتر الجهود من جيل إلى جيل ـ كما في الأمثلة التي رأينا ـ تبدو النهضة وهي تتشكل بالحداثة، لا تزال ذلك الغائب الحاضر، فمتى ينتفي الغياب ويكتمل الحضور؟..
2 ـ المقاربة الروائية للنهضة والسقوط:
بينما تمفصل الفخامةُ السقوطَ بعام 1967 أو تجعله السقوط الأكبر، نرى من الرواية العربية ما يحسب أن سقوطاً صغيراً وأصغر وكبيراً وأكبر قد كان في مسلسل الهزائم المبكرة والمتأخرة.
وعلى وقع أي سقوط، عانقت الرواية العربية أي نهوض (أو حداثة)، فحاولت قراءة ما كان. ومن ذلك كانت محاولتها في قراءة من قرأ ما كان. فكيف سارت هذه القراءة ـ الكتابة الروائية؟. وإلى أين وصلت؟.
2 ـ 1 ـ الإرث الروائي النهضوي:
يبدو إرث سبعينيات القرن العشرين من الاشتغال الروائي على الأطياف النهضوية، محدوداً. وتظل ثلاثية نجيب محفوظ الرمز الأكبر لهذا الإرث الذي يتصل أيضاً بما كان من (الرواية التاريخية) كما كرسها جرجي زيدان ومعروف الأرناؤوط.
بيد أن حديث الرواية التاريخية (والجبلية، والنهرية، والانسيابية، والأسرية) سيتواصل منذ العقد السابع من القرن العشرين، ليتشكل في صلب الاشتغال الروائي على لحظات النهضة والسقوط، الطريف منها والتليد، وليفتح في هذا الاشتغال فصلاً جديداً يتلامح بالتراث السردي، وبأسئلة الحداثة الروائية وغير الروائية، وبهذا وذاك بات حديث الرواية التاريخية قطعاً مع عهده (الزيداني)، بل واللوكاتشي، وغدا (حديث الرواية) وحسب.
وبالعودة إلى الأطياف النهضوية الأولى تطلع تجربة تجديد السرد واللغة في إهاب جديد يتسمى بالرواية، ويُعنى براهنه: من الحدث أو القضية إلى القارئ إلى الترجمة، وعلى نحو يبدو أكثر التصاقاً بالمجتمع.
ولعل العجالة هنا لا تجافي الصواب إذ تمايز بين استغراق أغلب الأطياف النهضوية الأولى والتالية في الهم السياسي وإصلاح النظام ومسألة السلطة والصراع الأيديولوجي والرؤية التجزيئية، مقابل اندفاع البدايات الروائية (الجنينية والنهضوية) إلى الشأن الاجتماعي، لكأنها تنتسب إلى الثقافة الدنيا مقابل انتساب أغلب الأطياف النهضوية إلى الثقافة العليا. فلنتذكر (غابة الحق 1865 ـ درّ الصدف 1872)، لفرنسيس مراش، ونعمان القساطلي في (مرشد وفتنة 1880 ـ الفتاة أمينة وأمها 1880 ـ أنيسة 1881)، ومن بعد عبد المسيح إنطاكي في (فتاة إسرائيل 1903)، وشكري العسلي في (فجائع البائسين 1907 ـ نتائج الإهمال 1913) ورفيق رزق سلوم (أمراض العصر الجديد 1909) وكل ذلك وسواه من سورية، قبل أن نصل إلى زينب فواز ومحمد حسين هيكل.
ومن اللافت أنه مقابل هذه (الفورة) سيخفت الصوت الروائي في الأطياف النهضوية التالية خلال العقود الثلاثة الأولى، حتى يصدح في نهايتها شكيب الجابري في (نهم 1937 ـ قدر يلهو 1939) ونجيب محفوظ في رواياته التاريخية، إعلاناً عن نقلة روائية جديدة ستعزز منذ الأربعينات تخييل الرواية لراهن كتابتها، وإنجازها للحظة التقليدية، وصولاً إلى اللحظة الحداثية في ستينيات القرن العشرين، والموران الروائي منذ العقد التالي.
2 ـ 2 ـ الإرث النقدي النهضوي:
لأن هذه الشبكة روائية، فأمرها يتصل بالنقد الأدبي. وقد كان ذلك في رأس ما دفعني إلى نقد هذا النقد في كتابي (النقد الأدبي في سورية)(2)، حيث تعرفت أو جددت التعرف على رزق الله حسّون وجمال الدين القاسمي وعيسى معلوف وأديب اسحق وقسطاكي الحمصي ومحمد الخالدي ومحمد سليم الجندي وعبد القادر المغربي وعبد القادر مبارك ومحمد البزم وعز الدين التنوخي ومحمد كرد علي وأحمد شاكر الكرمي وخليل مردم وشفيق جبري وسواهم، كما عرفني أولاء أو جددوا تعرفي على مجايلين لهم وعلى تالين، في النقد وفي غير النقد، مثل جميل سلطان وسامي الكيالي وعمر فاخوري ورئيف خوري وسليم خياطة وقسطنطين زريق وسامي الدهان وصلاح الدين المنجد وأمجد الطرابلسي وشكري فيصل وأنطون سعادة وخليل الهنداوي وأسعد طلس ومحمد روحي الفيصل ونسيب الاختيار وعبد النافع طليمات وقدري العمر ونزيه الحكيم ومحمد حاج حسين وزكي المحاسني وجميل صليبا وشاكر مصطفى وسواهم. ومن متأخري هؤلاء من كان لي شرف التتلمذ على يديه في جامعة دمشق 1963 ـ 1967.
لقد كان لهذه الأطياف النهضوية أثرها فيما عاصرتْ من الرواية. وإذا كانت الشبكة الروائية ـ و النقدية أيضاً ـ قد (قطعت) مع الكثير من ذلك الأثر، فبعضه تواصل. ومن دونه سيظل حديث النهضة ـ الحداثة، وحديث الرواية والنقد، ناقصاً.
2 ـ 3 ـ الورثة:
إثر السقوط الأكبر (1967) تفجرت التجربة الروائية العربية الحداثية التي كانت ـ بالكاد ـ قد أكملت عقدها الأول. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم عانت هذه التجربة ما يخصها من مرارة الحداثة العربية. بيد أنه بدأت منذ عقد على الأقل، تجربة أخرى أعنونها بالمنعطف الروائي العربي الجديد الذي يستثمر منجزات ما تقدم من اللحظتين الحداثية والتقليدية في الرواية العربية، ويحاول تجاوز ما اعتورهما. ولأن للنقد الأدبي هنا حضوره اللازم أيضاً أشير إلى أنه عرف مثل هذه السيرورة.
لقد مضى الاشتغال الروائي منذ سبعينيات القرن العشرين عبر سبيلين: أولهما يعود إلى لحظة أو أخرى من العقود الأولى من هذا القرن، ونادراً ما يعود أبعد، وثانيهما يقبل على الراهن.
وفيما استأثر بالسبيل الثاني الاشتغال على لحظات السقوط، وبخاصة منه لحظة 1967، استأثر بالسبيل الأول الاشتغال على لحظات النهضة بعمقها الشعبي ومحمولها الاجتماعي وأحياناً السياسي. ومن ضمن ذلك كان يأتي اشتغال هذا السبيل على لحظات السقوط السابقة.
هكذا تصدرت سبعينيات القرن العشرين من السبيل الثاني روايات هاني الراهب وحيدر حيدر وغادة السمان وسواهم، بينما تصدرتها من السبيل الأول روايات حنا مينة وسواها. أما رواية (الزيني بركات) لجمال الغيطاني فقد رادت لاشتغال روائي آخر يفتح السبيل الأول إلى ماهو أبعد من لحظات السقوط والنهضة عبر التاريخ، وهو ما واصله في العقدين التاليين آخرون من آخرهم رضوى عاشور وبنسالم حميش.
ربما غلبت على السبيل الثاني الشواغل التقنية للحداثة الروائية، فيما غلبت على السبيل الأول الشواغل التقنية للتقليدية الروائية، قبل أن تشرع ثمانينيات القرن العشرين لمنعطف روائي جديد، يتراجع معه الميز بين تقليدية وحداثية، ويفتح القول على (مابعد الحداثة) ولكن في الرواية العربية، وبمعزل عن بريق ورطانة مصطلح (مابعد الحداثة) في غير هذا التحديد.
وإذا كانت رواية السبيل الثاني قد شكت من ضمور النقدي فيها، فقد ناءت أيضاً تحت وطأة الهجائية والعصابية والشعارية والصراخ والمازوخية. وبالمقابل، إذا كانت رواية السبيل الأول قد عرفت الشكوى نفسها، فقدناءت تحت وطأة المؤرخ ودهشة الاكتشاف وتمجيد الماضي. وفي الحالين بدت الرواية غالباً صوتاً واحداً ولغة يقلّبان ما كان وما هو كائن، وبدا الروائي منافساً للشاعر والسياسي والمفكر والمؤرخ. وعلى النقيض من ذلك أشرع المنعطف الروائي الجديد للنقدي وللأصوات وللغات.
2 ـ 4 ـ البطل الروائي النهضوي:
في التفسير الغولدماني لقول كاتش في البطل الإشكالي، يبدو هذا البطل طامحاً إلى بناء كليات نوعية جديدة على أنقاض بنى تقليدية متداعية، وباحثاً عن القيم في وسط منحل. وفي استعارة عبد الرزاق عيد لذلك يبدو لـه طه حسين البطل الروائي لنص الحياة العربية على مدى أكثر من نصف قرن، ويقول: "هذه الشخصية الإشكالية تتكثف فيها كل خيوط نسيج رواية حياتنا بكل تناقضاتها، وسجالاتها، وصراعاتها، وتشددها الصارم، وواقعيتها المرنة، وانشدادها المبهر نحو الغرب، واستكناه فكره وثقافته وأدبه، وتشددها الأصولي الصارم في مراعاة القواعد الكلاسيكية للثقافة العربية بنحوها وصرفها وقواعدها البيانية والبلاغية، وتقاليدها الفكرية والثقافية، حتى لتبدو هذه الشخصية مفعمة بتناقضاتها ومآزقها وتأزماتها في صلتها بالشك واليقين معاً. وتكاد هذه الشخصية أن تكون مرآة ـ على حد تعبير عيد المفضل ـ لعصرها بكل أهوائه وجموحاته، لكنها ليست كمرآة ذي الرمة (الغربية) التي يتحدث عنها طه حسين، بل بمقدار ما هي (المرآة) متجاورة، فهي تارة مقعرة، وتارة مهشمة، وفي أكثر الحالات محرقية" (في كتاب عيد: طه حسين، العقل والدين)(3).
خاتمة:
لقد عددت الشبكة الروائية هذا البطل وهذا النص اللذين يشخصهما عبد الرزاق عيد بامتياز في طه حسين. وعبر ذلك حقق الغائب في الشبكة حضوراً يبدو أكبر منه في مجالي الحياة الثقافية وغير الثقافية. وإذا كان الغياب بعامة يدفع الحلم ويجدده، فهو أيضاً يشير إلى النقص. ومهما يكن من أمر الرواية أو النقد أو الثقافة، فسيبقى إلى حين ـ لا يبدو قريباً ـ ذلك الغائب الحاضر (النهضة ـ الحداثة) سؤالاً مفتوحاً.


 الهوامش:
(1) ـ مجلة الكرمل ، العدد 51، ص 64.
(2) ـ دار الفارابي، ط1، بيروت 1980.
(3) ـ عبد الرزاق عيد، طه حسين: العقل والدين، مركز الإنماء الحضاري، ط1، حلب 1999، ص 7.

تيتوف بارة 18-10-07 01:12 PM

بدلاً من خاتمة:
جماليات وشواغل روائية
الزمن الروائي بين الواقع والتاريخ ـ
محاولة تأنيث


مقدمة
يأخذ النظر إلى التاريخ في هذه المساهمة، بما هو وقائع منقضية، وبما هو معرفة شفوية ومكتوبة بتلك الوقائع، مع التشديد على:
1 ـ الهامش الغائب والمغيّب في المكتوب، وبالتالي عدم الاكتفاء بالتاريخ الرسمي.
2 ـ عدم الاكتفاء بالمكتوب الرسمي أو الهامشي، بل الأخذ بالشفوي أيضاً، ومنه الحكايات والأساطير والمرويات الجزئية أو الكاملة التي ترمم أو تضيء أو تنقض النص المكتوب.
3 ـ المنظور المضمر أو المعلن في تقديم التاريخ، أيَّاً يكن النظر فيه.
4 ـ اكتناه التاريخ للأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، مهما يكن من تعلقه أو تعليقه بالماضي.
ويأخذ النظر هنا في الواقع على أنه جسد الفرد والعالم، مادياً، واجتماعياً، مع التشديد على أنه إذا كان زمن الواقع يبدو وحده الزمن المعيوش: الحاضر أو الراهن، فإنه أيضاً يكتنه الزمنين الآخرين: الماضي والمستقبل، أي التشديد على اكتناه الواقع للتاريخ، كاكتناه التاريخ للواقع.

ومهما يكن النظر إلى الواقع والتاريخ، فهو يتعلق بالزمن. وإذا كان الخُلْف بالقول في التاريخ أو الواقع كبيراً، فهو في الزمن أكبر، حيث لا يكاد المعلوم يُذكَر، ويطغى المجهول، سواء بالقياس إلى الواقع والتاريخ، أو بعامة. لذلك سأكتفي بهذه القراءة الحديثة لما قدمه عبد المالك مرتاض في أمر الزمن، وهو ما قدم به لقوله في الزمن الروائي، وأوله شبحية مفهوم الزمن، وكون الزمن إثبات للوجود وإبلاء، لكأنه الوجود نفسه، فهو موكل بالكائنات والكون والوجود، ولكنه كالأوكسجين لا يُرى ولا يُسمع ولا يُشم ولا يُلمس، بل تُحَسُّ آثاره فقط، فالزمن "خيط وهمي مسيطر على كل التصورات والأنشطة والأفكار"(1).
ويلفت في هذه القراءة ما لحظتْ من متابعتها في المعجمية العربية للزمن، من علاقة الزمن بالمكان، كما يشير اشتقاق الأَزْمَنَة بمعنى الإقامة ـ ومنه قولهم: رجل زَمِنٌ وقوم زَمْنى.
يعدد مرتاض الزمن الفلسفي والزمن المتواصل (الكوني السرمدي الأكبر الطولي الذي يظرّف الأحياء والأشياء)، والزمن المتصل والزمن المتعاقب (الأصغر الحلزوني الدائري المغلق وإن بدا طولياً) والزمن المتقطع أو المتشظي (الطولي غير التعاقبي) والزمن الغائب (زمن اللا وعي) والزمن الذاتي النفسي (المناقض للموضوعي): "إن الزمن في كل أطواره، موضوعي في ذاته، وإنما صورة التعامل هي التي تعمل على تحويل موضوعيته إلى ذاتية"(2).
أما النظر إلى الزمن في هذه المساهمة، فسيأخذ بالقول:
1 ـ مع أفلاطون، حيث الزمن كل مرحلة تمضي لحدث سابق إلى لاحق.
2 ـ ومع الأشاعرة، حيث الزمن متجدد معلوم، يُقَدَّرُ به متجدد موهوم.
3 ـ الزمن الروائي كشبكة أزمنة ومن ذلك:
أ ـ الزمن التاريخي (الماضي) الذي يناديه الحاضر لواذاً به أو فحصاً له، أو كقيمة مستقبلية.
ب ـ الزمن الجواني، النفسي، والذاتي، حيث العيش المباشر (الحاضر)، وغير المباشر، وحيث حيوات، لا حياة (أزمنة الحلم والتوهم والاستذكار والاستباق).

ج ـ الزمن الموضوعي الطبيعي والخارجي حيث العيش المباشر (الحاضر)، والحياة الواحدة.
ولئن كان القول هنا يمضي أيضاً إلى زمن الكتابة وزمن التجربة وزمن الحكاية، فالتشديد في كل حال هو على الزمننة الروائية للأحياء وللأشياء والأحداث، وعلى امتصاص الزمن الروائي لأي زمن، وعلى تعالق الزمن باللغة، وبالتالي: تعالق الأزمنة باللغات، ما دامت الرواية لغة مكتوبة.
من المستحيل، ومن غير المجدي أيضاً تحديد مفهوم للزمن ـ باسكال ـ وفي الآن نفسه، فالزمن ضرب من التاريخ، كما هو التاريخ ضرب من الزمان ـ مرتاض ـ ولكن ذلك ليس بكل شيء، لأن الرواية ـ ببساطة وبتعقيد، بوضوح وبغموض ـ هي فن الزمن، كالموسيقا (لوسينق). ولأن الزمن الروائي "نسجٌ، ينشأ عنه سحر، ينشأ عنه عالم، ينشأ عنه وجود، ينشأ عنه جمالية سحرية أو سحرية جمالية... فهو لحمة الحدث، وملح السرد، وصنو الحيّز، وقوام الشخصية"(3).
فلنتبينْ الزمن الروائي بين الواقع والتاريخ، في روايتي أهداف سويف (خارطة الحب)(4)، ورجاء عالم (حُبّى) (5)، ولعلّ تعليل هذا الاختيار سيبدو من بعد، كما ستبدو محاولة التأنيث في هذه المدونة للزمن الروائي بين الواقع والتاريخ.
***
أهداف سويف : خارطة الحب:
يمكن تصنيف الطبقات السردية في هذه الرواية، ضمن مجموعتين، يعنون التاريخ واحدة، ويعنون الواقع واحدة.
1 ـ التاريخ:
وتستعين الكاتبة بالطباعة للتمييز بين الطبقات السردية التاريخية، فنرى:
1 ـ الطبقة الأولى، وهي الأكبر، وقد جاءت بالحرف المائل الصغير، وتتضمن مذكرات الإنجليزية آنا ونتربورن، أرملة الضابط الإنكليزي إدوارد ونتربورن، والتي تعيش مع حميها السير تشارلز، حتى تأتي إلى مصر في رحلة، وتلتقي بشريف باشا البارودي وتتزوج منه، وتنجب بنتاً (نور الحياة).
2 ـ الطبقة الثانية، وهي الأصغر، وقد جاءت بحرف الرقعة الغامق الصغير، وتتضمن مذكرات ليلى شقيقة شريف باشا، وجدة الساردة الأولى أمل الغمراوي.
3 ـ الطبقة الثالثة، وتأتي بحرف الطباعة العادي، وتتكون من تعليقات أو تدخلات أو إضافات أو شروح أو تساؤلات الساردة الأولى أمل الغمراوي صاحبة ضمير المتكلم، والساردة الثانية صاحبة ضمير الغائب.
4 ـ الطبقة الرابعة، وتأتي بحرف الطبقة الثالثة، وتتكون من نتف من تقارير أو وثائق أو مراسلات أو شذرات تصدّر أغلب الفصول.
2 ـ الواقع:
1 ـ الطبقة الأولى، وتتضمن مذكرات أمل الغمراوي.
2 ـ الطبقة الثانية، وتتضمن ما تبقى للساردتين: أمل الغمراوي وصاحبة ضمير الغائب.
3 ـ بناء الرواية:
لا يتوقف تعدد أصوات ولغات رواية (خارطة الحب) على هذا العدد من الطبقات السردية، بل يطّرد مع تلك الأصوات واللغات في الطبقة الواحدة. فبالإضافة إلى ترجمة الإنجليزية التي كُتبتْ بها مذكرات آنا ونتربورن وما تضمنته من مراسلات، وبالإضافة إلى بعض الوثائق، تأتي العربية التي كُتبتْ بها مذكرات ليلى، ويأتي الشعر والعامية المصرية في الحوار والأغاني، وثمّة ـ بالعربية وبالترجمة الإنجليزية إليها ـ ما يفرّد كل شخصية من الشخصيات الرئيسية والثانوية، على كثرتها.
ونتوقف هنا لنبيّن أن رواية (خارطة الحب) قامت على ما يتصل باللعبة الروائية الأليفة: الوقوع على مخطوط أو أكثر. فالصندوق الذي جاء من لندن إلى القاهرة، ثم عاد إلى نيويورك سنوات، ثم حملته الصحفية الأمريكية إيزابيل باركمان، من حبيبها عمر الغمراوي في نيويورك إلى شقيقته في القاهرة ـ أمل الغمراوي ـ هذا الصندوق خبأ ـ إلى أشياء أخرى ـ مذكرات آنا ونتربورن ومذكرات ليلى: إنه صندوق العجائب ـ الكنز، كما تعدّه أمل التي تقول: "هذه ليست قصتي، هذه قصة وجدتها في صندوق". وكما كان دور ليلى قبل مئة عام في مذكراتها: أن تروي قصة غرام شقيقها شريف باشا بآنا، هو دور أمل الغمراوي الآن (1997ـ 1998): زمن الكتابة المعشّق بزمن القراءة الراهنة: أن تروي قصة غرام شقيقها عمر بالأميركية إيزابيل.
من مخطوطتي صندوق العجائب اللتين تغطيان بخاصة العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، إلى ما تتولاه أمل الغمراوي والساردة بضمير الغائب في نهاية القرن العشرين، تقوم السلاسل الأسرية التي تقرب وتباعد بين الشخصيات الأساسية الميتة والحية، ومن ذلك الجذر الفلسطيني في أمل الغمراوي، من جهة الأم مريم الخالدي، وانتساب إيزابيل إلى جدتها آناً من جهة الأم... لكأن ذلك توسّلٌ لروابط الشخصيات، وعقلنةٌ للمصادفات منذ لقاء شريف باشا بآنا حتى لقاء عمر الغمراوي بإيزابيل، والخوف من أن تكون علاقته بأمها ـ هو خمسيني وإيزابيل عشرينية ـ قد جعلت الحبيب أباً.
ولئن كانت سردية الواقع تستوي الآن في دور أمل والساردة بضمير الغائب، مستعينة بالزمن الحاضر ـ الراهن، بزمن ما يخص أمل وإيزابيل وعمر وسواهم من التجربة، فسردية التاريخ لا تستوي في مفكرتي آنا وليلى. ولذلك يفعل الحاضر فعله في الماضي، ويأتي صنيع أمل من بداية الرواية إلى نهايتها، أي تأتي كتابة الرواية على المكشوف، أمام القراءة، فالرواية لا تأتي وقد انتهت أمل من المفكرتين ـ المخطوطتين ـ الصندوق، بل تأتي وأمل تقرأهما.
فإذا كانت القصص، بالنسبة لأمل، تبدأ من أغرب الأشياء ـ الغرائبية والاستحواذ والتشويق... ـ فإن "قصتنا هذه تبدأ بصندوق" كما تقول أمل، ثم: تملأ الفراغات، وتجمع أجزاء قصة متناثرة، ولذلك تقصد دار الكتب ومحلات بيع الكتب القديمة وأرشيف الأهرام... وترتب الأوراق حسب تسلسلها، وما أُغْفِلَ تاريخه منها، تستقرئ موقعه بالمقارنة...
تدرك أمل أن المصادفة تبهظ البناء الذي تشيد، وهو ما يتجلى بصدد احتمال أبّوة عمر لإيزابيل، حيث تشكو أمل لأخيها: "الحكاية مليئة بمصادفات أكثر من اللازم، بدون هذه الإضافة"، وتتساءل عما إذا لم يكن كافياً أن إيزابيل التقت بعمر، ثم وجدت الصندوق عند أمها، واتضح أنهما أقارب، فيسأل عمر شقيقته: "يكفي لماذا؟ للتكوين الفني للرواية؟ هل هذا ما تعنين؟"
ويحدو لأمل فيما هي تبني ـ تكتب الرواية هذا التصدير من أقوال يعقوب أرتين عام 1905 للفصل الثالث عشر : "هناك نوع من الحكايات خالصة المصرية، وهي تتميز بثلاث خصائص، فهي حكايات عمودها الفقري الرحلة، وبطلاتها من النساء، وتوجهها الديني يشمل الطبيعة كلها". وتلك هي رواية (خارطة الحب) تحاول التميز بالخصائص الثلاث، لتكون حكاية ـ رواية مصرية خالصة. لذلك، ليس مهماً أن تُعرف النهاية سلفاً "فنحن دائماً نعرف نهاية القصة، أما ما نجهله فهو ما يحدث في الطريق إلى النهاية".
وفي الطريق إلى ذلك أيضاً "نقلب الصفحات لنعيد النظر في البداية. نسرع إلى الأمام فنعرف النهاية. ونحكي القصة التي لم يتح لأولئك الذين عايشوها وعاشوها أن يحكوا منها إلا أجزاء". وأخيراً ـ وليس بآخر ـ فإن أمل توفق الأجزاء وتكمل الصورة وتستنتج ما حدث، مما لم يكتب في المذكرات، فيقول عمر ـ وهو الموسيقي والمؤلف: "عظيم. دعي خيالك يشطح بك، اتركي لـه العنان".
4 ـ الواقع والتاريخ:
مهما يكن فيما تقدم، مما يضيء لعبة رواية (خارطة الحب) بين الواقع والتاريخ، فمن المهم أن نضيف أن الرواية تستحضر العديد من الشخصيات المعروفة تاريخياً، وتجعلها تعيش الرواية، مثل محمد عبده وإسماعيل صبري ومحمود مختار وقاسم أمين وسواهم من مطلع القرن العشرين، ومثل نصر حامد أبو زيد وأروى صالح من زماننا. وإلى ذلك كله ـ وما فاتنا في تبيّن البناء الروائي ـ تنهض استعادة أمل لتساؤل إيزابيل: "مادام الناس يتراسلون عبر المسافات، لماذا لا يستطيعون التراسل عبر الزمن كذلك؟". وإذا كانت أمل قد أضافت التساؤل المعجز: "كيف نكتب إلى الماضي"، فرواية (خارطة الحب) قد اجتهدت في جواب، لأنها شيدت تاريخاً روائياً وواقعاً روائياً، وشبكتهما بالزمن الروائي، فبات الحاضر يكتب للماضي، والماضي يكتب للحاضر، والحاضر والماضي يكتبان للمستقبل. ومن أجل ذلك نجد تعالقاً بين نهاية يومية ما من يوميات آنا، وتاليتها من يوميات أمل أومن سرديتها، وبالعكس. كما نجد في يوميات أمل أو سرديتها أو سردية الساردة بضمير الغائب ما يصل زمناً بزمن، دون أن يتوقف ذلك في الماضي عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل قد يمضي إلى أخناتون ونفرتيتي.


بهذا التعالق أو الاشتباك تقوم المستوطنات في فلسطين قبل مائة عام مثلها اليوم، ويجعل وصفُ آنا لمذكرات وكتابات الإنجليز آنئذٍ، يجعل أمل تفكر في العاملين اليوم في السفارة الأمريكية والوكالات الأمريكية. ولعل غاية هذا التعالق أو الاشتباك أن تكون في:
1 ـ اختطاف آنا على يد مجموعة من الشباب الثوريين بعد اعتقال حسني بك المحامي عن العمال، واعتراض شريف باشا على صنيع الشباب، لكأنما الأمر يتعلق باختطاف الطائرات أو بالعمليات الاستشهادية منذ ثلاثين سنة حتى اليوم. فإذا كان منطق الشباب هو الرد بالعنف على عنف الاحتلال، فشريف باشا يقول: "يجب أن تفهموا أن اختطاف الناس العاديين أو إيذاءهم بأي شكل ليس من البطولة في شيء (...) الإنجليز يريدون اتهامنا بالتطرف، إذا أعطيناهم مبرراً لهذا نخسر كثيراً".
وبالمقابل يأتي تمثيل رجال كتشنر بجثة المهدي في السودان، وقطع بيلي جوردون رأسه كي يستعملها الجنرال محبرة.
2 ـ وإزاء هذا وذاك تأتي رحلة أمل وإيزابيل إلى قرية الطواسي في قلب الصعيد (منطقة الإرهابيين) وحيث الحواجز وإلغاء الدولة لتجميد قانون الإيجارات، وارتهان أسرة الملاحَق حتى يسلم نفسه، والأحداث الطائفية التي شهدها الصعيد المصري على يد المتدرعين بالأصولية والإسلام. ويمضي هذا الخط في الرواية إلى حوادث الأقصر الشهيرة، وإلى بعض ماكان في القاهرة نفسها، وإلى حوارات أمل وأروى صالح وآخرين وأخريات في ظاهرة العنف تلك.
وبالمقابل، هذا هو حديث الإرهاب والإسلام في نيويورك، ورسائل التهديد الملغمة التي يتلقاها عمر الغمراوي الأمريكي الجنسية، لأنه فلسطيني ـ مصري ـ عربي ـ مسلم.
3 ـ إحالة ما كانت عليه الامبراطورية البريطانية في مطلع القرن العشرين، على ما آلت إليه أمريكا في نهاية القرن، ويأتي ذلك بخاصة على لسان السير تشارلز الذي يرى أن "هذا الاختراع ـ الامبراطورية البريطانية ـ سوف يدمر مكانتنا واحترامنا كأمة شريفة". كما يرى أن تلك الامبراطورية تستحق الفناء لما ألحقتْ من أضرار جسيمة بالبشر. وبالمقابل تستذكر إيزابيل ما قرأت من تشبيه أمريكا بالحياة في الفترة السابقة لسقوط الدولة الرومانية.
تأتي إيزابيل إلى مصر لإنجاز تحقيق صحفي حول الألفية الثالثة. وقد اختارت مصر، لأن ذلك يعني ستة آلاف سنة من التاريخ المسجل:"وكأننا نعود إلى البداية"، بينما الأمر في أمريكا: "هذه هي المرة الثالثة فقد التي نشهد فيها مولد قرن جديد، ولم نشهد ألفية أبداً فنحن ربما مثل الأطفال الصغار".
وبالمقابل يستشرف عمر الغمراوي المستقبل، فيرى أن اتفاق أوسلو لن يفلح ولا يمكن أن ينفذ. وتستشرف أروى صالح المستقبل بعدما تؤشر إلى التمويل الأمريكي لمجاهدي أفغانستان، فترى أن الأمور ستسير إلى الأسوأ: "نحن مقبلون على عصر هيمنة إسرائيلية"، وترى أن الثورة هنا ـ في مصر ـ ستكون إسلامية راديكالية، لأن كل أيديولوجية سواها أفلست.
ولعل الخلاصة تأتي في تساؤل أمل عن الفرق بين ما يحدث لنا الآن، وما حدث منذ مائة عام وفي قارة أخرى، وهو التساؤل الموصول بما عاش جيل أمل الغمراوي ـ جيل أروى صالح والستينيات المصرية ـ في زمن عبد الناصر ومن بعد في زمن السادات، وبخاصة مفصل هزيمة 1967، وهو ما يهون من قفز الرواية بين مطلع القرن ونهايته ـ ومن ذلك أيضاً مفصل حرب 1956.
رجاء عالم: حبّى:
إذا كانت بعض الروايات العربية قد جربت الانبناء من متن وهامش، كما فعل الياس فركوح في (قامات الزبد) وصلاح الدين بوجاه في (مدونة الاعترافات والأسرار)، فقد بلغ الأمر في رواية رجاء عالم (حبّى) ما يُلْبِسُ القول بكتابة رواية من روايتين، أو روايتين من رواية: واحدة يقدمها المتن ـ وهو الغالب نسبياً ـ والأخرى يقدمها الهامش المؤطر في حرف مختلف. وقد تصدرت رواية (حبى) باقتراح الكاتبة قراءة المتن مستقلاً عن الهامش، أو العكس.


1 ـ رواية الهامش : الطبقة السردية الأولى:
1 ـ 1 ـ مقام الأنوثة المقدسة:
لسيد قبيلة (الدروع) ومن أنثى رملية وُلِدتْ أميرة هي (حبّى). وعلى موعد مع بلوغها يأتي من لا مكان من يحمل كتاب أعظم ملوك (الباطن). ويفسر صاحب التلاوات (خردذبة) الكتاب: الملك طاسين يخطب الأميرة التي اشتغلت على (الباطن) وهزمت كل مشتغل على (الظاهر): هكذا ابتدأت الرواية في هامشها.
منذ البداية، وفي الهامش كما في المتن، يتدافر الأسطوري، والصوفي. ومن جنون المخيلة ولعب اللغة يتسمّى البشر ويتعيّن الفضاء، ويكون للقراءة أن تلملم نثار المرجعي، لعل عسرها يتخلخل وتأويلاتها تتلامح ونظامها يقوم.
في الهامش، وعبر جبل السراة تمضي الأميرة في مروتها إلى خاطبها. ومن نهر (لار) العظيم ـ الذي سيتسمى بالبحر الأعظم أيضاً ـ حيث يتدارس الأطفال كتب العتم والماء، ومن مسخ القبائل التي ضلّ صغارها في تلقي السرّ المكنون في آبار أسفارهم، إلى القرية التي ستغدو الأميرة في ألواحها الفسيفسائية نقشاً (مجرداً) في نعش، إلى طور سيناء والجليل فبيت المقدس، مكان وقفة الصخرة، وبانتظار طيرانها في الإسراء، هكذا تتوالى رحلة وتحولات الأميرة، وتلتبس ناقة صالح بمائدة إبراهيم ومدفن الأبواء ومضارب السعدية وغار حراء وما حمّل المريدون الأميرة من دبشها: مخطوطات أجنحة جبريل والمواقف والمخاطبات ومنطق الطير ومن أثر ذي النون، وصولاً إلى وادي تصلال ولقاء الملك طاسين.
هنا تصير حبّى عين ماء، وفي (دهر التملي) لا يزيد ما بناه طاسين منها عن حجرة رمل جمد، وطاقة، ثم هوى به إليها توقه، وصارت القبائل تتحلق حول طاقتها، حتى جاء زمن أوصدت الطاقة فيه بلاطة منقوشة بكتابات، ثم أرخيت الأستار على البلاطة.
1 ـ 2 ـ رحلة العاشق:
بعد هذا العجائبي الذي أسس المكان المقدس في الأنوثة البشرية، توالي رواية الهامش أسطورتها في الخلق عبر شخصية (الفتى التابع) الذي أنجبته ابنة شيخ قبيلة (الدروع) في تيهها بالرمل، ثم ماتت. ولأن الفتى حلم بأنثى من جمر المرو، هي (حبّى) كما يفسر لـه خردذبة، فقد رحل متسمياً بحيان، ومر بمدينة إرم، وتبع قوافل يقودها أدلاء قبيلة (السعر). وفي قبيلة (القمر) الراحلة إلى وادي تصلال، تعشقه النساء، وينذرن قرانه على الأرملة (ماه سرمد) والتي مات كل من عقد عليها: إنها قرينة (حبّى) الأزلية، وقرينة كل إناث الصحراء. وإذ تقضي عشقاً لحيان، يقرؤون عليها (سورة الأعراف). ويعشرونها بسواد الثلث الأخير من شهر محرم. ويمضي حيان نحو حبّى في واديها (تصلال) موسوماً بالمعبد الحاوي لغياب (المطلق) الذي يشطره بين (الحضور والغياب).
انتهت رحلة حيان الأولى ببلوغ الطاقة، ليفك لـه صوت (حبّى) المكنون كلمات البلاطة، فيرى طاسين المتماهي بمعشوقته، ففيها تمام التذكير والتأنيث، ثم بدأ حيان رحلته الثانية ليتمرس بالعلوم، كي تحق لـه (حبّى)، وقد سكنه وسواس أن يعمّر منها مدينة لا كالمدن. وبلغ بلاد (أثلا) وعاصمتها (حياض مريم)، فأقام زمناً في حارة الصباغين يتعلم على الشيخ القرمزاني سرّ اللون، ويصد غواية الخنثى (ترنجان) الذي خرج من جنية الصخرة الحوراء.
من امتلاك سر اللون ينتقل حيان إلى حارة العطارين. وعلى يد الشيخ الكادي يتعلم سر العطر، وينقلب إلى حرفة المداوي، ثم ينتقل إلى حي الخشابين ليتعلم سرّ تشكيل الخشب على يد الشيخ الوردي وميلكان، ومن بعده سندر ساحر السطوح الصقيلة أو ساحر التقنيع. ومن طور إلى طور يحلم بحبّى: محارة الأذن منها قرص عسل مر، ويشكلها من شجرة، كما يطلع لـه ترنجان في هيئة الصبي الألعبان، وفي هيئة البدوية التي تتهمه بالتسلل إليها ليلاً. ثم يوالي حيان الرحلة إلى لبّ قاف حيث المملكة المخفية عند جبل القهرة بوادي الدواسر، فإلى عدن والمحارة التي يفك حيان لسانها، حيث يتتلمذ على أيدي الدراويش، ويشرع بتشكيل الكواكب والأيام وحبّى وقبتها والأبجدية العربية، حتى يتجلى للمريدين مقام الجبل الخفي في سورة (ق) فيشدون رحالهم إليه. وعلى يد شيخ المشايخ العلوية والسفلية (سيميائيل)، في (قاف القهار) يتلقن حيان قبل أن يعود من رحلته، وفيها تستوقفه (أملاً)، ليحترف الوشم، ثم يتبعها في مدينة النمل إلى أن يتقن هندسة الاختزال، ويؤوب إلى وادي تصلال متقمصاً طير الصدى، وقد خرجت لـه من طاقة حبّى صبية تنده: أنا (مقا) فأين أبي؟ ثم جاء زمان قامت فيه حول سور مقبرة حبّى أروقة، وحرم عليها حجاب وسدنة، كما تختم رواية الهامش.
2 ـ رواية المتن: الطبقة السردية الثانية:
أما رواية المتن فتبدأ من حيث انتهت رواية الهامش التي تذكر قبيل نهايتها، وفي غمرة تشكيل حيان لمقام حبّى، كلمة (سارح): إنها اسم بطل المتن، البدوي الدروعي الذي سمع حكيم القبيلة خردذبة يهمس لشيخها بطلوع حبّى كل قرن لتأخذ قرباناً من فتيان القبيلة، هي الأنثى الأسيرة في قصر مشيد في مقا، خطفها ملك، وبنى من جسدها مدينة.
كذلك يرحل سارح في أثرها، كما رحل حيان، لكن الرواية لا تروي رحلة الأول، لأنها رحلة الثاني، فطيّ الزمن والتحولات ـ التقمصات من المفردات الكبرى في لعب الرواية. كذلك يوقَف المتن على حياة سارح في مدينة مقا، وإن تكن رحلات أخرى لـه ستكمل ما تقدم من رحلتي حيان ورحلته هو، بعدما يرميه السيل من حضرة حبّى إلى الوديان، فتتقمص في ريم ويسميها (غزلان). وبعد عودته إلى مقا وصيرورته (العارف)، وظهور المبرقع البدري من الملوك الزيدية، يتنقل سارح مع هذا الذي صار قرينه بين قبائل السراة، وينزويان في كهف الثلاثماية ظبية بجبل (السبت بحبونا)، ثم يتجدد السيل الذي يرمي بسارح ـ العارف في وادي إيشام، وتتجلى لـه غزلان في هيئة بشر، فيعقد لـه عليها شيخ العطارين، لكنها تختفي والقرين.
2 ـ 1 ـ تاريخ من الأسطورة:
يضاعف الهامش ما تقدم من أسطرة البشر والمكان والزمن والطبيعة والكائنات والأحداث. وإذا كانت الأسطرة ستشتغل أيضاً في المتن بمقدار فوق مقدار، فإنها تبدو، من تحديد الفضاء إلى البشر والأحداث، كأنما تنحو بالأسطرة نحو التاريخ، أو بالتاريخ نحو الأسطرة.
فهي ـ الأسطورة، وكما عبر شتراوس ـ تاريخ بلا سجلات وتراث لفظي وتكوين فوضوي ونسق مغلق، هي تاريخ أفول يرهن المستقبل بالوفاء للماضي، ويرمينا بالسؤال عما إذا كانت القصص التي ترويها الأسطورة حقائق تاريخية ثم تحولها، وتحولنا معها بطريقة ما.
وهو: التاريخ، يملص من التعيين، ملوحاً بما رأينا من نثاره المرجعي في الفضاء الصحراوي أو في فضاء أم القرى من الجزيرة العربية، مما يذكر بصنيع عبد الرحمن منيف في خماسيته (مدن الملح). ولسبب من ذلك أحضرت رواية (حبّى)الاصطخري ليكون أشهر مؤرخي مقا، يكتب قول أميرها (صون)، كما أحضرت لمنازلة أشعر الجن صاحب الأبرص (هميد) وصاحب الكميت (راغم) و..
لقد بدأ المتن من رواية (حبّى) بإطلالة سارح على مقا من جهة بوابة (المناسكة) المنذورين لحرم المقام في قلب المدينة، والمعروف منذ الأزل بقصر حبّى. وعلى قمة جبل شاهق يبني سارح غاره. وفي المدينة يعمل مع الحجارين حتى يشتهر بصفة القراري، ويدخل إلى المقام فيرى نقش (طاسين)، وتهوي حبّى إليه كالجوارح بقبسات من فيروز سيناء وجلاميد تدمر وغرانيت الفرات ومرابض الجذع اليماني وقبسات من أبي قبيس ـ وفي مكة، كما في سهل الغاب وسط سورية مقام بهذا الاسم ـ فهل هذا تشكيل عربي إسلامي لحبّى؟.
كي يخلص سارح من علائق الرمل ويفتح مغاليق المدينة، يلج حي الجنائز فدرب الندابات، حيث تستولي عليه (نور) بنت النائحة الكردية التي ستعينه ناظراً على أملاكها، فيسكن ربع القنوات، ويتحرى مقام الأمير صون في قصر السعادة، والسوق الذي يعبث فيه فيل الأميرة: أين لعبة سعد الله ونوس في مسرحية (الفيل يا ملك الزمان)؟
في مقام حبّى يلتقي الشيخ القبورجي، ويعمل تحت إمرة قائم مقام القناديل الشيخ ملاّ صيني، وتغدو حوطة القربى ومقام الأموات ـ الأحياء، كالمدينة: مسرح الحكايات المتناسلة والمتشابكة: حكاية المجنون (قا) الذي ينقذ الأمير فيبني لـه قصراً ـ حكايات بناء الأمير لقلعة (أمهار) وقتله للشيخ المحجوب كبير السدنة على باب (حبّى)، وغيرته من عشاقها، وصراعه مع الشيوخ وصناعة السبح وثورة الأمير طامي على الأمير صون وقدوم جند من الأناضول بقيادة قانص، وقتلهم لطامي وعودة الأمير صون وفيله، وتوزير السائس (كورمحموس) والثورة عليه ـ حكايات السيول التي تداهم المدينة ـ حكايات ولادة بنت الأمير لصون السادس وحيد العين الذي ستدك حاشيته مقا، فلم يعد يسكنها حتى الصدى، كما يختم المتن، تاركاً ـ مثل الهامش ـ للقارئ فك اشتباك الأسطورة والتاريخ.
3 ـ بناء الرواية:
أثث التخييل عالم الرواية بدقائق وتفاصيل لا تنتهي، وتنمّ عن خبرات شتى في اللون والعطر والخشب والسبح والندب... ومتح التخييل من العجائبي والغريب في التراث الأسطوري والديني الشعبي، الشفوي والمكتوب، وفي ذلك كان استثماره للصوفي كعنصر أساس، ابتداءً باسم الملك طاسين ـ أين طواسين الحلاج؟ ـ فالدرويش والمجاذيب والشطح... وصولاً إلى صيرورة سارح عارفاً، يهتف أمام مريديه: "أعرف أنه لا حيّ إلاها"، فيهتفون: "إياك خذ بيدي يا حبّى يا سندي"، ومن ذلك ملاغاة القوارير الخضر ليلة التحنين "يا بحير أرسلني يا بحير/ أرسلني/ في جلوسي مع البشر أنا خارج الله". وقد كان العشق قوام الصوفي في الروح والجسد، مما جعل الرواية تحتشد بنصوص عشق حيان لحبّى وعشق ترنجان لـه كالمريميات والمغنية الحائلية والأرملة ماه سرمد، كذلك عشق سارح لنور وحبّى، وما يلم حيان في فن العشق بعمله من سر العطر وسر الخشب، وتصنيف الرواية للعشاق والمباح لهم سكنى المعشوقة، وتعداد مراتب العشق بين العامة والخاصة. أما الأهم من ذلك فهو قيام طاسين في معشوقته حبّى المقبورة في عشق، وامتزاج ظل حيان بظلها وكشفه أنها أكبر ممالك ذاته وتجليه الأمثل. فإذا أضفنا إلى ذلك لعبة الخنثى في شخصية ترنجان، أدركنا الإشارة إلى تمام التذكير والتأنيث في حبّى، ونشدان الوحدة الأصلية، دون أن يفوتنا ما في حوار حبّى مع حيان من تساؤلاته عن قدرة الأنثى على غلبة الطوطم، أو قدرتها على التخلي عن جسدها الخرافي وعن اقتران جسد الأنثى بامتلاك العالم والتدمير.
يفنى حيان في حبى لتعود الصورة لأصلها ويتم كماله، ويقوم هيكل حبّى المقدس. وفيما يتبادل مع حبى من الكتابة في نهاية الرواية تكتب له: "ما يحدثك مني ليس طوطم القبيلة، ولكن المعشوقة التي صاغها حيان الدروعي وسارح العارف وطاسين...". وإذا كان كل ذلك ينادي (طوق الحمامة) وسواه من نصوص العشق في تراثنا، فلعبة الخنثى تنادي من رولاند بارت جنوسة النص. وعلى أية حال فقد وسم العشق والصوفي بعامة لغة الرواية، كما وسمها العجائبي والغرائبي، والتخييل بعامة. واللغة من أخطر حراس حبّى، وفي طبعها المخادعة، كما تقول لحيان. وعلى القراءة إذن أن تكشف من المخادعة ومن الغياب ما وسعت. فهذه لغة تتوسل الشعرية ـ نسبة إلى الشعر ـ لكنها تقع في مماهاة لغة زمنها بالتضبيب والترثنة، وتنوء بالزوايا الظليلة حد العتمة ـ الغموض. ولا تكاد تتهجّن كما ينبغي للغة الروائية، سوى بالنزر من العامي ومن التناص (الغناء البدوي والأهازيج والرقية). إنها لغة ثرية ومغوية لكنها مستوية، كما يليق باللغة المتعالية في غنوصيتها ، ونبويتها، مما سبق أن تطوحت فيه ـ دون البلاغة الروائية وروائية الرواية ـ روايات حداثية جمة. ولئن كانت رواية (حبّى) تبدو هنا منازلة بجدارة لامتياز روايات إدوار الخراط، فهي تبدو وبجدارة أكبر منازلة لروايات إبراهيم الكوني في العالم الصحراوي الأسطوري الذي شيدته. ومن منازلة إلى منازلة تنتزع رواية (حبّى) ركنها المكين في التجربة الحداثية الروائية العربية.
4 ـ الواقع والتاريخ:
ينبني التاريخ الروائي في رواية (حبّى) بالأسطرة والأساطير، كما رأينا. ويبدو الواقع الروائي كذلك، فأين هو إذن الواقع كجسد للفرد وللعالم المادي والاجتماعي، متعلق بالزمن المعيوش ـ الحاضر؟ وبالتالي: ما الزمن الروائي في رواية (حبّى)؟
بتقفي الإشارات المرجعية وسط الحمى والضبابية الأسطوريتين، يطلع طور سيناء والجليل وبيت المقدس وجبل أبي قبيس وغار حراء ووادي الدواسر والصخرة وعدن وتدمر والفرات، كما يطلع الأصطخري وجبريل وبحير (الراهب بحيرا؟)، وسورة الأعراف وسورة ق (القرآن) والنفري ومنطق الطير وشهر محرم والقبائل (وإن تبدلت أسماؤها).. وبذلك وأصنائه ـ وبفعل إشارات المكان بخاصة ـ يحيل الزمن الروائي على الزمن التاريخي العربي الإسلامي في الجزيرة العربية وبلاد الشام، ويحيل التاريخ الروائي على التاريخ العربي الإسلامي، وصولاً إلى ما لعله الهيمنة العثمانية عبر جند الأناضول بقيادة قانص. ولعل الدلالات إذن تمضي إلى/ وتتركز في الوثنية الأولى للكعبة، والقدسية التالية لها، مما يعني زماننا وبالفعل فيه أيما فعل. ولئن صحّ ذلك أم لا، فللمرء أن يتساءل عن الفعل الإيماني ـ الإسلامي في زماننا ـ واقعنا، وفي مستقبلنا، وحيث يصير دهر التملّي زمناً روائياً يشبك بالأنوثة الماضي بالحاضر والمستقبل.
محاولة تأنيث:
من الأرملة ماه سرمد قرينة (حبّى) إلى نور بنت النائحة الكردية، ومن الخنثى ترنجان إلى تمام التذكير والتأنيث في (حبّى) تنهض الطوطمية، فتتأله الأنثى وتتقدس، وتكون جنوسة النص. ومحاولة التأنيث، تقوم إذن في رواية (حبى)، في الأس والبداية والنهاية، في المنظور والقوام، في تشكيل التاريخ وهندسة البناء، بينما لا تتخصص جراء ذلك مفردات البناء بعلامة أنثوية.


وبخلاف ذلك يبدو صنيع رواية (خارطة الحب)، حيث العلامات الأنثوية في مفردات شتى من البناء الروائي، وأبرزها ما يتعلق بالشخصية الروائية، كالامومة في آنا وفي ليلى (الرضاعة ـ مشي الطفل) أو كالعلاقة بالزهور (أمل ـ آنا) أو كالحب (حب إيزابيل لعمر وحب أمها ياسمين لأبيها جوناثان) والزواج والحمل والطلاق والانفصال بلا طلاق (أمل ـ إيزابيل ـ الجارة تحية)، ولعل غاية ذلك هو ما يتجلى في بناء الشخصيات النسوية من جمع قرية الطواسي إلى أروى صالح وإيزابيل وأمل وليلى وآنا وياسمين ومريم الخالدي، وسواء أكانت الشخصية مركزية أم عابرة. بيد أنه، وإضافة إلى ذلك تمضي في هذه الرواية محاولة التأنيث إلى ماهو أبعد وأشمل، مما يذكّر بالمحاولة عينها في الرواية السابقة، ولكن سبيل (خارطة الحب) إلى ذلك تظل محددة، كما في تقليب أمل للجذور اللغوية (الأم ـ المرأة ـ الجنين) أو في علاقة الكلمة بالبويضة، حيث تأتي الكلمة في حشد مثل البويضات الصغيرة والكبيرة التي تصحب ملكتها، ولا ينال الإخصاب سواها.
خاتمة:
منذ فجرت التجربة الروائية العربية (الرواية التاريخية)، وهي، بحفرها في التاريخ وفي الواقع، تزمننهما، وإن انحدت مرة بمرحلة بعينها (مثلاً: الغيطاني: الزيني بركات ـ بنسالم حميش: مجنون الحكم..)، أو شبكت الواقع بالتاريخ (مثلاً: إدوار الخراط وصلاح الدين بوجاه)، أو أطلقت العنان للأسطرة (إبراهيم الكوني مثلاً). وإلى ذلك تبدو إضافة رجاء عالم وأهداف سويف من الأهمية بمكان، كما تأمل هذه المساهمة أن تكون قد دللت، وبخاصة أن محاولة التأنيث، مهما تواضعت، تظل إشارة واعدة ـ بقدر ماهي هامة ـ إلى خلخلة الهيمنة الذكورية في الكتابة الروائية، وإلى تطعيم هذه الكتابة بجديد وخاص، كما تظل إشارة إلى تحرير المعنى، وإلى النقدي، وبهذا وذاك يتلامح الأفق الإبداعي والحضاري والجديد، في جملة من الجماليات والشواغل الروائية.





 الهوامش:
(1) ـ عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، صدر في سلسلة عالم المعرفة، العدد 240، ديسمبر ـ كانون الأول 1998، الكويت، والإحالة هي إلى المقالة السابعة، ص 202.
(2) ـ نفسه، ص 206.
(3) ـ نفسه، ص 207.
(4) ـ المركز الثقافي العربي، بيروت 2000.
(5) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2001، (ترجمة: فاطمة موسى).

تيتوف بارة 18-10-07 01:12 PM

المصادر:
(مرتبة بحسب الاسم الأول)


(1) ـ إبراهيم الدرغوثي، الدراويش يعودون إلى المنفى، دار رياض الريس، ط1، لندن 1992.
(2) ـ أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد، دار الآداب، ط1، بيروت1993.
(3) ـ أحلام مستغانمي: فوضى الحواس، دار الآداب، ط1، بيروت 1998.
(4) ـ أحمد يوسف داوود: فردوس الجنون، اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق، 1996.
(5) ـ أحمد حرب: الجانب الآخر لأرض المعاد 1990.
(6) ـ إدوار الخراط: رامة والتنين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت
1980.
(7) ـ إدوار الخراط: يقين العطش، دار شرقيات، ط1، القاهرة 1996.
(8) ـ الزاوي أمين: صهيل الجسد، دار الوثبة، ط1، دمشق 1983.
(9) ـ الزاوي أمين: رائحة الأنثى، دار كنعان، ط1، دمشق 2000.
(10) ـ اسماعيل فهد اسماعيل: سماء نائية، دار المدى، ط1، دمشق 2000.
(11) ـ الحبيب السائح: زمن النمرود، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر 1985.
(12) ـ الطاهر وطار: اللاز، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر 1972.
(13) ـ الطاهر وطار: الزلزال، ط1، بيروت، 1974.
(14) ـ الطاهر وطار: عرس بغل، دار ابن رشد، ط1، بيروت 1978.
(15) ـ الطاهر وطار: الحوات والقصر، دار البعث، ط1، قسنطينة، الجزائر 1980.
(16) ـ الطاهر وطار: العشق والموت في الزمن الحراشي، دار ابن رشد، ط1، بيروت 1980.
(17) ـ الطاهر وطار: تجربة في العشق، مؤسسة عيبال، ط1، نيقوسيا 1989.
(18) ـ الطاهر وطار: الشمعة والدهاليز، دار الهلال ط1، القاهرة 1995.
(19) ـ الطاهر وطار: الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، الجاحظية للتبيين، ط1، الجزائر 1999.
(20) ـ إميل حبيبي: اخطية، بيسان برس، ط1، قبرص1985.
(21) ـ أنيسة عبود: النعنع البري، دار الحوار، ط1، اللاذقية 1997.
(22) ـ أهداف سويف: خارطة الحب، ترجمة: فاطمة موسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، القاهرة 2001.
(23) ـ بشير المفتي: المراسيم والجنائز، منشورات رابطة الاختلاف،ط1، الجزائر 1998.
(24) ـ بهاء طاهر: الحب في المنفى، دار الهلال، ط1، القاهرة 1995.
(25) ـ جمال الغيطاني: رسالة في الصبابة والوجد، دار الشروق، ط1، الدار البيضاء
1993.
(26) ـ جمال الغيطاني: خلسات الكرى، دار شرقيات، ط1، القاهرة 1994.
(27) ـ جمال الغيطاني: متون الأهرام، دار شرقيات، ط1، القاهرة 1994.
(28) ـ جميل عطية إبراهيم: 1981، دار الهلال، ط1، القاهرة 2000.
(29) ـ جيلالي خلاص: رائحة الكلب، المؤسسة الوطنية للكتاب،ط1، الجزائر1985.
(30) ـ جيلالي خلاص: حمائم الشفق، المؤسسة الوطنية للكتاب،ط1، الجزائر 1986.
(31) ـ حسونة المصباحي: هلوسات ترشيش، دار طوبقال، ط1، الدار البيضاء 1995.
(32) ـ حمد الحمد: زمن البوح، دار شرقيات، ط1، القاهرة 1998.
(33) ـ حميدة نعنع: الوطن في العينين، دار الآداب، ط1، بيروت 1979.
(34) ـ حيدر حيدر: شموس الغجر، دار ورد، ط1، دمشق 1997.
(35) ـ خليل صويلح: وراق الحب، دار البلد، ط1، دمشق 2002.
(36) ـ خيري الذهبي: هشام، دار الكنوز الأدبية، ط1، بيروت 1998.
(37) ـ رجاء عالم: حبّى، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت 2000.
(38) ـ رشيد بو جدرة: التفكك، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر1982.
(39) ـ رشيد بو جدرة: امرأة آرق، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر1985.
(40) ـ رشيد بو جدرة: معركة الزقاق، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر1986.
(41)ـ رشيد بو جدرة: فوضى الأشياء، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر1990.
(42)ـ سلام عبود: يمامة: في الألفة والألف والندامة، دار الكنوز الأدبية، ط1، بيروت.
(43)ـ سليم مطر: امرأة القارورة، منشورات رياض الريس، ط1، لندن 1990.
(44)ـ سليم مطر: التوأم المفقود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1، بيروت ـ عمان 2001.
(45)ـ صلاح الدين بو جاه: التاج والخنجر والجسد، دار سعاد الصباح، ط1، القاهرة 1992.
(46)ـ صلاح الدين بو جاه: النخاس، دار سيراس للنشر، ط1، تونس ؟؟؟؟
(47)ـ صلاح الدين بو جاه: التبيان في وقائع الغربة والأشجان، دار الجنوب، ط1، تونس1996.
(48)ـ طالب الرفاعي: ظل الشمس، ط1، 2000.
(49)ـ عائدة الخالدي: وقد يأتي الربيع خريفاً، اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 2000.
(50)ـ عبد الحميد بن هدوقة: ريح الجنوب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر 1971.
(51)ـ عبد الحميد بن هدوقة: نهاية الأمس، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر1975.
(52)ـ عبد الحميد بن هدوقة: باب الصبح، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر1980.
(53)ـ عبد الحميد بن هدوقة: الجازية والدرويش، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر1983.
(54)ـ عبد المالك مرتاض: صوت الكهف، دار الحداثة، ط1، بيروت 1986.
(55)ـ غادة السمان: بيروت 75 ، دار الآداب، ط1، بيروت 1975.
(56)ـ غادة السمان: كوابيس بيروت، دار الآداب، ط1، بيروت1977.
(57)ـ غادة السمان: ليلة المليار، منشورات غادة السمان، ط1، بيروت 1986.
(58)ـ غازي القصيبي: العصفورية، دار الساقي، ط2، لندن 1999.
(59)ـ فيصل خرتش: موجز تاريخ الباشا الصغير، منشورات رياض الريس، ط1، لندن 1991.
(60)ـ قمر كيلاني: بستان الكرز، اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 1977.
(61)ـ كمال الزعباني: في انتظار الحياة، ط1، تونس.
(62)ـ ليلى العثمان: المرأة والقطة، ط1، 1985.
(63)ـ مرزاق بقطاش: عزوز الكابران، لافوميك، ط1، الجزائر 1989.
(64)ـ مروان طه المدور: جنون البقر، منشورات رياض الريس، ط1، لندن 1991.
(65)ـ محمد الباردي: قمح أفريفا، دار الحوار، ط1، اللاذقية 1992.
(66)- محمد الباردي: حوش خريّف، سراس للنشر، ط1، تونس 1997.
(67)ـ محمد العالي عرعار: البحث عن الوجه الآخر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر 1981.
(68)ـ محمد العالي عرعار: زمن القلب ، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، الجزائر 1986.
(69)ـ محمد علي اليوسفي: شمس القراميد، دار الجنوب، ط1، تونس 1997.
(70)ـ محمود طرشونة: المعجزة، ط1، تونس 1996.
(71)ـ مويلم العروسي: مدارج الليلة الموعودة، مطابع صومادي، ط1، الدار البيضاء
1993.
(72)ـ ميرال الطحاوي: الباذنجانة الزرقاء، دار شرقيات، ط1، القاهرة 1998.
(73)ـ واسيني الأعرج: ما تبقى من سيرة لخضر حمروش، دار الجرمق، ط1، دمشق 1983.
(74)ـ واسيني الأعرج: نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري، دار الحداثة، ط1، بيروت 1983.
(75)ـ واسيني الأعرج: مصرع أحلام مريم الوديعة، دار الحداثة، ط1، بيروت 1984.
(76)ـ واسيني الأعرج: سيدة المقام: مرثيات اليوم الحزين، دار الجمل، ط1، كولونيا (المانيا) 1995.
(77)ـ واسيني الأعرج: حارسة الظلال أو دونكيشوت في الجزائر، دار الجمل، ط1، كولونيا (ألمانيا) 2000.
(78)ـ ياسين رفاعية: الممر، اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 1978.
(79)ـ ياسين رفاعية: رأس بيروت: دار المتنبي، ط1، لندن 1992.

دايم الحسن 19-10-07 01:21 PM

كل الشكر لشخصك الكريم ... وللطفك المتناهي ...

تقبل تحياتي .. وكل عام وأنت بخير أيها الرائع

park hae in 13-07-09 09:53 PM

رابط لا يعمل

كتاب جماليات وشواغل روائية PDF


الساعة الآن 11:14 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية